الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الروائي الساذج والحساس

سعد محمد رحيم

2015 / 7 / 27
الادب والفن


يدرك الروائيون الكبار رهافة ذلك الخيط الفاصل بين ما يحدث في النص الروائي وبين الواقع التاريخي العياني.. بين تجربة الكتابة التي أدواتها اللغة ومُعينها المخيّلة والثقافة والموهبة، وبين الحياة بأفقها المعقّد، المتناقض، الموّار، والمفتوح على الاعتيادي والمفاجئ والجميل والمدهش. ولعل الروائي التركي أورهان باموق الحائز على جائزة نوبل للآداب 2006 هو واحد من أكثر المنشغلين بهذه القضية التي هي ليست نظرية محض، بل لها ارتباطها الوثيق بخبرة الروائي المنكب على إنجاز مشروعه. فإلى جانب حمله لهاجس الإبداع الفني ينتاب الروائي همّ تصوير الوجود الإنساني المتحوّل في لحظات لافتة، متوهجة، وذات معنى.
اختار باموق حين كُلِّف بإلقاء محاضرات تشارلس إليوت نورتون في جامعة هارفرد 2009 موضوعة ( الروائي الساذج والروائي الحساس ) والتي جمعت في كتاب بالعنوان نفسه ( ترجمته ميادة خليل ونشرته دار الجمل/ بيروت 2015 )، وفيه يفرّق بين الروائي الذي يكتب بتلقائية من غير أن تؤرقه كيفية بناء نصه الروائي، وبين الروائي الذي يكتب وفي ذهنه الأسلوب والطريقة والتقنيات. فالفئة الأولى "يكتبون بعفوية، كأنهم يقومون بعمل طبيعي تماماً، بلا وعي للعمليات والحسابات التي ينفِّذونها في رأسهم وإلى حقيقة أنهم يستخدمون العتلات، الفرامل، والأزرار التي زوّدهم بها الأسلوب الروائي". ويصف باموق إحساس الروائي من هذا القبيل بالساذج.. أما الفئة الثانية فهم "القراء والكتّاب المفتونون بتصنع النص وعجزه في تحقيق الواقع، والذين يولون اهتماماً كبيراً للأساليب التي يستخدمونها في كتابة الروايات والطريقة التي تعمل بها عقولنا عندما نقرأ". وهنا ينعت باموق الروائي والقارئ من هذه الفئة بالحسّاس. وخلال محاضراته سيحاول أن يبين لنا ما يواجهه الروائي من أسئلة تتعلق بعمله سواءً تلك التي يطرحها على نفسه، أو تلك التي يتلقاها من القراء، وأولها: "كم من الواقع في هذا الكتاب، وكم من الخيال؟". وحين ننغمر في القراءة، وتجذبنا المشاهد، وتبهرنا الشخصيات، وتثيرنا الأحداث في المتن الحكائي، يتعمق التساؤل: "هل الواقع مثل هذا؟ هل تنسجم الأشياء المرويّة، المنظور، والوصف في الرواية مع ما نعرفه في حياتنا؟".
وإذن عمّ نبحث في الرواية؟ ما الذي قصده الكاتب في المآل الأخير من كتابته لروايته؟ وما الذي يبغيه القارئ وهو يتقصى في تضاريس الرواية ومنعطفاتها، وخفاياها؟ هل ما نفهمه هو ما قصده الكاتب؟ أم أن ما نفهمه لا يهم فيما إذا كان مطابقاً لنوايا الكاتب، ومراميه أو لا؟. وهل الرواية، وهي تتشكل بإبداع الكاتب يمكن أن تخفي ما يخصها باستقلال عن تلك النوايا والمرامي؟. وهنا يتحدث باموق عن لغزٍ ما، عن محورٍ سرّي، عن ذلك الشيء المحجوب الذي لا يظهر دفعة واحدة، وعلينا أن نتعقّب آثاره، كلمة بعد كلمة، وصفحة بعد أخرى، للعثور عليه تحت السطح، ووراء المرئي.. وهذا المحور يتألف بحسب باموق "من كل شيء يصنع الرواية".
هذه الفكرة تجعلنا متنبهين حتى للمسارات والأحداث التي تبدو وكأن لا صلة لها بالخط العام للحدث الروائي. فقد تكون ذات أهمية دلالية تقودنا إلى ذلك اللغز أو المحور، أو تنبئ، في الأقل، عن صلة به، أو إشارة إليه. والرواية التي تحفِّزنا على البحث عن محورها هي أفضل من الرواية التي لا تفعل ذلك. وقيمة الرواية تتجلى على "استحضار الشعور بأن الحياة هي بالتأكيد كما وصفتها الرواية بالضبط. الروايات يجب أن تخاطب أفكارنا الأساسية عن الحياة"، بحسب تعبير باموق. وفي نهاية المطاف، قد تقودنا رحلة الاستكشاف، عبر القراءة، إلى ذلك اللغز/ المحور، أو نعود خائبين.
المحور ليس هو البعد الوحيد في الرواية التي مثلما يراها باموق ذات أبعاد ثلاثة، فهناك أيضاً لمحات من تجارب شخصية، ومعرفة أُكتسبت من خلال الحواس تزيد من فهمنا لأنفسنا والعالم. وهذه الفكرة يستدركها بذلك السؤال الذي يُحاصر به الروائيون من قبل قرّائهم دوماً: "سيد باموق، هل حدث كل هذا معك؟". وإذ يتحدث عن روايته ( متحف البراءة ) وبطلها كمال، يجد نفسه حائراً بين إجابتين متباينتين:
"1ـ لا، أنا لست بطل الرواية كمال".
"2ـ لكن من المستحيل إقناع قرّاء روايتي بأني لست كمال".
ولأن الرواية، على وفق رؤيته؛ النوع الأدبي القادر على التعاطي من غير قلق مع المتناقضات واختلاف وجهات النظر فإن شخصية روايته آنفة الذكر والقصة، كما أراد أن يوحي بطريقة ماكرة لقرائه، حقيقيتان، على الرغم من أنهما نتاج المخيّلة. ليصل إلى تلك القناعة التي مؤداها أن "الإبداع الروائي يستمد قوته من عدم وجود اتفاق مثالي بين الكاتب والقارئ حول فهم الرواية". طالما أن الكاتب والقارئ، كلاهما يعرف ومتفق "على حقيقة أن الروايات ليست خيالية بالكامل، كما أنها ليست حقيقية بالكامل". ويحصل هذا في خضم من المماحكات التي تشبه الاستجواب المدعم بفضول قوي مركّز، على حد وصفه. وإذن أين ينتهي الواقع ويبدأ فعل المخيّلة؛ ذلك هو ما يضمن أحد منابع متعة القارئ.
يرصد باموق تلك المعضلة التي يواجهها الكتّاب اللاغربيون في التعامل مع الممنوعات والتي تحول دون تجرؤهم على تصوير الواقع المعيش فيلجأون إلى أحابيل الكتابة الروائية، مستخدمين "الفكرة المستوردة عن التخيّل الروائي للحديث عن الحقائق التي لا يستطيعون التحدّث عنها علناً ـ بالضبط كما كانت الرواية تُستخدم في الغرب سابقاً". وهنا تؤدي السياسة، في المجتمعات المقهورة، من منظور باموق، دورها في إبداع وجهات نظر أصيلة وأشكال جديدة للرواية.. أما السؤال الذي بقي شغّالاً طوال عمر الرواية الحديثة منذ ثلاثة قرون: "هل حدث كل هذا حقاً معك؟". فإن باموق يجد أنه كان عنصر دفع لتطور الرواية؛ "كان واحداً من القوى الداعمة لفن الرواية وكان سبباً في شهرتها".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع