الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين الرمز والإشارة للمرجع التاريخي (قراءة في قصة -عطف الموتى- للقاص فلاح العيساوي)

أثير الغزي

2015 / 7 / 24
الادب والفن


عطف الموتى
مع شروقِ الشَّمسِ تخرجُ على عادتها، تجوبُ الشَّوارع، تتلفّتُ كأنّ فوقَ رأسِها الطَّير، الحذرُ يرافقُها خوفاً من المجهول، شبحُ ذلك الوحشِ الرَّهيبِ يطوفُ في المدينة، يخطِفُ بطونَ الجيَّاع، يعصرُها حدُّ التَّلوي والاكتواء، ربّما تدوسُ فوقََ شظايا الزُّجاجِ المتناثرةِ قرْبَ حاوياتِ النِّفايات؛ أو تجرحُ يديها عند البحثِ عمَّا يصلحُ أنْ يكونَ طعامَ لأيتامها الأربعة.
هذا ما تعرّضتْ له في الأيَّامِ الماضيةِ رغمَ الحذرِ والحيطة، فهي في سباقٍ مع القططِ والكلابِ السائبة، من يسبقُ الآخرَ ليفوزَ بلقمةِ تصاحبُها الأوساخ.
تنفضُ التُّرابَ عنها وكأنَّها جوهرةٌ ثمينةٌ رماها بيتُ منْ لا عهدَ له بالجوعِ والتَّشرِّد، تضعُ لهم الخوان؛ يلتفّونَ حولَه بلهفةٍ تمتدُّ أيديهم لتلتهمَ بسرعةٍ ما جنتْهُ في رحلتِها النَّهاريّة، ينامون والجوعُ لا يزال طعمُه في أفواهِهم ليحلموا بمستقبلٍ ألوانُه معتِمة، غطّتْ هي في سُباتٍ عميقٍ، أنبثقّ ضوءٌ على أثرِهِ سمعتِ البابَ يطرق، أسرعتْ إليه، خلفَه يقفُ رجلٌ اخترقَ حجبَ التَّأريخ، يحملُ من الغذاءِ ما جعلها ترسمُ البسمةَ على وجهِها، أخذ الرَّجلُ يسطرُ الأواني ويضعُ عليها أنواعَ الطَّعامِ والشَّرابِ، أسرعتْ إلى أطفالها توقِظُهم أجلستْهم أمامَ المائدة، أخذوا يلتهمونَ بِشَرهٍ من جميعِ الأنواع، يبتسمُ الرَّجلُ وهو يقفُ فوقَ رؤوسِهم ناظراً إليهم بفرح، امتلأتْ بطونُهم حتَّى فاضَ الطَّعامُ والشَّرابُ من أفواهِهم، أخذ يغسلُ أيديَهم ووجوهَهم، أجلسهمْ على فخذيه يمسّدُ على رؤوسِهم.
- هل شبعتم؟.
ضحكوا كأنّهم ملائكةٌ في زمنِ العولمة..
ــ معذرة سيدي نسيتُ أن أسألَكَ منْ تكون.. ومنِ الَّذي أخبرَكَ بحالي وحالِ أطفالي؟.
أشارَ إليها إنَّ الأطفالَ بدأوا ينامون، حنانُه وعطفُه أثارا استغرابَها وفضولَها، أصرّتْ أن يُعرِّفها بنفسه.
ــ أنا منْ يُطعمُ الطَّعام على حبِّهِ مسكيناً ويتيماً وأسيراً.
ــ سيدي الكريم أهلاً بمقدمك.
نهضتْ بسرعةٍ من مكانِها، اعتصرَها الألم.. كانتْ تريدُ تقبيلَ ردائِه وشُكرِه على زيارتِه، عادتْ إلى فراشِها وهي تعيشُ لذةَ الحلمِ السَّعيدِ الَّذي تمنَّتْ أنْ يكونَ حقيقة.
في الصَّباحِ تعالتْ أصواتُ الضَّجيجِ والعويل، تذكرتْ عمودَ خيمتِها الَّذي قضى نحبُه في انفجارِ سيَّارةٍ مفخّخة, توقّفتْ في مكانِ تواجدِ عمّالِ البناء.
ذلك المنزلُ خرجتْ منه بلا عودةٍ لعدمِ قدرتِها على دفعِ مبلغِ الإيجار، أصواتُ الصَّفائحِ المعدنيّةِ كانت تنهارُ واحدةً تِلوَ الأخرى، صياحُ جارتِها صكَّ أُذنيْها وهي تحثُّها على الإسراعِ بالخروجِ من دَّارِ الصَّفائحِ كي لا ينهارُ فوقَ رؤوسِهم.
أنقذَهمُ القدرُ من الموتِ، أصبحوا خارجَ الأكوام, تلكَ الجرّاراتُ الهادمةُ يقودُها جمادٌ بلا أرواح.
جرّتْ ذيولَ الخيباتِ خلفَها مع صغارِها، فارقتِ المأوى الحاسر، جلستْ في خربةٍ تبكي حرقةَ الضَّياعِ في زمنٍ تمنَّتْ فيه كنف علي، أو حتَّى حلم فيه أبو الأيتام،
وظلّتْ تنتظرُ عطفَ الأحياءِ الأمواتِ.
.






ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في قصة (عطف الموتى) للقاص فلاح العيساوي نجد نوع من الاستلاب: استلاب سلبي وأقصد استلاب بالمعنى الخاص، وهو الفقر، وهو الاستلاب الذي تجسد بفلسفة الأمل بحثاً عن المنقذ في العلاج.
غير أننا إذا توخينا دقة أكبر يمكن أن نقسم هذا الاستلاب إلى مستويين: مستوى دلالي ومستوى رمزي، هذا من غير أن تفقد القصة قيمتها الفنية الأساسية وقيمتها التواصلية في كلتا الحالتين.
فبإمكاننا أن نتعامل مع الفقر كفقر حقيقي بإلغاء قيمته الرمزية، ولكنا نستطيع أيضا أن نتعامل معه كرمز لشيء آخر كالحرب أو الاستبداد والتسلط وغياب العدالة، أي نستطيع أن نسقط عليه الرمز الذي نشاء وحسبما تقتضيه اهتماماتنا وهواجسنا وما يستحوذ علينا من أفكار و وقائع مع احترام بنية النص. وهذا من غير أن تفقد قصة (عطف الموتى) قيمتها كقصة ذات أبعاد إنسانية عميقة، بل أنها تعتني أكثر بهذه الطريقة إذ تصبح عملاً قابلاً لعدة تأويلات في أطار أبعادها الإنسانية.
وبذلك يمكن أن تُعتبر تجسيداً لحالة فقر بالمعنى المجتمعي وتصويراً لصراع الإنسان ضد هذا الفقر بكل ما يقتضيه هذا الصراع من أبعاد إنسانية بحثاً عن المنقذ الذي تجسد بشخصية الإمام علي بن أبي طالب (أنا منْ يُطعمُ الطَّعام على حبِّهِ مسكيناً ويتيماً وأسيراً).
ومن هنا يمكن القول اعتمد القاص في بنيته المضمونية على حادثة تاريخية، استطاع استحضارها بعيدا عن الوقوع في شرك الأمانة التاريخية(انبثقَ ضوءٌ على أثرِهِ سمعتِ البابَ يطرق، أسرعتْ إليه، خلفَه يقفُ رجلٌ اخترقَ حجبَ التَّأريخ) ، قريباً من صياغة خطاب سردي يعتمد التكثيف المركز للغة (للحادثة التاريخية خصوصاً)، طارحاً وبشكل جديد قضية المصير الإنساني وجدلية الصراع بين الفقر والموت، ففي حين يصبح الموت هدفاً أساسياً للقضاء على عذابات الجياع، يصبح الفقر قاتلاً
يخطف الأرواح (شبحُ ذلك الوحشِ الرَّهيبِ يطوفُ في المدينة، يخطِفُ بطونَ الجيَّاع، يعصرُها حدُّ التَّلوي والاكتواء)
ويمكن أيضاً اعتبارها مجرد رمز لأي عدو آخر، سواء كان العدو سلطوياً للحاكم الذي تغيب عنده العدالة وفي هذه الحالة تبحث الشخصية داخل النص عمّن يحقق تلك العدالة المفقودة في زمن الخراب.
وإذا كانت تلك القابلية لتعدد التأويلات النابعة من طبيعة الرمز وهي ما يجعل مثل هذه الأعمال أعمالاً غنية، وبالتالي ناجحة، فإن أهم عناصر نجاحها يظل مع ذلك في إنسانيتها، في ارتباطها بالإنسان بمعناه المشخص وليس بمعناه الميتافيزيقي.
إذ أن صراع الإنسان مع الفقر يختلف باختلاف أشكاله وظروفه ووسائله، وبذلك اتكأ العرض السردي للكاتب على نص قرأني وفق الإستراتيجية (المرجعية التاريخية ذات السّمة الدينية) لتأسيس خطاب يرتكز في معطياته الفكرية على الفضاء القرآني القابل للاستنطاق والتشكل في بنية سردية تختزل أنساقاً من التلقي يمكن لها أن تشكل أحد أهم ستراتيجيات الخطاب الإبداعي، قال تعالى: ( ويُطعمون الطعام على حبِّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً ) وإحالتها التي تتفق مع المرجع المتداخل معه في الحاضر وهو (غياب العدالة المجتمعية) في البحث عن تحقيقها.
وإذا ما حاولنا أن نحلل بنية النص وما تعتمده من إشارة نجد أنه لا يغادر فضاء المرجع الذي لازالت تربطه به (أي بالكاتب) وشائج قوية جداً إلى الحد الذي ظلت البنية الحوارية على حالها في الإعداد مضافاً إليها بنية السرد التي جاءت لتخلق زمنين في النص: زمن الواقعة (الحلمِ السَّعيدِ) والثاني استحضار زمن المنقذ، وهذا الانشطار في نظام الزمن دفع الكاتب إلى انتهاج اقصر الطرق للتعبير، وهو الاعتماد على تقنية الاسترجاع (الفلاش باك) بحيث أننا نجد ثمّة وحدات زمنية متتابعة من شريط (الآن/ الماضي / الماضي/ الآن)
(ــ معذرة سيدي نسيتُ أن أسألَكَ منْ تكون.. ومنِ الَّذي أخبرَكَ بحالي وحالِ أطفالي؟.
أشارَ إليها إنَّ الأطفالَ بدأوا ينامون، حنانُه وعطفُه أثارا استغرابَها وفضولَها، أصرّتْ أن يُعرِّفها بنفسه.
ــ أنا منْ يُطعمُ الطَّعام على حبِّهِ مسكيناً ويتيماً وأسيراً.
ــ سيدي الكريم أهلاً بمقدمك.)
ويأتي تراصف هذه الوحدات بطريقة تراتبية ذكية لتمتلك الخواص الجدلية التي تمهد لتفجير بنية زمنية تعبر عن أزمة الإنسان المعاصر المحكوم بطوق من الأنظمة الفاشية التي تجرده من حق العيش الكريم (ذلك المنزلُ خرجتْ منه بلا عودةٍ لعدمِ قدرتِها على دفعِ مبلغِ الإيجار، أصواتُ الصَّفائحِ المعدنيّةِ كانت تنهارُ واحدةً تِلوَ الأخرى، صياحُ جارتِها صكَّ أُذنيْها وهي تحثُّها على الإسراعِ بالخروجِ من دَّارِ الصَّفائحِ كي لا ينهارُ فوقَ رؤوسِهم.)
وبذلك نجح الكاتب في استعمال الزمن المركب من خلال القفز على الحاضر للرجوع إلى الماضي بحثاً عن القدوة الذي ينتشل الواقع من الخراب، (جلستْ في خربةٍ تبكي حرقةَ الضَّياعِ في زمنٍ تمنَّتْ فيه كنف علي، أو حتَّى حلم فيه أبو الأيتام)
ونستطيع أن نخلص من ذلك إلى أن (الصدمة المرجعية) تحققت بسبب أن روح البحث عن المنقذ تحقق أيضاً، بل رأينا وجها مكتمل الملامح للمرجع التاريخي المتمثل بشخصية الإمام علي بن أبي طالب رمز العدالة، وهذا يعني بالنتيجة أن القراءة الجديدة في النص تحققت مع فعالية التلقي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1


.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا




.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية


.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال




.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي