الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة: لَوْ مُدَّ قليلا في زَمَني... !!

ادريس الواغيش

2015 / 7 / 22
الادب والفن



كنت يومها عاريًا وغريبًا، واحداً ووحيدًا، إذْ مَرَرْتُ مُغمَضَ العَينيْن بخُطى مُتثاقلة نحوَ الشارع الخَطأ، فوجدت نفسي فجأة على الكورنيش وجهًا لوجه أمام نسائم البحر في يوم صيفيّ شديد الحرارة، ولوحة إلكترونية مُبهرة كُتب عليها "مقهى العابر"، أبدع فيها صاحبها فنّاً وكتابة لتكون فعلا مُوحيّة ومُغريّة لدخول العابرين والعابرات من أمثالي.
تذكّرتُ رائحة القهوة ووَسْوَسَت لي بعض الأفكار، فتأبطت جريدتي ككل الناس ثم تحسّست قلمي و دخلتُ على عجل لأدوّنها، وأيضا لأُتناوَل فنجان قهوة وأُريحَ قدميّ من التعب. مَسَحْتُ المكان سريعًا بعينيّ، واتخذت طاولة منعزلة تُطِلُّ على البحر مكانًا لجلستي. وحيداً جلست...، إلا من جريدتي وبضع كتب وضعتها بشكل فوضوي فوق الطاولة، ثم بدأت أنتظر أن يأتيني النادل أو من ينوبُ عنه كعادة كل من يدخل إلى أي مقهى. كان الناسُ ينظرون إليّ بتوجُّس في البداية ثم إلى كُتبي ثانية ويقهقهون فيما يشبه الاستهزاء، و بعضهم يهمُّ بالرجوع لمجرَّد ما يرى الكتب موضوعة أمامي على الطاولة، وكأنها أفاعي سامّة تُخيف الناظرين.
وقفوا ثانية في حركة فجائية وبدأ بعضهم يصفق بحرارة وينظرون إلي وهم يبتسمون، النساء يطلقن زغاريد لم تعتدها أذنيّ وبعض الجميلات من الصّبايا تقدمن لي قطع من الحلوى كعربون محبة وتقدير.
قُمت بعدّة قراءات وتحليلات لهذه الضجة الفجائية، وهلوسة بعض العابرين والعابرات فلم أفهم شيئا، إلى أن همس أحدهم في أذني:
- أنت كاتب...، أليس كذلك؟
- أجبته بعد تردد وارتباك واضح:
- نعم...، سمعتهم يقولون عني ذلك أو هكذا أعتقد، ما الخطب في ذلك؟!
ثم جاء عندي رجل يحمل سلسلة من ذهب في عنقه وقرطين ملوّنين في أذنيه، اعتقدت جازما أنه مالك المكان أو مسيّر المقهى أو "الملهى" أو أحد أبنائه وحفدته، وإن لم يكن ذلك كله فهو قطعاً واحد من أقربائه على الأقل، لأن أوامره كانت تُنفّذ على الفور بشكل لا يقبل التأجيل عند العاملين والمستخدمين، واحترامه واضح وبيّن لدى روّاد المكان من الجنسين بكل أعمارهم.
قال لي في لطف شديد مع شيء من الحزم:
- عذرًا مُونْسْيُو...، المكان مُخَصّص لقراءة الكُتب العامة!! (وانصرف)
استغربت فعلا من كلامه، إذ لم أكن أعرف من قبل معنى أن تكون الكتب خاصة وعامة خارج المقررات الدراسية وفي مكان عام!؟، قبل أن يهمس لي أحدُ الزبائن:
- لا تستعجل يا صاحبي...، إنهم يقدمون هنا كتبًا مع الخدمة، وسيأتيك النادل بلائحة الكتب كي تَنتقي منها كتابك المفضل...!
طال انتظاري...، لدرجة أحسَسْت معها بأن التَّماطُل في خدمتي كان مقصودًا من النادل أو بإيعاز من "مولْ الشيّ" أوأن لعبة ما وراء الحكاية فقصدته. عند الرجوع وجدت أحد الأشخاص قد ألقى نظرة على الجريدة بدون إذن منّي ثم بدأ يفكّك بما يملك من عزم وهمّة عُقَدَ كلماتها المُسهمة، أخذتها منه بلطف مذكّرًا إيّاه بأنها تعود لملكيّتي وليس لملكيّة المقهى، كما اسْتَسلم هو دون مقاومة لرغبتي في لامبالاة وشُرود واضحين ودُون ردّ أو حتى اعتذار منه، و كنت أنا لَحْظتها أيضًا في غِنىً عن أي اعتذار.
قال لي وهو يُحملق في جهات غير محدّدة، كأنه يبحث عن شيء:
- هكذا يتعاملون مع الكُتّاب والمثقفين أو قُلْ المُنفردين مثلنا، هم ينتظرون منّا أن نجتمع في طاولة واحدة مثلا ليربحوا أخرى، باشْ يكُونُو هُمَا على خاطْرْهُمْ، هه... مع مْنْ...!!
لم أهتم بما قاله، فتعامَلت معه على أنني لم أسمع منه شيئا، بالرغم من أنني مُتأكد من أن ما قاله هي الحقيقة ذاتها.
لكن كان عليّ أن أسأل ثانية لأتأكد:
- والكُتب...؟ هل يقدمون فعلا كتبًا لرُوّاد هذا الفضاء كما همس لي أحدهم قبل قليل؟
- أما عن الكتُب...، فاعذرني لا علم لي، أنا أيضا عابر مثلك، أدخل لهذه المقهى أول مرة!
هل كان عليّ أن أتقدم في العمر قليلا كَيْ أنسى، و يصبح المعنى جائزًا لكل المجازات حتى لو تعكر مزاجي قليلاً، ولأطلب أيضاً ما استطعت من المستحيل، إلى أن أتخلص دفعة واحدة من كل الذكريات التي تؤلمني في الخاصرة؟.
لا أنكر أن المكان أبهرني فعلا بفضائه وخدماته كما لم تفعل معي باقي الأماكن التي دخلتها من قبل...، حين دخلت أول مَرّة. طلبت فنجان قهوة قاسحة بإصرار هذه المرّة، فأتاني بها النادل بعد تأخُّر في الخدمة، وبتثاقل واضح على غير عادة حركاته السريعة وهو يحمل بين شفتيه ابتسامة محنّطة، تفاجَأت بأنه يحمل مع فنجاة القهوة قنّينة ماء معدني وكتاباَ، لكن لما اطّلعت على الثمن المدوّن على ورقة في حجم صغير وجدته خياليًّا!.
- قنّينة الماء، نعم...، لكن لِمَ الكتاب؟؟ أولا..، أنا لم أطلب كتابًا، فكل العام وأنا أقرأ...، والآن جاء دوري لأرتاح قليلا من القراءة، ثم لي كُتبي ثانيًا... !!
- جودة الخدمات هنا تتطلب منا ذلك، لأن زبائننا ليسوا من عوام الناس!
- بهذا المعنى...، انزعوا يافطة المقهى القزحية من المدخل إذن، واستبدلوها بأخرى تدل على خُصوصيّة المكان!!
لم يجب على قولي بشيء، فتأكدت من أنه لم يفهم شيئا مما قصدته بكلامي. لكنني تداركت الأمر حين تذكرت ما قاله لي صاحب القُرْطَين، وأضفت قائلا أيضا:
- جميل أن تكون الكتب من ضمن خدمات المقهى، لكن على عوام الناس وليس عليّ، الكتّاب من أمثالي ليسوا مُلزمين بأداء ثمن القراءة أو يُفرض عليهم قراءة كُتُبٌ بذاتها، لأنهم يقرؤون ويكتبون على مدار السنة !!.
هل يجوز لي أن أكون بدوري "كائنا مغرورا" يكتب الشعر والنّثر، وبالتالي قد لا أكون من عوام الناس، أو هكذا اعتقدت في البداية وأنا أمسح المكان ببصري والناس يقرؤون ويقلبون بشغف وحبّ شديدين صفحات القصص والدّواوين، حتى بدأت أنايَ تتمدّد بشكل كيميائي كالزّئبق على مقاسات مختلفة، قبل أن أقتنع أخيرا بأنني كائن بشري يَجْنَحُ نحو الخطيئة كأيُّها الناس، فاطمأنت نفسي إلى ما تراه عينيّ ليس إلى ما يفكر فيه عقلي. ثم إن الاعتراف ضمنيًّا بانتمائي ل" عوام الناس" - وإن جاء متأخرًا- أعاد إليّ شيئًا من الطمأنينة النّفسيّة، وبساطة كنت على وشك أن أفقدها.
انتبهت أخيرا وبشكل مؤكد إلى أنني من عوام الناس بشكل لا لبس فيه، عكس ما كنت أعتقد في البداية، أو كما قد يعتقد الكثيرون من الناس مثلي، فتركت الكتب التي معي جانبا وأخذت الكتاب الذي وصلني مع الخدمة ثم بدأت أقرأ احتراما للقانون الداخلي المعمول به في المقهى. كل الناس من الصغار والكبار، من الذكور والإناث يقرؤون، فساورني شك مرة أخرى في أنني قد أكون دخلت عن غير قصد إلى المكان الخطأ!.
الحديث عن" قنّينة" الماء المعدني و"كتاب الخدمة" لم تكن في الحقيقة إلا مَدخلا للحديث عن أشياء أخرى، لكن نظرة واحدة من أحد المشرفين على سَيْر الخدمات جعلته يقفل الحوار الصّامت معي على الفور. بعد جولة تفكيرية بسيطة، تأكدت أخيرا وبشكل جازم من أن هناك قومًا منَّا يطلبون أكثر من الماء وفنجان قهوة ويستغنون عن خدمة الكتاب والكتاب معًا، وفي أماكن أخرى محسوبة على العوام وأكثر سخونة في الأثمان فسكتُّ...، لأن عوام الناس "فيهم وفيهم" قد يقرؤون ولا يفعلون!. تراجعت في آخر لحظة و نادَيت على "البيغ" كما يفعل رُوّاد المقهى، لما حضر نظرت إليه بحزم وصحت فيه:
- الغارسون يقول بأن هذا المكان ليس لعوام الناس. إن كانت هذه مقهى فهي مكان عام، و أنا واحد من العوام يا سيدي، فلِمَ لم يأتيني الكتاب المُفضل كباقي الناس؟؟!.
- اسمع...، لنا لائحة طويلة وعريضة من عناوين الكتب نختارها وفق قناعاتنا وبعناية كبيرة، لكن رجاء في المرة القادمة اختر مكانًا غير عام!!
تمعنت في عضلاته فوجدتها لا تقبل المزاح، وأنصتُّ لكلامه كأني لم أسمع منه شيئا فوجدته لا يقبل التأويل، وانتبهت إلى عينيه المحمرّتين فرأيت الشرّ يتطاير منهما فجلست ساكتًا وهدأت. بدأت أراقب المشهد السّوريالي وأعدُّ الثواني بعيدا عمَّا أراه، واقع عبثيّ بعيد حتى عن الواقعية نفسها. هل أكذب عينيّ أم الواقع؟. سكونٌ يتواطأ مع المكان حين تصمت الموسيقى الصاخبة التي لا تصلح لمصاحبة القراءة، والزبائن لا يأبهون بشيء، حتى أنني لم أفهم لغة الصمت والإشارات وخسارة اللحظات، فقد ألفت أذناي موسيقى أخرى مُختلفة تصاحب عادة طقوس القراءة.
توقف الجميع عن القراءة، وبدأ فصل آخر من فصول مسرحية أخرى: اختلاس لنظرات، سرقات قُبَل على عَجَل، كانت بعض الأفكار تلحُّ علي كي أغادر المكان، وأخرى تلح علي بالبقاء لأستمتع أكثر بأداء شخوص بارعين في التمثيل. تفحصت وجوه البعض ممن يلجون المكان، كانت حقائب النساء وأحذية الرجال الرياضية مُستعملة في الغالب وإن حَمَلت علامات تجارية مشهورة، يتركون في غدوهم ورواحهم روائح عطور باريسيّة قوية، وبما أن ذاكرتي فقدت بعضًا من قوتها وأنفي فقد هو الآخر القدرة على الشمّ، إلا أنني تذكرت بصعوبة بالغة مرحلةً كنت أمضغ فيها قبضة النعناع كاملة لأترك الرائحة في فمي أو أضع بعضًا من الحَبق أو "العشبة الملكية" (كما كان يسميها عمّي الفقيه)في جيبي لأُبعد رائحة السجائر أو الكيف من خياشيمي، تفاديا لأيّ صدام مع أبي رحمه الله.
الزبائن يتركون بقشيشا مبالغًا فيه للنادل أو النادلة ويُوصون بجديد الكتب وربما بأشياء أخرى إضافية قد تكون غير الكتب، رغم أن مظهرهم لا يوحي بأيّ غنى واضح ولا مستوى ثقافي بيّن، مع ذلك يُصرّون على التظاهر بسلوك أرستقراطي مُفبرك ومُبتذل!.
يتقاطر أغنياء حقيقيون على المكان ويغادره مثقفون آخرون مزيّفون: نسوة عجائز، مراهقون وشابّات، أطفال وصبايا، وأنا قابعُ في مكاني أتابع مشاهد من مسرحية رتيبة، وأتساءل لم أُحرم وحدي من خدمة الكتاب المُفضّل؟!.
بدأت تتمدد الأسئلة في مخيلتي، وأتابع انكسارات متوالية لأمواج بداخلي وأخرى على الصخور المسنّنة قُبالتي بعيداً قليلا.
كان الهواء مُثقلا بالرطوبة، ورائحة التبغ مثخنة بهواء البحر. النادل يضع طبق مشوي أمام زبون سمين الجثة، وأتساءل في جنون كيف يمكن لفضاء القراءة أن يتّسِع في نفس الوقت لمُتعة البطن. تتمدد أصابع الجوع لبطني الفارغ تمامًا إلا من أسئلة تتكوم تباعًا بداخله، تبدأ في نهش أمْعائي وترتعش الحواس الخمس مع السّادسة دفعة واحدة بداخلي، فتنغلق النوافذ الطبيعية بيني وبين العالم الخارجي.
حركات تنوء بالعهر، وَشْوَشات في أذن النادلة وأخرى في أذن النادل، قُبُلات على السريع وأخرى تشمئزُّ لها النفوس، ولا أحد يهتم بأحد. يغادر الجميع وتبقى الكتب حزينة ووحيدة دون قراءة فوق الطاولات!.
كائنًا خُرافيًّا أصبحت في مكان يضج بكل المفارقات: جَمال خُرافي، قبحٌ مستفزّ، أمّية بكل المقاسات، غنىً لا يُقاوَم، كبرياء مُفتعل، دناءة في الأخلاق، سلوك أرستقراطي، شفاه معطوبة، ابتسامات تُذيب الملح وتشعل كل الشّهَوات، وأخرى تبحث عن زبائن محتملين، تحايل على فضاء جميل لمُمارسة كل أفعال القُبح، وأديب يكتب قِصّة واقعية في فضاء عبثي يعج بقلة الأدب!!.
تتمدد الدقائق طويلا وتنمحي حروف العبارات من مخيلتي، كنت قد اخترتُ عن غير قصد المكان الخطأ في الوقت الخطأ، وكان عليّ أن أستهلك جلوسًا ثمن فنجان قهوة دفعته مضاعفًا، في مكان يملأ العين بزرقة البحر وجمال أمواجه الزّرقاء، تبيَّضُّ كلما كسّرتها الصُّخور لتتشكّل من جديد، ويتشكّل معها حلم جديد في عالم وحيد أعيشه بداخلي.
لكن مع كل ذلك العبث والجمال الطبيعي في فضاء سوريالي، لو مدّ في عمري قليلا...، سأعرف جيّدًا أين أضع رجليّ في المرة القادمة!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الناقد الفني أسامة ألفا: من يعيش علاقة سعيدة بشكل حقيقي لن ي


.. صباح العربية | الفنان الدكتور عبدالله رشاد.. ضيف صباح العربي




.. ضحية جديدة لحرب التجويع في غزة.. استشهاد الطفل -عزام الشاعر-


.. الناقد الفني أسامة ألفا: العلاقات بين النجوم والمشاهير قد تف




.. الناقد الفني أسامة ألفا يفسر وجود الشائعات حول علاقة بيلنغها