الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سودوكي (رحيل صباح المرعي)

هاشم مطر

2015 / 7 / 20
الادب والفن


لعبةٌ كأيةِ لعبةٍ هي (السدوكي)!(1) لا ليست كأيةِ لعبةٍ هي السدوكي. إنها لعبتُهُ المفضلة. صباحٌ مغرمٌ بالسدوكي!.. فأيُ غرامٍ هذا، ولماذا كلّ هذا الغرام؟.

على دراجةٍ ناريةٍ وقلبٍ ناريٍ في جسدٍ يافعٍ انيقٍ لفحه عطرُ الوردةِ وغمرَهُ نثيثُ البحرِ من خلفِ الصخرةِ (2)، فأمسكَهُ الصيادونَ متلبساً بعشقِ المنظرِ
وصوتِ نوارسَ كانَ يدقُّ بقلبهِ وجعاً لأولِ فراقٍ، وحنيناً يأخذُهُ إلى دفترِ اشعارِهِ
تركَهُ بعهدةِ أمهِ، بأنهُ سيرجعُ بعدَ عامٍ أو أكثرَ بقليلٍ، وحتى قبلَ حلولِ الصيفِ القادمِ، لكنّهُ لا يدري إنهُ صودِرَ من أولِ زيارةٍ للمأبونين.
أوصاها أنْ تختارَ لهما خاتمينِ يليقُ الأولُ بأصبعِ محبوبتهِ، والآخرُ سيحتفظُ بهِ في خزانتِهِ وكأنّهُ يعرفُ إنَّ عمرَ الحبِّ قصيرٌ وإنَّ الأشياءَ الحلوةَ لا تكتملُ كي لا تفقدَ رونقَها، وإنَّ اللوعةَ ستبقى نبضَ الصدرِ حتى (الهوسبك) (3) إنْ كانَ ضرورياً ذلكَ لتطولَ وتبقى. أو حتى قدراً يستعين به على نفسه في أسوءِ حال

استمعت أمهُ في ذاتِ الليلةِ لصوتِ (وديع) (4)، فإذاعةُ بغدادَ تبثُّ الأحزانَ وتعنى بالفقدانِ فحسب. فجاءَ الصوتُ شجياً من بين خوصِ النخلِ ومضمَّخاً برائحةِ القِدرِ وحميسِ اللحمِ الذي يهواهُ

على الله تعود على الله
يا ضايع في ديار الله
من بعدك أنت يا غالي
ما لي أحباب غير الله

استمعَ هو الآخرُ لنفسِ المغنى
وعندما ساورهُ الشكُ أنَّ حبيبتَهُ في العراقِ نستهُ أو أوشكت على ذلكَ بدأت خيوطُ قلبِهِ ترتجفُ على وقعِ الأغنيةِ فأمتثلَ للصبرِوخطَ على شفتيهِ ابتسامتَهُ التي هي ذاتَها التي أتقنَها حتى وإن استعصى عليه رقمُ السدوكي الصعبِ، فالارقامُ بلهاءُ كأجنحةِ الحمامِ الزاجلِ تغادرُ مسرعةً بأي اتجاه. وهي كجنحِ الظلامِ تخبئُ تحتَها الأسرارُ والأقدارُ.
كان وقتها يمسكُ بأولِ رقمٍ من الأحجيةِ، ربما مستخيراً طالعَهُ الذي أوهمَهُ أنَّ مربَّعَ أرقامِ السدوكي ستكتملُ بومضةِ عينٍ وأنَّ الحياةَ أمامَ ناظريهِ ستتدفقُ كفجرٍ سحريٍ فأفاقٍ على جبران وفيروز:

هل تَخذت الغاب مثلي منزلاً دون القصور
فتتبّعت السواقي وتسلّقت الصخور
هل تحمّمت بعطر وتنشّفت بنور
وشربت الفجر خمراً في كؤوس من أثير

ركنَ دراجتَهُ الناريةَ على حائطٍ في (الروشه) وغادرَ ولمْ يأخذْ معهُ سوى الأرقامِ التي سيحاولُ سفحَها على الجدولِ ، أعني جدولَ أرقامِ السدوكي، فكانت ضربةُ حظٍ؛ حظٍ أوفرَ، ربما، أو أسوءَ، لا يهمُ فاللعبةُ لعبةٌ، والأرقامُ تدورُ وتدورُ كما الروليت، والرقمُ صعبٌ لا يأتي فتمسّك أكثرَ بالأرقامِ وبالحظِ الأوفرِ. جمعَ الأرقامَ التسعةَ فكانت 45 استبشرَ خيراً فمجموعهُ كذلكَ 9 والتسعةُ حظهُ وهو رقمُ حياتِهِ، هكذا أخبرني عن سرِّ الأرقامِ الموحشةِ فهي تتقافزُ أمامَ عينيهِ كصافيرِ الحبِّ الذي فقدهُ في يومٍ موحشٍ.

يالللللللللله ما أصعبَ درسَ التشريحِ فعلمُ المنطقِ أسهلُ بكثيرٍ، وأكثرُ من ذلكَ كتمَ السرِّ فنامَ وبينَ يديهِ ورقةِ السدوكي بعدةِ أرقامٍ.. ينامُ ليحلمَ فرقمُ الحظِّ عسيرٌ لا يأتي، منشغلٌ به منذُ سنين.. لكنَّ الاحلامَ لم تأتِ. وما بينَ الغفوةِ والصحوِ يهاتفُ صديقاً أو يشغلُ نفسَهُ بجهازِ العصرِ يرسلُ إيميلاً عن همِّ الفقراءِ أو يسخرُ من بعضِ الشعراءِ... من تندرَ منهم على هم الغرباءِ كحالتِهِ فصباح لا يملكُ غيرَ سودوكي محبوسٍ بين القضبانِ ولا يقوى على فكِّ الرقمِ الأولِ منهُ وغريمهُ رقمُ المليونِ عندهُ شربةُ ماء.

ابتسمَ لنفسهِ وقال:
اسمعْ: ما فائدةُ الحياةِ من دونِ رقمٍ للحظِّ، وحظك مطمورٌ في خابيةٍ من خمرٍ مختومةٍ من زمنِ سليمانَ يحرسُها ماردٌ فلا تفكها سوى حبيبتك، وعلى وجهِ التحديدِ قبلةٌ من شفتيها وشفتيها لا تملكُها لأنها بيعت فوقَ البيعةِ في سوق النخاسين في وطنٍ أصبحَ عدةَ أوطان.
فتحَ عينيهِ قليلاً تأملَ أصدقاءَهُ واحداً واحداً واللحنُ برأسهِ فمدَّ يدَهُ وقالَ اعطوني إياهُ، واذهبوا يا رفاقي أريدُ أن أنام

أعطني الناي وغنِّ وانْسَ داءً ودواء
إنّما الناس سطور كُتبت لكن بماء

نامَ صباح وغادرَ من دونِ ضجيج

(1) سودوكي: احجية رقمية معروفة كان الصديق الراحل صباح المرعي يمارسها
(2) الصخرة : صخرة الروشة في بيروت حيث قضى الراحل جزء من حياته هناك
(3) الهوسبك : مكان للعناية بالمرضى المأيوس من شفائهم، بمعنى انتظارهم الموت
(4) وديع : الفنان اللبناني الكبير وديع الصافي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - وِفاءاً حتى النفس الأخير
حاتم جعفر ( 2015 / 7 / 20 - 13:34 )
الى روح الراحل صباح المرعي: ثمة للحديث بقية لكنك لم تكمل السهرة.
عزائي لك ياهاشم لقد كنت لصباح نِعمَ الصديق.

اخر الافلام

.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟


.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا




.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس