الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العلوم السياسية الليبية و الفكر الاستراتيجي-تمرين قرائي حول كتاب الاختيار لبريجنسكي-

عزالدين اللواج

2015 / 7 / 24
مواضيع وابحاث سياسية


تدريس الفكر الاستراتيجي في أقسام العلوم السياسية الليبية، بات مطلبا ضروريا ،تفرضه طبيعة التطورات الأكاديمية التي يشهدها ذلك التخصص العلمي ،ومن المؤسف حقا أن لانجد ضمن مواد البكالوريوس أو الماستر في ليبيا ،مادة متخصصة في الفكر الاستراتيجي ،وذلك بالرغم من ان جامعاتنا يوجد بها أقسام علوم سياسية ،تحتوي كفاءات أكاديمية محترمة، على مستوى تدريس مواد حقل العلوم السياسية، وعلى مستوى البحث السياسي ،فعلى سبيل الذكر لاالحصر ،وبدون التركيز على طبيعة التخصص الفرعي ،نعتز كثيرا كباحثين شباب بالجهود التي قدمها ولايزال يقدمها أساتذة أفاضل يتواجدون الآن داخل أو خارج ليبيا ، أساتذة مثل ميلاد الحاراثي الذي يقوم حاليا بالتدريس في بريطانيا،وعلي محمد شمبش وزاهي المغيربي وأمال سليمان العبيدي وصالح السنوسي وعمر العفاس ومالك بوشهيوة وعامر بوضاوية وعمر البرعصي وعبدالله مسعود ومصطفى عبدالله أبو خشيم، وغيرها من الأسماء الليبيةالتي نفتخر بها و التي من بينها أيضا عالم السياسة الليبي علي عبداللطيف بو حميدة ،الذي يترأس حاليا قسم العلوم السياسية في جامعة نيو انجلاند الأمريكية وحسام عبدالمولى دغمان الحاضر الغائب منذ مدة ليست بالوجيزة .
عموما، وعلى ذكر مادة الفكر الاستراتيجي ، كنت محظوظا جدا، عندما درسني تلك المادة في مرحلة الماستر،العلامة الفاضل عادل المساوي،أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس –السويسي ،والذي أذكر أنه كان من ضمن متطلبات النجاح في تلك المادة تقديم عرض في أحد كتب الفكر الاستراتيجي ،وقد كان موضوع عرضي آنذاك ،حول كتاب الاختيار لبريجنسكي ، و مضمون الورقة ، الذي رأيت استجلاؤها هنا ، من باب الإشارة لأهمية أجواء تدريس مادة الفكر الاستراتيجي ، في تنمية التراكم المعرفي للطالب الليبي، وليس من باب تسليط الضوء على مقرر المادة ومفرداتها، كان على النحو التالي :-
يستمد كتاب “الاختيار-السيطرة على العالم أم قيادة العالم ؟" أهميته من كونه يتضمن متصور ابستمولوجي صادر عن أحد أبرز باحثي ومفكري هذا العصر، ونقصد بذلك مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق “زبغينو بريجنسكي” ،والذي يعمل حاليا كخبير في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية وأستاذا للسياسة الخارجية بجامعة جونز هوبكنز، كما أن ذلك الكتاب لا يزال حتى وقتنا الراهن أحد أبرز كتابات الفكر الاستراتيجي المعاصر وبالأخص ما يتعلق بنمط الكتابات التي تقع ضمن دائرة هيمنة العمق الميتااستراتيجي على مضمونها، أي هيمنة متصور فلسفي ما على رؤاها ومقترحاتها الإستراتيجية، فالكتاب الذي صدرت ترجمته العربية في عام 2004م وهو نفس العام الذي صدر فيه الكتاب في الولايات المتحدة، يتضمن آراء واستخلاصات فكرية هامة ترتبط بجملة المستجدات التي تمر بها الولايات المتحدة الأمريكية منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وتحديدا خلال المرحلة التي تفاعلت فيها إدارة بوش الابن مع معطيات ذلك الحدث المفصلي في التاريخ السياسي الأمريكي المعاصر.
كتاب بريجنسكي الصادر في نسخة من الحجم الكبير احتوى على مقدمة ومبحثين رئيسيين وخاتمة، تضمنتها صفحات تربو عن ال250 صفحة.
فيما يلي سردا لأهم مضامينة ومحاولة لاستكناه أهم ابعاده الابستمو لوجية:-
-1-
هواجس بريجنسكية
يوطئ بريجنسكي لكتاب الاختيار بمقدمة يشرح من خلالها أهم المبررات والدوافع التي كانت وراء إصدار الكتاب، والذي يصفه في تلك المقدمة بأنه كتاب ذي صبغتين معرفيتين هما الصبغة التنبؤية والصبغة التوجهية، كما أنه ينطلق من فرضية رئيسة مفادها “أن الثورة الحديثة في التكنولوجيا المتقدمة، وخصوصا في مجال الاتصالات، تعزز بشكل مطرد بروز مجتمع عالمي ذي مصالح مشتركة متزايدة محوره أمريكا، لكن العزلة الذاتية المحتملة للقوة العظمى الوحيدة قد يغرق العالم في فوضى متصاعدة، يزيد من شرورها انتشار أسلحة الدمار الشامل، وبما أن قدر أمريكا بالنظر إلى الأدوار المتناقضة التي تلعبها على الصعيد العالمي، أن تكون العامل المساعد اما في مجتمع عالمي، واما السبب في فوضى عالمية، فعلى الأمريكيين تقع المسؤولية التاريخية الفريدة في تحديد أي الأمرين سيتحقق، وخيارنا يكمن بين الهيمنة على العالم وبين قيادته"”.
وعن مضمون الكتاب يشير بريجنسكي في مقدمته إلى أنه سلط الضوء عبر مبحثيه ومطالبه الخمسة على العديد من القضايا التي تتطلب إجابة شاملة من الناحية الابستمولوجية، قضايا اختزلها بريجنسكي في الهواجس الاستفهامية التالية: (2)
*ما هي التهديدات الرئيسية التي تواجه أمريكا؟
*هل يحق لأمريكا الحصول على أمن أكثر من الأمم الأخرى بالنظر إلى مكانتها المهيمنة؟
*كيف ينبغي أن تواجه أمريكا التهديدات المهلكة المحتملة التي تصدر بشكل متزايد عن أعداء ضعفاء لا عن منافسين أقوياء؟
*هل تستطيع أمريكا أن تدير بشكل بناء علاقتها على المدى البعيد بالعالم الإسلامي، الذي ينظر العديد من أبنائه البالغ عددهم 1.2 مليار نسمة إلى أمريكا بشكل متزايد على أنها العدو اللدود؟
*هل تستطيع أمريكا بشكل حاسم حل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني بالنظر إلى مطالب الشعبين المتداخلة والمشروعة في آن واحد بالأرض ذاتها؟
*ماذا يلزم لإيجاد استقرار سياسي في بلاد البلقان العالمية الجديدة المتقلبة والواقعة على الحافة الجنوبية لأوراسيا الوسطى؟
* *هل تستطيع أمريكا تأسيس شراكة حقيقية مع أوروبا، بالنظر إلى تقدم أوروبا البطيء، نحو الوحدة السياسية وتزايد قوتها الاقتصادية؟
*هل يمكن ضم روسيا، إلى إطار أطلسي تقوده أمريكا؟
*ما الدور الذي يمكن أن تمارسه أمريكا في منطقة الشرق الأقصى، بالنظر إلى استمرار اعتماد اليابان وان بشكل متردد على الولايات المتحدة،فضلا عن تنامي قوتها العسكرية بهدوء، وبالنظر إلى تنامي القوة الصينية؟
*ما مدى احتمال أن تؤدي العولمة إلى ولادة مذهب معاكس أو تحالف معارض متماسك يواجه أمريكا؟
*هل ستصبح الديموغرافيا والهجرة تهديدين جديدين للاستقرار العالمي؟
*هل تتوافق ثقافة أمريكا مع المسؤولية الامبريالية بالضرورة؟
*كيف ينبغي ان تستجيب أمريكا إلى بروز عدم المساواة في القضايا الإنسانية، وهي مسألة تعجل الثورة العلمية الحالية في ظهورها وتزيد العولمة من حدتها؟
*هل تتوافق الديمقراطية الأمريكية مع دور الهيمنة السياسية، مهما كان الحرص على تمويه تلك الهيمنة؟ وكيف ستؤثر الضرورات الأمنية لذلك الدور الخاص على الحقوق المدنية التقليدية؟
-2-
الهيمنة الأمريكية والأمن العالمي
هذا هو العنوان الذي وسَّم به المؤلف القسم الأول من كتابه، عنوان حاول من خلاله بريجنسكي السبر في أهم دلالات وملامح العلاقة الارتباطية التي تجمع متغير الهيمنة الأمريكية بمتغير الأمن العالمي، وذلك في ضوء ثلاثة معضلات رئيسية هي (معضلة الأمن القومي- معضلة الاضطراب الجديد- معضلة إدارة التحالف"."
لا يفوت على بريجنسكي إبان تقديمه لهذا القسم أن يوظف نرجسيته القيمية من أجل إقناع المتلقي بأن زوال الهيمنة الأمريكية لن ينطوي “في نهاية الأمر على إعادة تعددية الأقطاب إلى القوة الرئيسية المعروفة التي سيطرت على شؤون العالم في القرنين الأخيرين، كما أنه لن يؤدي إلى سلطة مهيمنة أخرى تحل محل الولايات المتحدة بحيازتها تفوقا سياسيا وعسكريا واقتصاديا وتكنولوجيا وثقافيا واجتماعيا متشابها على الصعيد العالمي، فالقوى المألوفة التي سادت في القرن الماضي أضعف وأكثر إعياء من تتولى الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة حاليا.)
بعد ذلك نجده يعود في سطور أخرى ليؤكد على أن عدم وجود بديل آني للهيمنة الأمريكية لا يعني عدم وجود تحديات تحول دون استقرار وتوازن تلك الهيمنة، تحديات يتناولها بريجنسكي من خلال نمطين رئيسيين هما نمط المعضلات الداخلية التي اختصرها في معضلة الأمن القومي، ونمط المعضلات الخارجية التي حددها في معضلتي الاضطراب العالمي الجديد وكيفية إدارة التحالف الذي سيواجه تلك التحديات الإستراتيجية.
وعلى مستوى التحديات الداخلية يدشن بريجنسكي تحليله الابستمولوجي لمعضلة الأمن القومي الأمريكي بالإشارة إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية يجب أن تأخذ بعين اعتبارها جيدا البعد الاتصالي للعولمة، سيما وأن تلك المتغيرات باتت تترك بصماتها الواضحة على مظلة الحماية التقليدية للدول، يقول بريجنسكي:- "التكنولوجيا هي الأداة العظيمة المعادلة لقابلية تعرض المجتمع للخطر، فقد أدى التضاؤل الثوري للمسافات الذي أحدثته وسائل الاتصال الحديثة، والقفزة النوعية في الشعاع التدميري لوسائل القتل المتعمد إلى اختراق مظلة الحماية التقليدية للدولة، زد على ذلك ان الأسلحة أخذت تصبح الآن خارج النطاق القومي من حيث امتلاكها والمدى الذي يمكنها الوصول إليه، بل ان اللاعبين الفاعلين من غير الدول، مثل المنظمات الإرهابية السرية، أخذوا يحسنون تدريجيا من طرق حصولهم على أسلحة أكثر تدميرا، وما هي إلا مسألة وقت قبل ان يحدث عمل إرهابي متطور تكنولوجيا في مكان ما من العالم".
ترى كيف سيحدث ذلك العمل الإرهابي المتطور الذي يعتقد بريجنسكي بأنه سيكون من السذاجة تجاهل حدوثه إبان بناء أي إستراتيجية للأمن القومي الأمريكي؟.
بريجنسكي من خلال سطور هذا القسم الأول من كتابه يجيب على السؤال الآنف من خلال التأكيد بأن ذلك الحدث الكارثي لن يحدث مرة واحدة أو بشكل مفاجئ، بل ستسبقه سيناريوهات عنفوية متوقعة تتراوح بين العمليات التقليدية والعمليات المبتكرة، وهذه السيناريوهات هي:-

1- حرب إستراتيجية مدمرة ومركزية، لا تزال ممكنة في هذه المرحلة وان تكن بعيدة الاحتمال، بين أمريكا وروسيا أو بين أمريكا والصين أو بين الصين وروسيا.
2-حروب إقليمية كبيرة تشن بواسطة أسلحة فتاكة للغاية، بين الهند وباكستان أو بين إسرائيل وإيران على سبيل المثال..
3- اثنية تقسيمية بين الدول المتعددة الاثنيات ومنها على سبيل الذكر لا الحصر اندونيسيا والهند.
4-أنماط متنوعة ومتباينة لحركات التحرر الوطني للمضطهدين ضد هيمنة عرقية موجودة أو مزعومة، كما هو الحال بالنسبة إلى طبقة الفلاحين الهنود في أمريكا اللاتينية، أو الشيشان في روسيا، أو فلسطين ضد إسرائيل.
5- شن هجمات عنيفة من قبل دول ضعيفة نجحت في تصنيع أسلحة دمار شامل وفي إيجاد طرق إيصالها إلى جيرانها أو يشنها مجهولون على الولايات المتحدة.
6-هجمات إرهابية متزايدة الشدة تشنها مجموعات سرية ضد أهداف إستراتيجية، مكررة ما حصل في الولايات المتحدة في 11 سبتمبر 2001م.
عموما يتوقع بريجنسكي أيضا إمكانية حدوث انفجار نووي يحدث فجأة على متن سفينة غير معروفة تربض في أحد الموانئ الأمريكية، أو هجوم الكتروني شامل على منظومات الطاقة ونظم الاتصالات والخطوط
الجوية يحدث شللا فعليا في النسيج المجتمعي الأمريكي، لذلك نجده يحرص على ضرورة تبني الاحتياطات الإستراتيجية التالية:-
1- وجود استخبارات نشطة ووقائية، تأخذ في الاعتبار كافة الأخطار الإستراتيجية المألوفة وغير المألوفة.
2- ضرورة أن يستوعب صانع القرار ومتخذ القرار السياسي الأميركي أن الحرب على الإرهاب تفرض على الجميع استجلاء مقولة كلاوزفيتز الشهيرة التي يقول فيها “إن الحرب هي استمرار للسياسة بوسيلة أخرى”، وبالتالي فان مواجهة الإرهاب تتطلب سياقا استراتيجيا لا يعمل فقط على استئصال ذلك الإرهاب، بل يعمل أيضا على استئصال الظروف التي أدت لظهوره.
ومن الملاحظة الأخيرة يبدأ بريجنسكي في تناول جملة التحديات الخارجية التي تقف عقبة كؤود أمام استمرار الهيمنة الأمريكية، تحديات يختزلها كما أشرنا آنفا في معضلتي الإرهاب العالمي الجديد وإدارة التحالف.
فعلى صعيد معضلة الاضطراب العالمي الجديد يشير بريجنسكي إلى أن ما يصفه بالإسلام المضطرب وهو يقصد هنا اضطراب الأوضاع الداخلية داخل البلدان الإسلامية، يمثل تحديا مربكا لأمريكا، وبالأخص عندما يتعلق الأمر بالدكتاتورية والفساد وانعدام البنية العلمانية التي تأخذ في الاعتبار مختلف تجليات وأبعاد الخصوصية الدينية الإسلامية، يقول بريجنسكي:-
"تشكل الأسباب مثل الفساد والتوزيع غير العادل للثروة مصادر رئيسية أيضا لعدم الاستقرار السياسي، حتى ولو بدا الدين الحافز الأول للاضطراب السياسي، فبعض البلاد الإسلامية تعاني من فقر مدقع، مثل أفغانستان التي يقل فيها إجمالي الناتج القومي عن 200 دولار لكل فرد، وباكستان التي تقارب فيها 500 دولار، في حين يتجاوز عتبة ال2000 دولار للفرد في الكويت المجاورة، كما أن الاختلافات في مستويات المعيشة ليست بارزة بين البلدان فحسب، ولكن ضمن نخب البلدان أيضا، حيث لا تخجل بعض النخب من سعيها وراء تكديس الثروة والاستمتاع بها في السر غالبا برغم الحرمان الاجتماعي السائد، كما أن الوقائع المشاهدة بكثرة للإثراء الشخصي للحكام في العديد من البلدان الإسلامية أضفت درجة من الإثارة على تماثل ممارسة السلطة السياسية مع تكديس الثروة".
أسئلة عديدة تؤرق بريجنسكي إبان تأمله في مسألة إدارة التحالف العالمي المناهض للإرهاب، أسئلة ترتبط في مجملها بمدى تقبل الاتحاد الأوروبي والصين وروسيا واليابان للإدارة الأمريكية لذلك التحالف، الذي يؤكد بريجنسكي على أن أخطر تحدي يواجهه يكمن في شبح بروز حركة جامعة أوروبية وأخرى آسيوية معاديتين لأمريكا، لأن ذلك وفق متصور بريجنسكي سيؤدي إلى هدم أي تطور عالمي حدث على صعيد توازن الأمن العالمي المساند للهيمنة الأمريكية، كما أنه قد يخرج أمريكا من أوراسيا.
-3-
الهيمنة الأمريكية والصالح العام
بعد أن يعلن عن وفاة الدبلوماسية التقليدية وولادة مجتمع عالمي غير حكومي فرضته تفاعلات وتداعيات ظاهرة العولمة، يبدأ بريجنسكي في القسم الثاني من كتابه بتحليل أهم المضامين والأبعاد العلائقية التي تنطوي
عليها فرضية الهيمنة الأمريكية والصالح العام، وذلك من خلال مطلبين رئيسيين هما المطلب المتعلق بمناقشة معضلات العولمة، والمطلب المتعلق بمناقشة المعضلات الديمقراطية المهيمنة…
السؤال المركزي الذي يصدر من خلاله بريجنسكي حواره النظري مع معضلات العولمة ومع التحديات التي تفرضها معضلات الديمقراطية المهيمنة، يتمحور في الأساس حول ما إذا كانت أمريكا قادرة في عصر العولمة على الوصول إلى توازن استراتيجي بين الهيمنة السيادية وبين مجتمع عالمي بدائي وناشئ؟ وما إذا ان بإمكان أمريكا أيضا أن تحل ذلك التناقض الذي يرافق معادلة قيمتها الديمقراطية ومستلزمات القوة العالمية.
وبغية الإجابة على السؤال الآنف يرى بريجنسكي أهمية استجلاء التعريف المفيد الذي قدمه البرفسور تشارلز دولان للعولمة، حيث عرفها هذا الأخير على أنها "تفاعل تكنولوجيات المعلومات والاقتصاد العالمي، ويشار إليها بدلالة كثافة الصفقات الدولية ومداها وحجمها وقيمتها في مجالات المعلوماتية والمالية والتجارية والإدارية على نطاق العالم، وتمثل الزيادة الحادة في معدل هذه الصفقات خلال العقد الأخير، وبالتالي مستواها، أكبر مظهر يمكن قياسه لعملية العولمة".
انطلاقا من التعريف الآنف يتناول بريجنسكي أهم الملامح والتجليات الايجابية للعولمة، وهي ملامح وتجليات ايجابية يختزلها بريجنسكي في النزوع الأمريكي للعولمة والمسمى في العديد من الأدبيات ب”الأمركة”، وبريجنسكي إذ يرى في ذلك عاملا ايجابيا، فإنه بحس استراتيجي مرموق ينبه لخطورة تداعيات أمركة العالم على الولايات المتحدة الأمريكية، سيما وأن العولمة باتت “تحتضن معاداة شديدة للأمركة، ويرجع ذلك إلى حد بعيد إلى التصور الشائع بأن العولمة ليست وعاء للتغيير الاجتماعي الاقتصادي وحسب، بل للتجانس الثقافي والسيطرة السياسية أيضا، وبالتالي فإن مذهب العولمة يولد نقيضتها، حيث يخدم انصهار العولمة مع الأمركة كحافز لظهور عقيدة معاكسة معادية في آن واحد للعالمية ومعارضة في الواقع لتفوق الولايات المتحدة السياسي"، ويحذر بريجنسكي إبان تناوله لمعضلات العولمة من خطورة وتداعيات ظاهرة الترميز المعاكس والتي يعرفها بالقول:-)
"الترميز المعاكس ظاهرة معروفة في عالم السياسة، تبرز هذه الظاهرة عندما يتبنى فريق ضعيف “ظاهريا على الأقل” قيم ومبادئ اللعبة التي يمارسها القوي، ويستخدمها بعد ذلك ضد القوي".
هكذا يستمر بريجنسكي في سرد هواجسه من تحولات العولمة وتداعيات الهيمنة الأمريكية وعلى الصالح العام الأمريكي، مبرزا أهمية تبني أمريكا في سياق مواجهتها لتلك التحولات والتداعيات لمبدأ التماسك الاستراتيجي الداخلي، وهو تماسك يتطلب من وجهة نظره استحداث جهاز استراتيجي مركزي للتخطيط في الحكومة الأمريكية، فبريجنسكي يرى أن تنامي تورط أمريكا في الشؤون العالمية بات يتطلب مثل ذلك النمط من الأجهزة الإستراتيجية، والجهاز المقترح من قبل بريجنسكي هو جهاز تكون وظيفته الرئيسية، تحسين الحالة العامة عبر إيجاد علاقة تشاورية رسمية بين القادة رفيعي المستوى للجان الكونغرس التي تعالج الشؤون الخارجية، وبين الجهاز الذي يفترض أن يكون تابعا لمجلس الأمن القومي، فبالإمكان والكلام هنا لبريجنسكي “أن تخدم مجموعة تخطيط استراتيجي مركزية واضحة في البيت الأبيض، يرأسها موظف رسمي رفيع المستوى يرفع إليه المخططون رفيعو المستوى في وزارتي الخارجية والدفاع تقريرهم، كمنتدى للاستشارات
الدورية مع القادة المناسبين من مجلس الشيوخ في ما يتعلق بالخطط بعيدة المدى، والمشكلات الجديدة البارزة، والمبادرات المطروحة، وهذا ما قد يخفف بعض الشيء من الخطر الحالي المتمثل في الانزلاق التدريجي للقوة العالمية شبه الامبريالية بعيدا عن المراقبة الشعبية الديمقراطية"
عموما يصل بريجنسكي في نهاية كتابه إلى استخلاص استراتيجي مفاده أن الاختيار الذي يجب أن تراهن عليه أمريكا هو قيادة العالم وليس السيطرة عليه، فالهيمنة مجرد ومضة تاريخية عابرة سيكون مصيرها عاجلا أم آجلا الأفول، وبريجنسكي إذ يصل إلى ذلك الاستخلاص، فانه يضع جملة من الاشتراطات التي من المفترض أن ترافق الرهان الأمريكي على خيار قيادة العالم، وهذه الاشتراطات هي:-
1-العمل المشترك المنسجم والمنظم والهادف لإشاعة الاستقرار في منطقة البلقان.
2-تفعيل آليات حلف الناتو وجعله حلفا أوروبيا-أمريكيا، وليس حلفا ذي صبغة دولتية قومية، أي أن يستمر على سياق ملمحه الذي يختزله في تحالف مجموعة من الدول القومية.
3-مراعاة أن القيادة الحكيمة للشؤون العالمية تتطلب التالي:-:
أ- سياسة حماية ذاتية عقلانية ومتوازنة من أجل تخفيف حدة المخاطر الأكثر رجحانا والأكثر تهديدا للمجتمع الأمريكي، وبدون ان تثير هوسا جنونيا بالأمن القومي.
ب- جهدا مستمرا ومطولا لتهدئة المناطق الأكثر تفجرا في العالم، والتي تولد معظم مشاعر العدائية العاطفية التي تغذي العنف.
ج- جهدا مستمرا من أجل إشراك الأجزاء الأكثر حيوية وحميمية من العالم في إطار عمل مشترك، لاحتواء المصادر المحتملة لأكبر الأخطار والتخلص منها، إذا أمكن ذلك.
د-الاعتراف بالعولمة بوصفها أكثر من مجرد فرصة لتعزيز التجارة وزيادة الأرباح، بل ظاهرة ذات بعد أخلاقي أعمق.
هـ-تربية ثقافية سياسية محلية تستوعب المسؤوليات المعقدة في التكامل والاندماج العالميين.
-4-
خمسة أبعاد وراء سؤال بريجنسكي
ختاما...
رغم سقوطه في دكتاتورية اللحظة القيمية، ورغم ملاحظتنا على المقاربة الأمنية التي اعتمدها، يظل بريجنسكي مفكرا استراتيجيا كبيرا، لعب ولا يزال يلعب دورا هاما في إثراء حقل الفكر الاستراتيجي المعاصر..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اجتياح رفح.. هل هي عملية محدودة؟


.. اعتراض القبة الحديدية صواريخ فوق سديروت بغلاف غزة




.. الولايات المتحدة تعزز قواتها البحرية لمواجهة الأخطار المحدقة


.. قوات الاحتلال تدمر منشآت مدنية في عين أيوب قرب راس كركر غرب




.. جون كيربي: نعمل حاليا على مراجعة رد حماس على الصفقة ونناقشه