الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللغة أم العنف؟

فلاح رحيم

2015 / 7 / 24
الارهاب, الحرب والسلام


من البديهيات الشائعة المكرسة في خطاب الصواب السياسي القول إن اللغة والتحاور اللغوي هما بديل العنف. وقد كتبت جين ـ ماري مولر لحساب اليونسكو إفادة جاء فيها: "الكلام هو أساس التواصل الاجتماعي وبنيته، وهو يتصف بخاصية نبذ العنف أيضاً." ولأن الإنسان "حيوان ناطق" فإن نبذ العنف لابد وأن يكون صفة متأصلة في طبيعته إذ لا يعد العنف، بحسب مولر، إلا تشويهاً جذرياً للسجية الإنسانية الناطقة. مفاد الجدال هنا أن الظروف السياسية والاجتماعية الطارئة هي التي تسيء إلى الطبيعة المسالمة للغة وتخرق رمزيتها التي تضمن التواصل والتفاهم.
في كتاب سلافوي جيجيك، الفيلسوف السلوفيني المعروف، "العنف" (الصادر عن بيكادور، 2008) استدراك مثير على هذه البديهية يستحق التأمل. يتساءل جيجيك: "ماذا لو أن البشر يتفوقون على الحيوانات في قدرتهم على ممارسة العنف لامتلاكهم القدرة على الكلام تحديداً؟" وهو يتوسع في هذه الفكرة ويجادل لتأكيدها اعتماداً على عدة مقدمات نظرية وفلسفية. أولها أن اللغة تدس الشيء الذي تصفه في حقل دلالي غريب عنه، خارجي من حيث الجوهر. عندما نطلق على الذهب تسميته فنحن إنما نسلخ المعدن البراق الجميل عن وجوده المستقل لنحشره في أحلام الثروة والقوة والنقاء الروحي وما إلى ذلك، وهذه كلها لا تتصل بالواقع المباشر لمعدن الذهب. وبالرغم من أن علم اللغة عزل الدلالة الحرفية للكلمة denotation (أي معناها القاموسي دون إيحاءات سياقية) عن الدلالة الايحائية أو المصاحبة connotation (أي ما توحي به من معان طارئة) فإن ملاحظة جيجيك تنبهنا إلى حقيقة أن هذين النمطين من الدلالة لا ينفصمان على مستوى الخطاب (أي اللغة وقد دخلت سياقاتها الاستعمالية المختلفة).
ولأن جيجيك مختص بفكر جاك لاكان ونظرياته النفسية اللغوية فإنه يستخدم مفهوم لاكان عن "الدال الأعلى" Master-signifier ليدعم اعتراضه على مولر. وهو مفهوم يشير به لاكان إلى أن كل تواصل بين الذوات المختلفة مهما اتخذ شكل المساواة التامة لابد أن ينطوي على "دال أعلى" يفرض على عملية التواصل قراراته بطريقة "لاعقلانية" عنيفة. وهذه الحقيقة يدعمها سياسياً ونستون تشرتشل بقوله إن القيادة تعني الشخص الذي يتدخل في نهاية جدالات طويلة وتنافر في الآراء وصخب ليقول كلمته الفصل، وإن الحياة السياسية في دولة ذات سيادة لن تستقيم بدون وجود مثل هذه القيادة. وإذا عدنا إلى الفلسفة فإن عمانوئيل ليفيناس هو الآخر أكدّ اختلال التناسب في البينية الذاتية وأن في كل تواصل تفاوتاً في صلاحيات المتحاورين وقدراتهم.
إذا كان التفاوت كامناً في وجود الدال الأعلى على المستوى اللغوي فإن هذه الحقيقة تهدد بمخاطر عنفية وخيمة. أهمها ما أشار إليه سيمون ويل من أن الأفراد يسعون إلى القوة لكي لا يقعوا تحت سطوة الآخرين. إلا أنهم في سعيهم إلى الهيمنة عليهم، قد يجتازون الحدود الفاصلة بين الدفاع والهجوم إذا لم يتوخوا الحذر، لذا لن يتحقق التعالي على التنافس العنيف بين الكائنات البشرية إلا إذا وضع البشر حدوداً تمنع رغباتهم من الانطلاق دون رادع. وهذه الحدود تتمثل سياسياً في القوانين الدستورية والدولة الديمقراطية. لكن هذه الغاية المثالية تواجه عقبة كبيرة عندما تكون الرغبة المقيدة بقوانين هذا العالم الأرضي مطروحة لغوياً بوصفها رغبة تتضمن اللامتناهي المطلق. لنتذكر أن اللغة هي الوسيلة الوحيدة التي تأخذ رغباتنا الدنيوية إلى ما وراء الأطر النسبية عند الاختلاف وتحولها إلى "رغبة تحتوي اللامتناهي" فترفعها إلى مستوى توق مطلق لا يمكن اشباعه أبداً. من المؤكد أن ما يتوصل إليه جيجيك هنا خطير وجدير بالتأمل، ذلك أنه يعني أن الخير البشري، الخير النابع من الروح الذي يعلو على الخير الطبيعي هو ما يمثل الأصل في ظاهرة العنف.
يواصل جيجيك دفاعه عن فكرة العنف المتأصل في اللغة فيجادل بأن ما يجعلني أعيش في عالم مختلف عن الذي يعيش فيه جاري برغم التقارب المكاني بيننا إنما هو اللغة. عندما يحتج المحرومون على ما يتعرضون له من استغلال لا يكون احتجاجهم على الواقع البسيط كما هو، ولكن على تجربتهم لورطة العيش في هذا الواقع التي جعلتها اللغة ذات معنى. يقول جيجيك: "لا يكون الواقع بحد ذاته، في وجوده الغبي، ثقيلاً لا يُحتمل، إنما هي اللغة ورمزيتها التي تجعله كذلك." (ص. 69) لذلك فهو يدعونا إذا ما رأينا مجموعة من المتظاهرين تحرق وتدمر ما يقع أمامها إلى أن نقرأ ما تحمل من لافتات.
القراءة التي يقدمها جيجيك لمفهوم "الجوهر" لدى مارتن هيدغر توضح الطريقة التي تعمل اللغة بها على توليد جوهر ثابت يتعكز على السياق التاريخي والانكشاف الحقبي للكينونة، وهو ما يسميه "بيت اللغة". ذلك أن عبارة هيدغر Wesen der Sprache لا تعني "جوهر اللغة" بل "قدرة اللغة على صناعة الجوهر" essencing. لهذا يرى هيدغر أن "جوهر العنف لا علاقة له بالعنف الأنطيقي: المعاناة، الحرب، الدمار، الخ؛ بل يكمن جوهر العنف في الطبيعة العنيفة لعملية فرض/إيجاد النمط الجديد لانكشاف الجوهر في الوجود الجماعي نفسه." (ص 70). أي أن هذا العنف الجوهري الناجم عن اللغة هو ما يفتح المجال أمام انفجار العنف الأنطيقي.
يدعونا كل هذا إلى تأمل الدور الخطير الذي تلعبه اللغة في دوامة العنف الدائرة في المنطقة العربية عموماُ وفي العراق على نحو خاص. نحن نؤخذ على غفلة عندما نخلط حق حرية التعبير المشروط بظرفيته وسياقاته لنحوله إلى فرض عنيف لخطاب لانهائي صادر عن هويات مطلقة. علينا الحذر من خلط الهوية بوصفها جوهراً متماسكاً ثابتاً لانهائياً مع الظرفية السياسية والتاريخية لانكشافها. وهو ما يتمثل في حالتنا العراقية الراهنة في فخ اللغة الطائفية التي صارت من بديهيات الخطاب الإعلامي والسياسي والثقافي. علينا أن ننتبه إلى أن تحوطنا تجاه طبيعة اللغة العنفية هو خطوتنا الأولى على المستوى الإعلامي والثقافي نحو التصدي لمأساة العنف ومحنة القطيعة الطائفية في بلادنا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماكرون يستعرض رؤية فرنسا لأوروبا -القوة- قبيل الانتخابات الأ


.. تصعيد غير مسبوق على الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية مع تزايد




.. ذا غارديان.. حشد القوات الإسرائيلية ونصب خيام الإيواء يشير إ


.. الأردن.. حقوقيون يطالبون بالإفراج عن موقوفين شاركوا في احتجا




.. القناة 12 الإسرائيلية: الاتفاق على صفقة جديدة مع حماس قد يؤد