الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشاعر الفلسطيني عبدالله عيسى يكتب : أنا النهاية أروي لأبقى

عبدالله عيسى

2015 / 7 / 18
الادب والفن


الشاعر الفلسطيني عبدالله عيسى يكتب :
أنا النهاية ، أروي لأبقى
في رثاء المناضلة نهاية محمد
عبدالله عيسى *
لم نعد ، كلّنا : نحن المائلين على صناديق السلالة حيث رائحة مفاتيح بيوتاتنا القديمة في فلسطين لم تصدأ بعد وحيث ملامح السلالة في الصور لم تذبل بعد فيها ، لتحرس أجسادنا بحلم عودتنا من مجزرة طائشة أو هجرة تربك التاريخ ِو تؤرق الجغرافيا ، لم نعد ، كما كنا تماماً قبل أن يزورنا هذا الموت بكل ذاك الدمار المبين ، نرى ظلّ نهاية محمد صاعداً أدراج إقليم سوريا في قلب مخيم اليرموك ، وهي ترتب على جدرانه ، وكانت أيضاً في الطريق إليه في الحواري والأزقة التي ضاقت كالأرض كاملة على حلم الفلسطيني ، صور الشهداء وتتفقد ابتساماتهم ونظراتهم وأسماءهم واحداً واحداً : خالد نزال ، عمر القاسم ، وآخرون جميلون في مرايا الذاكرة . ولم تقل لأحد منّا أن الفسحة التي بقيت ، ككسرة سماء تطل على عتمة السجن ، بين الشهيدين تليق بها تماماً ، لنتفقد نحن ابتسامتها ونظرتها في مرايا ذاكرتنا وهي تروي لنذكر :
أنا نهاية . أصغر شقيق وشقيقتين ، لأب يشبه جدنا الكنعاني الذي وحّد الآلهة باسم الإله " إبل " لتكنى به ملائكة مثل جبرائيل واسرافيل وعزرائيل ، وشعباً مثل " اسرائيل " خرج من تلموده القديم بوصايا رب الجند مدججاً بالحقد المقدس ليقترف بنا التقتيل والتشريد ، وأمٌ ، سليلة أمنا الكنعانية تعلم حكمة شعبها للنحل كي يصنع العسل ، وللشعوب المجاورة صناعة السفن والصباغة ، ِو للبداوى فن تربية المواشي .
على أرضهما تزوجا ، ذاك العامل القويّ كسورعكا القادم من لوبيا في الجليل ، وتلك البسيطة كماء طبريا حيث عاشت .
أشبه بقطرتي مطر توحدا ، قبل أن يأتي العابرون الجدد ويفسدوا حلمهما بمنع الأمم من الانقراض بتعليمها فن غناء الميجنا والدبكة والتطريز ونشيد شعبهما الطويل كحنين بحارة فينيقيين انتسبوا لبطولة الرواية الفلسطينية .
لم أجئ إلا لأحلم كي أعود .
أنا نهاية . حملتتي أمي في بطنها ، على امتداد درب آلامها الطويل ، ككل أعضاء السلالة الفلسطينية ، مذ رمى العابرون حقائبهم على أسرّتنا التي هجرونا منها مؤولين بغريزة القتل المقدس ، من طبريا إلى بيت جبيل جنوب لبنان حيث ولدتني ، لا كما ينبغي أن تلد الأمهات . وحملتتي ، لا كما ينبغي أن يُحمل الأطفال في المهد ، من صيدا إلى الشام ، وصُرة لجوئها على ظهرها ، فيما يعتصم بجسدها الماضي إلى غده اللاجئ في بلاد غريبة أخوتي عادل واعتدال ووداد .
لم يكن لي وطن لأقصّ عليه مفردات طفولتي ، ككل أطفال الأرض ، إلا ما تسرد ذاكرة السلالة ، في مكان ما في أرضٍ ما ، كان يمكن أن يكون مَنْسياً لولا حلولنا فيه، نحن الأحياء الذين نبقى نحلم كي نعود سمّوه مخيماً ، وسمٌونا ، لنظل قابضين على جمرة الحلم بالحياة كي نعود ، لاجئين .
ولأنني ما أزال أحلم ، أروي سيرتي تلك في مرايا عودتي المنقوصة إلى وطني المنقوص ما يزال في الضفة الغربية ، بالعودة كاملة إلى وطني كاملاً من غير سوء :
جيء بي ، وأسرتي التي التحمت بعائلات فلسطينيات لاجئات من أرجاء فلسطين الممتدة ، إلى حيٌ ، أقلّ من مخيم وأوسع من مقبرة جماعية ، على مقربة من طلعة الشيخ محي الدين بن عربي ، ألماً على ألمٍ ، وفقراً على فقرٍ ، لتضيق الأرض بما اتسعت على أجسادنا المكلومة بالحنين إلى الوطن الأم وحلم العودة إليه .
أنا تلك الصبية ، بملامحي السمراء كاملة الأوصاف واسمي واضحاً كحزن نبي غريب في أهله ، ألمّ ، بذراعي ّ الذين لم يبلغا بعد الرابعة عشر ، أقراني في المدرسة ، حولي لنردد النشيد الذي كان عالياً على قاماتنا الصغيرة " تحيا الوحدة الناصرية " بين سوريا ومصر ، وكنا قد ظنناها بوحي حلمنا ، طريق عودة إلى فلسطين .
وأنا تلك التي تصطحبني أمي برفقة الأمهات الفلسطينيات الأخريات لانتقاء الهندباء والخبيزة والمشمش والجوز ، وتشيّعني للعمل مبكراً ، بعد وفاة الأب مصطفى محمد المبكرة ، في شركة الكونسروة في شارع بغداد الدمشقي ، لسدّ أفواه حوصلاتنا الجائعة ، ثم فيما بعد للالتحاق بالعمال في معمل سيرونيكس لتجميع التليفزيونات ، ولم يكن أحدها في بيتنا ، لدرء عبء نفقات تحصيلي العلمي في كلية الحقوق عمن سواي .
وأنا تلك نهاية طالبة البكالوريا في ثانوية التجهيز التي يركض ظلها برسالة من جورج حبش المتحفي في شارع بغداد ، وقد أخفيتُها في نطاقي ، إلى رفاقه المناضلين التاصريين في حركة القوميين العرب المتخفيين مثله عن أنوف المخبرين وعيون العسس في باب توما .
لم يرَ أحد ، مثلي ، ظلي ذاك مرتعشاً في مدرسة البنات الأولى في الميسات ، أعلى " المزرعة " وأسفل الشيخ " محي الدين " ، والحرب على سوريا في سوريا تدخل الأمكنة والقرى لتفسد الحياة فيها . وأنا أعلق مجلة الحائط بخطوط ممهورة بألوان العلم الفلسطيني ، وأناصر ، بالفكرة التي تعلو على جسارة الروح وحنكة الصوت كي لا يعرفه المخبرون ِو يقتادونه ألى عتمة السجون ، الفكر الوحدوي الناصري ، وأفكار ساطع الحصري وعبد الرحمن كواكبي القومية التحررية آنذاك ، والأدب السوفيتي كروايات الحرب العالمية العظمى ، والأم ، وعشرة أيام هزت العالم ، وسواها .
وكنتُ أروي كي أَذكّرَ أن الفلسطيني الذي ما يزال يدقٌ الخزان يبقى يهزّ العالم ببطولة تراجيدياه ، ويخيل لي أن على جون ريد الذي هزٌ العالم بتأملاته في شعلة ثورة أكتوبر أن يأتي إلى مخيماتنا في الشتات أو بيوتنا الصامدة بأهلها تحت الإحتلال ليؤسطر الملحمة الفلسطينية ، وأن الأمّ ، أي أم فلسطينية ، تكتب أسطورتها الخالدة ، كتلك الأم الذي أرّخ لحكايتها غوركي في روايته .
وأنا ، أسوة بجدتنا الكنعانية التي حرست بفائض صبرها وفيض حكمتها حلم شعبها ، لا أكتفي بتعليم الرياضيات في مدرسة فرادة في مخيم سبينة ، فأواصل قصٌ رؤياي على الكواكب والشمس والقمر الساجدين لبطولته ، كما لبطولات مخيمات اليرموك وخان الشيح والنيرب وجرمانا والسيدة زينب والعائدين ودرعا وشقيقاتها ، أن المرأة الفلسطينية حارسة حلم العودة والإستقلال الأبدي ، بالزغرودة والميجنا والدبكة ، أجمل ، ككل أعضاء سلالتها ، في مرايا التاريخ الإنساني من مزامير قاتل شعبها العصريّ .
وكأن ظلي لا يزال هناك في مكتب إقليم الجبهة الديمقراطية ، على مقربة من مقبرة الشهداء ، يقرأ الفاتحة و يحرس غفوتهم ، ويذرع أزقة المخيمات ، بصحبة نساء المخيمات اللواتي صرن امرأة واحدة ، نحض الرجال على البطولة ، ونحيّي على حلم العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة .
كُنتُ أروي في مراياي شيئاً ، فيصاب بئر البيت القديم بالحزن ، مثلي :
وكأنني حسبتُ أن المكان المتسع لصورتي بين الشهداء المبتسمين ، الحالمين ، أبداً مثلي ، سيبقى لي فوق جدران هذه المخيمات التي شئنا أن تصير متاحف بعد عودتنا تروي سيرتنا على الرواة والعصاة والطغاة ، قبل أن يزورها الموت والدمار ويعبثان بحلم الحياة ، وحياة الحلم بالعودة فيها .
وأنا هي ، نهاية محمد ، حاملة ، وحارسة ، حلم العودة إلى الوطن ، لم أتمهّل الأبد الذاهب بي إلى غده ، والعمر ، عمري ، المرفوع على نشيد العودة في درب آلامنا الطويل ، لأعود إلى الجزء الممكن من وطني المحتلّ .
وكأنني عدتُ ، ولم أعد .
ظلالي هناك في مخيمات اللجوء تذكّر بي هنا ، في رام الله ، وعلى مقربة من القدس ، حيث السماء قربية من قلب الرب . الحجارة التي تحتفظ ما تزال برائحة ظلال أمنا الكنعانية التي أشبهها ، لا تشير إلى أثر عابرٍ لأولئك العابرين الذين خرجوا ، بأحفادهم ، من العهد القديم ، ليمحو أسماءنا وأجسادنا المتوحدة أبداً بالمكان المقدس ، وطننا الأصلي .
وكما هناك ، في أزقة المخيمات والبيوتات التي ضاقت على ساكنيها ، حيث أحفظ أسماءهم واحداً واحداً ، وأوصاف شهدائهم واحداً واحداً ، وسيرة أحفادهم واحداً واحداً ، حفظت ، هنا ، ملامح المكان ، وانحناءات طرق البلدات التي تصل أرحام القرى برغبة إلهية ، ومواقف المواصلات العامة ، وأصوات الباعة أيضاً ، وكذا أسماء القرى المدمرة في الوطن كله، والروح البشري الفلسطيني التي ترفعه مع الصلوات لتحرس به تعاليم الرب وأجنحة الملائكة بين طائرات الأعداء العمياء ورصاص المستوطنين المدججين بغريزة القتل المقدس .
وكأن قرية زوجي في الضفة غدت العتبة التي أطل بها على الوطن ، ومن عتباتها يبدأ العالم .
وكأن الآل : الأم والأخوة والآخوات وأبنائهم وأحفادهم الذين ينوفون على المائتين أوراق مخضبة بروح الرب في غصن فرعه في السماء ، من شجرة السلالة - العائلة الفلسطينية الكبيرة والتي جذعها متوغل في الأرض - أرضنا هذه ، ليمسك العالم خشية أن يقع .
وأنا نهاية محمد تركت لكم ، فيما تركت ، لتذكروا :
قصاصة ورق رسمت عليها زهرة الدحنون
وكتبت تحتها بماء الروح :
" يداي اللتان لم تعتادا زرع الشوك أبداً سوف تبقيان ترسمان الورد وتخطان الأمل .
للورد والصفاء نذرت نفسي
وللحياة الصادقة وللمحبة تهفو روحي .
سوف تبقى الوردة رمزاً أتوق إليه في كل الأحوال و الأزمان ".
أنا نهاية محمد .
كأني سمعت أحداً منكم يغني ، أو كلكم ، تغنون لي "
مالت مالت مالت
وحق النبي مالت
سمرا يا نهاية
ردي العصبة مالت "
وها أنذا أردها .
* شاعر فلسطيني مقيم في موسكو .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم شقو يضيف مليون جنيه لإيراداته ويصل 57 مليونًا


.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس




.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى