الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأصطدام 2 - 3

جاسم الحلوائي

2005 / 10 / 13
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


ذكريات

التوترات وحدة الصراعات في مدينة كربلاء كان لها إنعكاساتها السلبية على علاقات المنظمة بالجماهير، فلم تكن تلك العلاقة في نمو مضطرد كما هو الحال بالنسبة للمنظمات الأخرى. فجاء مهرجان أنصار السلام في بداية 1959، عونا لنا، وغير أجواء المدينة لصالحنا. ففي يوم واحد تقاطرت الوفود من كل حدب وصوب على المدينة، ولاسيما من بغداد. تجمعت الوفود في الساحة الواقعة أمام ثانوية البنين، صدح صوت محمد الطيار عريف الحفل مفتتحا المهرجان الخطابي وتوالت الكلمات ، كلمة حركة أنصار السلام في كربلاء وكلمة النقابات العمالية و...ألخ وكانت الكلمة الأبرزوالأطول هي لعزيز شريف سكرتير حركة أنصار السلام في العراق..

ما أثار دهشة الكربلائيين هو وفود الشبيبة الديمقراطية البغدادية التي تركت حافلات نقلها خارج المدينة وقطعت الطريق مشيا على الأقدام، ذهابا وإيابا ،من بداية المدينة، باب العلوة ( باب بغداد ) حتى نهاية المدينة، مدرسة الثانوية ، مرورا بشارع علي الأكبر فشارع العباس. وكانت الوفود مشتركة والفتيات سافرات، و الجميع ينشدون ويغنون للتضامن والسعادة والحياة والفرح ... وربطات عنقهم الحمراء تتراقص في الهواء. سكان البنايات في الشبابيك والبالكونات، المارة في الشوارع، وقفوا في البدء مندهشين ، فقد تعودوا سماع اللطم والبكاء والحزن والشكوى والتظلم والنحيب، ورؤية العباءات السود تلتحف النور والجمال والحياة. وتحولت الدهشة الى إبتسامات وتلويح بالأيدي تعبيرا عن التضامن ولسان حالهم يقول إننا أيضا مثلكم نحب الفرح والحياة والجمال، ولكن تجار الحزن والقبح والموت والجهل والخرافات، على كساد تجارتهم خائفون.

كانت اللجنة التحضيرية لإتحاد الطلبة في ثانوية البنات تحت نفوذ الحركيين والوطني الديمقرطي، وترأس لجنتها التحضيرية الآنسة فاكهة النصراوي. مع أزدياد نفوذ الشيوعيين في الثانوية المذكورة إزدادت المطالبة بتغيير اللجنة التحضيرية. وتحت الضغط المتواصل من قبل الطالبات الشيوعيات وأنصارهن إستجابت سكرتارية الإتحاد العام لطلبة العراق لإجراء إنتخابات في الثانوية المذكورة، وقد جرت الإنتخابات وفازت الشيوعيات وأنصارهن ولم يكن لديهن شخصية حزبية في الصفين الرابع والخامس ( كانت الثانوية خمس سنوات فقط)، فترأست الفرع نوال الصافي وكانت في الصف الثالث.

كانت قيادة اللجنتين التحضيريتين لفرعي نقابة عمال البناء وعمال المخابز بيد الحزب الوطني الديمقراطي، وقد رموا كل ثقلهم وراءهما. وفي الوقت نفسه كرس العمال الشيوعيون وأنصارهم كل جهودهم لإنتزاع القيادة منهم ، وتم لهم ذلك من خلال الإنتخابات وترأس نقابة البناءالكادر النقابي كامل ضاري والذي أصبح رئيسا لإتحاد نقابات العمال في كربلاء.

الوطني الديمقراطي هاله أن تسير الجماهير وراء الشيوعيين وقد عبر عن ذلك أحد أبرز مسؤوليهم السيد يحيي نصر الله بالقول: " آني متعجب على هالناس اللي تركض وره هذوله الحفاي الحلوائي وكرماشة وعايفه سادة الولاية وأشرافها." وﻠ "تصحيح" هذا الخطأ لدى الناس ، إصطفت قيادة الوطني الديمقراطي بكل وجوهها المعروفة، وبشكل مفاجىء أمام إحدى مسيراتنا في بداية عام 1959. لقد أغاظ تصرفهم هذا رفاقنا فوجدوا حلا وهو عند وصول المظاهرة مفترق طرق يتركون القيادة ( الوطني الديمقراطي) تدخل في الطريق الإعتيادي ويغيرون إتجاه المظاهرة ويدخلون طريقا آخر. لقد وافقت على المقترح، بدون حماس. وهكذا كان، فقد دخلت مجموعة الوطني الديمقراطي في الشارع ليجدو انفسهم قيادة بلا قاعدة!

كانت القوى الرجعية، بما فيها القوى الأسلامية المتشددة والمتعصبة، تحاول إستغلال المنافسة بين الحزبين الوطني الديمقراطي والشيوعي لدفعهم الى الإصطدام، نكاية بالشيوعيين أو بالطرفين معا، وكانت تستغل مشاعر الإحباط وخيبات الأمل التي يعاني منها الديمقراطيون بسبب ضعف تأييد الجماهير لهم. وكم من مرة مزقت لافتاتنا أو مرغت بالوحل ورميت على قارعة الطريق بالقرب من منطقة نفوذ الديمقراطيين، ونفوا قيامهم بذلك. وفي أحد الأيام كنا نسير، عبد الرزاق الصافي وأنا، في شارع العباس، عندما جلب لنا رفاقنا لافتة منتزعة من مكانها، بالقرب من منطقة نفوذ الوطني الديمقراطي، وملوثة بالوحل. وكالعادة، تجاوزنا الإساءة.

في هذه الفترة أخذت تخرج مظاهرة، مساء كل يوم، من منطقة نفوذنا الرئيسية وهي محلة العباسية الشرقية. عدد المشتركين فيها يتراوح بين 50 ـ 70. جمهورها صبيان لايتعدى عمر أكبرهم أربعة عشرعاما . يذهبون الى مناطق نفوذ الوطني الديمقراطي وحزب البعث وهي متجاورة في محلة باب العلوة (باب بغداد). ويهتفون هتافات معادية لحزب البعث ومزعجة للوطني الديمقراطي. لم نعط إهتماما للمظاهرة، بادىء ذي بدء، بإعتبار إن ذلك لعب أطفال. ولكن بعد أن سمعنا بأنهم يرجمون بالحجارة مكتب المحامي جواد أبو الحب، أحد أبرز وأقدم البعثيين في المدينة، و أنزلوا لوحة الدكتور هادي الطويل من قادة الوطني الديمقراطي من على عيادته، وحوادث اخرى مشابهة، تصدينا لهم لنفرقهم، ولكن لم يستجيبوا. في حين لم تعد القوى الأخرى تصدق عفوية تلك المظاهرة. في أحد الأيام أخبرنا ممثلنا محسن النقيب بأن المتصرف أصدر بيانا يندد بالمظاهرات ومن يقف وراءها ويطلب توقفها وإلا فسيستخدم القوة لتفريقها. ولأن البيان قد يسيء إلينا بإشارته الى "من يقف ورائها" ولأن المتظاهرين من المتعاطفين معنا، إقترحنا على المتصرف عدم توزيع البيان ومنحنا فرصة 24 ساعة لإيقاف التظاهر، وإذا لم نفلح، فبإمكانه أن يوزعه. فوافق المتصرف على المقترح.

وضعنا خطة، وهي أن يتوزع الرفاق في شوارع محلة العباسية الشرقية إبتداء من غروب الشمس وكلما رأوا صبيين أو أكثريفرقونهم بعد أن يشرحوا لهم ما يمكن أن يلحقه عملهم من أضرار على الوضع العام في المدينة. و نجحت الخطة بفضل الجهود التي بذلها الرفاق في المحلة المذكورة. وتوقفت المظاهرات، ولم يوزع البيان. وعلمنا لاحقا بأن بعض نسخ البيان قد وزعت على كبار المسؤولين في المدينة. لقد كبرت المنظمة بعين المتصرف الى درجة كبيرة جدا. ولم ينس مساعدتنا له في حل هذه المشكلة إطلاقا. وكان يعتبرنا الجهة الوحيدة المتنفذة جماهيريا في المدينة ويصرح بذلك عند الضرورة في أي مكان وبدون حرج.

بتشجيع من عراك الزكم وفرع الحزب الوطني الديمقراطي في مدينة كربلاء إنشق عنا عضو حزبنا وأحد قادة فرع الإتحاد العام للجمعيات الفلاحية في كربلاء الذي كان تحت قيادتنا. وفوجئنا في أحد الأيام به وهو يقود مجموعة من الفلاحين متوجها نحو المتصرفية بهدف الحصول على سماح من المتصرف بتأسيس فرع آخر للإتحاد موازي للفرع القائم. اخبرنا المتصرف بأن ذلك مخالف لقانون الإتحاد العام للجمعيات الفلاحية المجاز من السلطات والذي يحصر منح إجازات الجمعيات الفلاحية وإتحاداتها المحلية بالإتحاد العام للجمعيات الفلاحية. وبناء على ذلك رفض المتصرف طلبه.

كان الجو متوترا بين الشيوعيين والديمقراطيين عندما أراد السيد فرحات عباس رئيس جبهة التحرير الوطني الجزائرية زيارة كربلاء في آذار 1959. علمنا بأن الديمقراطيين يتهيأون لإستقباله. كانت مكتبة الوطني الديمقراطي تقع في مدخل المدينة بالنسبة للقادمين من بغداد. قررنا إستقبال فرحات عباس من خارج المدينة. نظمنا مسيرة كان سيرها الحتمي يمر من أمام مكتبة الوطني الديمقراطي . قبل وصولنا المكتبة وصلني خبر بأن هناك تجمع حولها يضم بعض الشقاوات مثل رضا حسنابة وحسين عجمي... تشاورت مع الرفاق القريبين علي من قيادة المنظمة وقررنا تجنب المرور أمام المكتبة لأن أبسط إستفزاز من أي طرف كان يؤدي الى الإصطدام وسنظهر كمعتدين بصرف النظر عمن هو الباديء بالإستفزاز، فنحن القادمون اليهم وهم الواقفون عند مكتبتهم. قررنا إدخال المظاهرة في شارع فرعي ضيق. لقد عانينا الأمرين لحرف إتجاه المظاهرة، لإزدياد حماس الجماهير مع إقترابها من المكتبة لرغبتها في تحدي الآخرين. وأخيرا نجحنا في تحقيق ذلك. وقد إعتبر بعض الرفاق تصرفنا ذاك جبنا!

عند وصول موكب فرحات عباس وأستقباله قبل مدخل المدينة. توجه موكبه لزيارة الروضتين الشريفتين بدءا بالروضة الحسينية على أن يحل ضيفا عند المتصرف بعد إنتهاء زيارته من الروضة العباسية . ذهبت مع عدد من الوجوه الإجتماعية الى بيت المتصرف. بعد فترة لمح لي المتصرف بأن هناك بعض المشاكل في صحن العباس. وصلت بسرعة الى المكان. كانت هناك جلبة في غرفة الكليدار( مديرالروضة )الغرفة تقع حوالي متر أعلى من سطح الأرض وشبابيكها الكبيرة المفتوحة تشرف على الصحن. دخلتها فوجدت عددا من قادة الديمقراطيين بينهم يحيى نصر الله ومجموعة من أنصارهم، بينهم بعض من صدامييهم أحدهم إبن عمي رزاق، وهناك منافسة على الميكرفون بين أنصارنا وأنصارهم كل منهم يريد الهتاف بشعاراته. وغالبية المتجمعين أمام الغرفة وعددهم لايتجاوز الإربعين شخصا معظمهم ديمقراطيين ويرددون شعار " عاش الديمقراطي عبد الكريم قاسم " ويرد عليهم أنصارنا " زعيمنا الأوحد عبد الكريم قاسم " و " ماكو زعيم، إلا كريم ". ولم يكن صوت أنصارنا يسمع، لإختلال في توازن القوى لصالح الديمقراطيين، لأن مظاهرتنا كانت في صحن الحسين (ع). أرسلنا رسالة الى مظاهرتنا للإسراع بالمجيء الى موقع " المعركة ". عند وصول مظاهرتنا، إنقلب توازن القوى وبات بالكاد يسمع صوت الديمقراطيين.

كنت في غرفة الكليدارعندما شاهدت بأم عيني خروج مجامبع من الكشوانية ( المكان الذي يخلع فيه الناس أحذيتهم قبل دخولهم الى أروقة الضريح) وبيدهم عصي إنهالوا بها على المتظاهرين من الخلف وكان أحدهم يهدد الجماهيربقامته ( سلاح أبيض أقصر من السيف وأعرض منه ومستقيم). تراجعت الجماهير الى الخلف ملتفتة الى الوراء. في تلك اللحظة لفت إحدى الفتيات عباءتها على يدها وهاجمت حامل القامة وإنتزعتها منه، فإنفجرت الجماهير حماسا ورغبة في رد الصاع صاعين. وهجمت، وهي غير مسلحة، على المعتدين هجوما صاعقا. وسمعت من يدعو الجماهير الى التوجه الى مكتبة الوطني الديمقراطي لتحطيمها.

كنت أقول ليحيى نصر الله بأنكم ستتحملون عواقب إعتدائكم عندما سمعت صوت إبن عمي رزاق، من خلفي، يقول: " لا أسمح لأحد بأن يمس جاسم " إلتفت وجدته شاهرا سلاحه الأبيض ويحميني بجسمه الَضخم. عرفت لاحقا بأن أحد أنصار الديمقراطيين هوى بالقامة على رأسي وإن رزاق مسك يده. وفي هذه النقطة الحرجة تغير موقفه وتحول الى حمايتي. وفي الواقع ، لقد إستغربت وجود رزاق معهم لأن عهدي به متعاطف معنا ، قلبيا. وكان وجوده معهم لمرافقة صديق له بينهم. جلب إنتباهي كثرة الأسلحة البيضاء فقد كان معظم الموجودين في الغرفة مسلحين.

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القمة العربية تدعو لنشر قوات دولية في -الأراضي الفلسطينية ال


.. محكمة العدل الدولية تستمع لدفوع من جنوب إفريقيا ضد إسرائيل




.. مراسل الجزيرة: غارات إسرائيلية مستمرة تستهدف مناطق عدة في قط


.. ما رؤية الولايات المتحدة الأمريكية لوقف إطلاق النار في قطاع




.. الجيش الاسرائيلي يعلن عن مقتل ضابط برتبة رائد احتياط في غلاف