الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أحفاد بدون أجداد

احمد مصارع

2005 / 10 / 12
الادب والفن


كان عمي الحاج صورة مصغرة عن نظام الحكم في بلادنا, فحيث يجتمع الناس في البلدة الكبيرة , حتى وإن كان اللقاء هذه المرة في خيمة عزاء ، وكعادته حين يجلس وسط الخيمة متكئاً على الوسائد العالية فلا هو متمدد للنوم ولا هو معتدل للجلوس ففي رأيه أن على المرء أن يتكلم بشكل معقول ، بينما من غير المهم سؤاله عن كيفية وأصول الجلوس في المناسبات العامة والخاصة ؟ فالصواب هو للكلام وليس للجسم المتهالك , وتعريف الصواب عنده كل تدبير ينمي الثروة التي حاز عليها بطريقة التأميم وادعاء العمل , حين كنا جميعا صغارا , ولكن وجدنا أنفسنا ورثة تقسيم ليس فيه عدالة , فقد حاز على معظم وسائل الإنتاج ,ولم يترك لأخوته الأصغر سوى النزر اليسير , وصار بطلا للمناسبات , وهو يلعب دور مؤسسة التامين التي لا تدفع إلا عند حلول المصائب , ومن النادر أن يحرك ميزانية في الأفراح , وشعاره المقيت : اتعب تلعب .
كان عمي صامتاً طوال الوقت إلا إذا تكلم أحدنا ، حينذاك يستنفر ليربط الأحصنة وراء العربة ، ليظهر أمام الملأ أن صمته الطويل يخفي قوة من الحزم .
شبان القرية يبدأ ون في بسط سُفَرْ الطعام ، تبادل الحاضرون مواقعهم ليجلسوا متقابلين في صفين متوازيين .
كان محمد يعطي أوامره للشبان –ضع هذا هنا ... إلى هنا .. هناك –
عدل حين رفع صوته الجهوري ليلطف من زحمة الحركة وأصوات الطرقعة للملاعق والصحون .
- هل تدري يا عمي الحاج ؟
لم يكلف نفسه عناء الرد , طالما لا يوجد كلام له معنى حسب رأيه , فمن الخسارة أن يضيع صوته هباء ,
- علي .....أي علي ؟.
– علينَا ....
- ما به هذه المرة ؟
رفع محمد نبرة صوته ليسمع الحاضرين منطق عمي الرزين :
– إنه في المستشفى الآن .
عمي جازما وبكل برود :
- والله ما به كل شيء .
أحد الأحفاد بلهجة مستنكرة , والجميع يسمع :
– هل يوجد أحد يذهب إلى المستشفى ولا يكون مريضاً ! ؟
عمي يتكلم آمراً :
- قلت لكم والله ما به أي شيء . .فمن كثر أكله للحم بالعجين .... اللحم بالعجين هو مرضه .
وتدخل احد الأحفاد شارحا :- يقول الطبيب أن لديه أعراض احتشاء في العضلة القلبية .
شيء من الرفض الخفي , رد عمي مستفزا , وقد عدل من طريقة جلوسه .
– أنتم عناد يون .... وهاأنتم تقولون حشو ! حشو بطن ؟ من أين ؟ من حشو بطنه باللحم العجين ,قولوا له أن يرحم نفسه من أكل اللحم بالعجين .
تبادل حشد المعزين نظرات الاستغراب , وحانت لحظة الطعام , فاعتدل عمي بكل روية , ليعلن لحظة انطلاق السباق نحو الأكل , ولكن محمد لم يتوقف عن التصعيد , ولكن هذه المرة :
– سالم لم يخرج من المستشفى بعد ! ؟
بديهيات عمي لا تنتهي فقال باستهجان :
– من؟! سالمنا ؟! ... أنه لا يشبع من الحلويات ، يفطر حلويات ويتغذى حلويات ويتعشى ... !
أحد الأحفاد موضحا :–انه يعاني من ارتفاع الضغط السكري ...
كل خيوط الأحاديث يقبض عمي الحاج عليها ولا يدعها تفلت من بين يديه أبداً وهاهو يهتف متفاخراً لاكتشافه الأسباب الدقيقة :- هاهو البرهان . من السكر ... ! من أين يأتي السكر ! ؟ أليس من الحلويات ؟.... أربع وعشرين ساعة يأكل حلويات ماذا جرى لعقله ... ؟ ليل نهار لا يتعب ولا يمل .!.
كانت أصوات المعارضة خافتة ، توشوش لتختلط مع الجلبة التي يحدثها تناول الطعام ، وكنت قد جلست بجوار جدي الشيخ ، كان سمعه ثقيلاً ولكنني شرحت له ما يقوله عمي عن أحفاده بعد أن ضممت يديَّ حوله أذنه على شكل بوق وهزَّ رأسه مبتسماً, وفي صرخة استعجاب :
:- هو يقول هذا الشيء ؟!
جدي هو رئيس الهيئة الدستورية في قريتنا الصغيرة وقد تعطل دورها مع شيخوخته ، وسمعه الثقيل وقد كف منذ زمن بعيد عن التدخل لحماية الحريات العامة لأحفاده , فتوقف الجميع مندهشا من ثورة جدي وصرخته رغم شيخوخته : أنت تقول هذا الكلام ( يوال جاسم ) ؟ أنسيت نفسك ؟ لم أرى احد أبدا في مثل شراهتك , أنت كالبئر تبلع ولا تكف عن طلب المزيد , كل من هنا يتكلم وأنت تسكت بالمرة .
ساد المكان صمت , فالجميع يصغي السمع لجدي , وهو يجهد نفسه في رفع صوته مستنكرا :
- يا وال جاسم , أنت أما كنت في الصباح الباكر تفطر بالمحشـــي ، والظهر تتغدى كباب مشوي .. حتى عند النوم ... كنت لا تنام إلا بعد أن تلقف ثريد البامياء ... انظر إلى نفسك اليوم , والى حالتك كيف صرت .
كان عمي فيما مضى عملاقاً بحق ، حتى قيل في وصفه ، أنه يدخل من الباب بصعوبة ، واليوم صار طويلاً نحيلاً معوج الرقبة ، نظرة خفيف لا يبصر على البعد , فكان جدي يقصد أن تحوله من شـــــــخص ضخم الجثة إلى هيكل طويل ونحيف كان سببه كثرة أكل اللحم ....
سكت عمي قليلاً وعلى مضض حتى يتناساه جدي وهذا ما حدث حين التفت إلينا معلقاً ومستفزاً البعض وأنا في أول القائمة .
- أنتم فارغون من الأشغال . ابحثوا عن أعمال تنفعكم خير لكم من المعارضة على الفراغ .
أحدهم – فارغوا أشغال نعم .... بما ذا نشتغل إذا لم تكن هناك أشغال ؟
عمي – الذي يريد عمل شيء والله لا أحد يمنعه .
أحدهم – يا عمي لم تتركونا( نشتغل) شيئاً ، فالقوانين .... قوانينكم يا عمي لا تترك أحداً يعمل شيئاً, وكأننا نعيش حياة عسكرية لا تنتهي أبدا .
أحدهم – حين لا يدعوننا نشتغل فهم كمن يدعونا لأن نشتغل بهم .
عمي متوعداً – اليوم كلوا وأشربوا وغداً سنرى ماهي أخرتكم ؟
أطال الله في عمر جدي ، لقد نفق فرسه العربي الأصيل منذ عشرين سنة فشاخت معه روح الفروسية والشجاعة وبفقده لجدتي رمز العاطفة الوطنية لكل الأحفاد والآن بعد أن شاخ واعتزل العمل السياسي لم يبق لنا سوى أن ندعو الله أن يعوضننا عنهم ، حقاً , فلا بحبوحة في عيش الأحفاد , مالم يكبروا في كنف الأجداد .
احمد مصارع
الرقه -2005








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهرجان كان السينمائي - عن الفيلم -ألماس خام- للمخرجة الفرنسي


.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية




.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي


.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب




.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?