الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وجهة نظر - العسكر والأفنديات في مصر

ياسين المصري

2015 / 7 / 24
مواضيع وابحاث سياسية


من المعروف أن المصريين مغرمين جداً بالألقاب ولا يستطيعون أبداً الاستغناء عن تداولها ومناداة بعضهم البعض بأسمائهم المجردة مثل بقية شعوب الأرض، وفي العقود القليلة الماضية اخترعوا ألقاباً جديدة نسمعها منهم في الشارع وأماكن العمل والشارع ووسائل المواصلات وفي كل مكان. ولكن رغم كثرتها، يبقى منها لقبان سائدان ومنتشران على المستوى العام هما "الباشا والدكتور"، الأول تحتكره لنفسها طبقة العسكر المسيطرة على كل مرافق الحياة منذ مايزيد على 60 عام، والثاني تختص به النخبة الثقافية المصطنعة حديثا والتي نبتت في صحراء الفكر الديني نتيجة للتغيرات الراديكالية العشوائية المفروضة على المجتمع.

ربما يعرف من عاش حقبة الخمسينات من القرن الماضي أن العسكر تنكروا لمهنتهم العسكرية، وأغراهم رونق السلطة والثروة والجاه والنفوذ، فقفذوا إلى سدة الحكم في مصر عام 1952. وكانت مصر في ذلك الوقت من أغنى بلاد الأرض ماديا ومعنويا (بلا مبالغة). ويعرف أيضا أن العسكر بطبيعة تأهيلهم لم تكن لديهم أية فكرة عن العمل السياسي سواء في داخل البلاد أو خارجها، ولذلك إلتزم عبد الناصر في سياسته الداخلية بنهج خيالي وغير مفهوم أطلق عليه إسم "الاشتراكية"، وراح تبعا لتصوره لهذا النهج يقلب الأوضاع السياسية برمتها رأسا على عقب، بضربات عشوائية هنا وهناك، غير محسوبة ولا تمت للعلم بصلة.

قبل استيلاء العسكر على الحكم وعسكرتهم لمفاصل الدولة بكاملها، كان كل شخص و كل شيء يسمى بإسمه، فكان العسكري عسكريا والطبيب طبيبا والدكتور دكتورا والشيخ شيخا والسمكري سمكريا والباشا باشا بالفعل. وكان الاحترام المتبادل هو سيد المواقف جميعها.

ومع انتشار العسكر وحضورهم بقوة وعنف في كل مرافق الدولة ومؤسساتها ألغوا لقب الباشا المتداول مدنيا بين النخبة السياسية والإقطاعية وأخذوه لأنفسهم، على عكس الطريقة التي كانت تمنح بها الباشوية والبكوية في عصر ملوك أسرة محمد علي، و آخرهم بالطبع الملك الراحل فاروق! فقضوا على الباشوات الحقيقيين وأصبحوا هم السوبر باشوات (أنظر كتاب د. حسين مؤنس - باشوات وسوبر باشوات).

في ذلك الوقت كانت النخبة الثقافية شأنها شأن النخب الأخرى في المجتمع، مازالت نخبة حقيقية متماسكة ومحترمة بشدة وتعرف ماذا تريد لنفسها وللمجتمع. ولا تتمسح أو تعتد بالألقاب، ولكن كي يعطي الحاكم الأوحد لنفسه شرعية شعبية أتاح للمثقفين أن يقفوا بجانبه ويدعموا توجهاته ومغامراته السياسية، فانقسموا على أنفسهم بين مؤيدين يلهثون وراء إرضائه بالرياء والنفاق والكذب وبين صامتين يخافون من بطشه أو لا يبالون بما يدور حولهم، وراحوا يلهون أنفسهم ونفوس الآخرين بأفكار لا جدوى من ورائها. فتقلص تدريجيا أثرهم في تشكيل ثقافة جمعية للمجتمع تتواءم وتنسجم مع متطلبات العصر، ومع ذلك ظل المجتمع يكن لهم كل التقدير والاحترام.

وإمعانا في تقسيم وإضعاف نخبة المثقفين، كان عبد الناصر يبادر بمناسبة أو بدون مناسبة إلى إغداق الأوسمة والنياشين والجوائز والهدايا والمديح لمؤيديه، ويعمل على رفع شأنهم في الدولة. ومحاولة الحد من مكانة المعارضين له رغم صمتهم.

وعندما جاء الرئيس السادات إلى قمة السلطة، وعمد إلى تغيير النهج السياسي الناصري 180 درجة، بدأ المثقفون ينقسمون على أنفسهم مرة أخرى بين مؤيدين يكيلون المديح له ولتوجهاته، وبين معارضين يمطرونه بوابل من النقد. مما جعله يهاجم معارضيه هجوما حادا مصحوبا بالازدراء والتعالى والتهكم، كان يحلو له وصفهم بالأفنديات والأراذل. وكان أول من استخدم الدين بصورة سفيهة ومستفزة ومحرضة حين إتهمهم بأنهم يفطرون في رمضان. وفي أواخر حكمه ضاق بهم صدره فوضعهم جميعا في السجون.

ولأن السادات بطل الحرب والسلام والانفتاح السداح مداح وهو أيضاً الزعيم المؤمن، فقد تفرغ الموالون له للهجوم على المعارضين واتسم هجومهم لهم بالمسخرة والسفه، لأسباب تتعلق بضعف البنية النفسية والعقلية. فبدأت الثقافة الضحلة تأخذ مكانها بثبات في عقول ونفوس النخبة الثقافية وظهرت معالم التنطع والبلطجة والشتائم والاتهامات العشوائية. وحينما دخلنا عصر مبارك المديد، إزدادت تلك الظاهرة، وراحت فوضى الألقاب تعم الشارع المصري.

كما سبق ذكره، إختص ضباط الشرطة والجيش بلقب الباشا، وامتد ليشمل كل من يرتدي البدلة الكاكي، وأصبح لقب الباشمهندس يطلق على أصحاب الورش وبعض الحرفيين المتحذلقين، من "الصنايعية" و"الميكانيكية"، وبَقى "الحلاق" الوحيد الذي لايطلق عليه هذا اللقب من بين أصحاب المهن الحرة!. أما لقب "بيه" فأصبح حكرا على رجال الأعمال وأعضاء المجالس النيابية وكل صاحب حظوة أو سطوة أو مال .

ولكن انتشار لقب "دكتور" بين النخب الثقافية والسياسية وانعدام قيمته في المجتمع يظل ظاهرة جديرة بالدراسة والبحث والتفنيد.

رأينا في العقود الأخيرة كما هائلا من الأشخاص يحملون لقب "دكتور" وقد ظهروا فجأة على كافة المستويات، ورأينا أشكال الكثيرين منهم وتصرفاتهم وأفكارهم لا ترقي لأدنى مستويات هذا اللقب. بل والبعض منهم يتسم بالعبط والسطحية في تفكيره أو البلطجة والانحطاط في سلوكه.

ما هو الأسباب وراء هذه الظاهرة؟!!
هناك أسباب نفسية واجتماعية واقتصادية كثيرة أهمها :
-1 أن جهل الحكام العسكريين بالشؤون السياسية، واستيلاءهم مع ذلك على الحكم وتحكمهم في كافة المرافق والمؤسسات في الدولة من خلال عسكرتها، وتوجيه دفتها نحو تصوراتهم بصورة عشوائية، أصاب التعليم في مصر بالانحطاط والتخلف شأنه في ذلك شأن كافة نواحي الحياة.

-2 من الأخطاء المدمرة التي ارتكبها عبد الناصر تحويل الأزهر إلى جامعة علمية يُدَرَّس فيها علوم الطب والهندسة والزارعة وغيرها من العلوم التطبيقية إلى جانب العلوم الدينية الفقهية، لتخرِّج كل عام أعدادا هائلة من الجهلة العاطلين عن العمل، فيركبون وسائل الإعلام، ويحاولون من خلالها الربط بين العلم والدِّين بأساليب الدجل والخداع. لقد تصحرت الحياة الفكرية ولم تعد تنبت سوي الشوك.

-3 في مجتمع تبلغ فيه نسبة الأمية أعلى مستوياتها بين الدول، وينتشر فيه الجهل ويتفشى يوما بعد يوم كنتيجة حتمية للتغيرات الراديكالية العشوائية، ومع انهيار المنظومة التعليمية وانحطاطها، كان لابد أن يعلو الدجل والخداع على الفكر والمعرفة، ولا بد للدجالين والمخادعين أن تعلو كلمتهم، وتزيد ثروتهم.

-4 احتكار العسكر للقب الباشوية من دون الآخرين، وشعورهم بالتفوق والتميز الطبقي، جعلهم ينظرون باستعلاء للمجتمع بكاملة، بما فيه طبقة المثقفين والمتعلمين الجهلاء الذين تفرخهم كل عام جامعة الأزهر وغيرها من الجامعات التي زاد عددها بشكل لا تحتاجه البلاد.

-5 المثقفون والمتعلمون من جانبهم، نظرا لجهلهم، وكنتيجة حتمية لتدنيهم التعليمي والمعرفي وضعف بنيتهم النفسية والعقلية، لجأوا إلى أعلى الألقاب العلمية بلا علم في محاولة يائسة للوقوف أمام استعلاء العسكر، وإيجاد مكانة ما لدي المجتمع. فوصلوا بالفعل إلى قمة السلطة والنفوذ في البلاد.

-6 في خضم هذا الطوفان الجارف ضاع المثقف الحقيقي أو انزوى في ركن مظلم، ولم يعد يسمع صوته حتى وإن صرخ، ولم يعد أحد يعمل بقوله أو يعتد بفكرة. لقد انفحت الساحة الثقافية على مصراعيها للتفهاء والبلهاء وأصبحت مرتعا خصبا للكذابين والدجالين وتجار الدين ومزيفي الحقائق.

-7 لا شك في أن هذه الظواهر وغيرها تفشت بالمثل وبشكل وبائي في العديد من دول المنطقة وخاصة الدول النفطية المتخلفة أساسا، نظرا للدور المدمر الذي لعبه البترودولار في هذا الشأن، فكان أيضا من الأسباب الحقيقية في ترسيخ هذه الظاهرة في مصر. أصبح الجهل والتخلف عابرا للحدود ومقتحما للسدود بفضل البترودولار.

ونظرًا إلى أن لكل قاعدة استثناءات فإن الحديث هنا يدور حول القاعدة وليس عن الاستثناءات، وهم الذين ما زالوا يحترمون أنفسهم ويحترمون غيرهم فيحظون بالاحترام، ولكن من وراء الكواليس.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - علامات الفشل الثقافي
nasha ( 2015 / 7 / 24 - 01:16 )
الالقاب طريقة مبتكرة للنفاق .
عندما تكثر الالقاب يكثر الفساد والمحسوبية والواسطة (الكوسة).
الالقاب نوع من انواع الرشوة المعنوية .
الالقاب دلالة قوية على وجود خلل اجتماعي .
الالقاب تشبه ارتداء الحجاب والنقاب للظهور بمظهر يرضي المجتمع المريض بالكذب والنفاق.
الالقاب تماماً كالزبيبة والنقاب واللحية ...الخ هي طريقة خبيثة لابتزاز الغير والمجتمع بالكذب والنفاق
تحياتي.

اخر الافلام

.. المكسيك: 100 مليون ناخب يختارون أول رئيسة في تاريخ البلاد


.. فاجأت العروس ونقر أحدها ضيفًا.. طيور بطريق تقتحم حفل زفاف أم




.. إليكم ما نعلمه عن ردود حماس وإسرائيل على الاتفاق المطروح لوق


.. عقبات قد تعترض مسار المقترح الذي أعلن عنه بايدن لوقف الحرب ف




.. حملات الدفاع عن ترامب تتزايد بعد إدانته في قضية شراء الصمت