الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فرشاة حامد .. أنامل حامد !

عبد الجبار السعودي

2005 / 10 / 13
الادب والفن


لو قــُــدّر لكل الفنون أن تحيـــــا وتعيش وتنتعش في قلوب الناس .. في موسيقاها والأنغام التي تخاطب الروح المتعبة وأنينهـــا ، وفي فرح الألوان ومعانيها وهي تغازل النظرات والعقول ، وفي رقصٍ الأجساد في لهو ٍ ومرح ٍ وهي تنادي العشاق والمحرومين معاً !
لو قـُـدّر لصور الموهوبين وحركاتهم وإيماءاتهم فوق خشبات المسارح وهي تداعبُ أسماع المتعطشين لحلو الكلام .. أن تعلو ، دون خوف ٍ أو رعبٍ من عيون الرقيب !
لو قدّر للأيادي الماهرة أن تتحدى الصخرَ والفولاذ وتصنع أجساداً حية ً كما خطها ( جواد سليم ) وصحبه الخالدين !
لو قــُد ّر لـ ( سعيد أفندي )* أن يحيا من جديد و يعتلي منصة الفائزين في مهرجان ( كان ) السينمائي ويقلب رأس السمكة ِ طازجاً ، لا عفنــــاً في رائحته !
لو قــُد ّر لكل هذا وذاك في دولة تحترم الإنسان وبني البشر نساءً و رجالاً وتنهض بالعقول والموهبة وحركة الأجساد والفرشاة والألوان والموسيقى ومعانيها ولا تهين كرامة كل مبدع عطش ٍ وتشبعه المذلة والهوان ، لكان ليومنا هذا الذي نعيشهُ طعمـــاً ولونـــــاً ونكهة لا تضاهيها كل مذاقات الدنيا وجنائنها .. وتسمو بها أرواح الصغار والكبــــار معاً صبية وفتيانــاً ، ولكان لفرشاة ( حامد ) حكاية ً أخرى ، غير تلك التي بها إنتهت !
كما هو وغيره من رياحين الوطن ونبعه ِ ، سيــق َ إبن الجنوب البار والبصرة الفيحاء والوطن المبتلى عنوة الى حيث الموت الزؤام و جيف الضحايا القتلى ومهانة الأحياء وقسوة عيشهم وحيث المآتم و دموع الباكيات الناحبات !
ســـيق َ حامد الى مجهول ٍ حيث لا يدري ، ولا نحن معه ندري ! وكيف سيؤول قادم الأيام ، وحيث كل هذه الدماء التي تسيل ! وعيون التراب والطين المسحوق من زمن بابل وما سبقه من أيام سومر وأحاديثها والأساطير الخالدة وما خطه الأجداد المنسيون وكتاباتهم المسمارية .. و روح العصر الجديد الذي سحقته ولا تزال بقسوة عُقب العسكر الحديدية وأوامرهم وأحلامهم وغطرستهم الجنونيــــة التي لا حدّ لها !
وكما نهضتْ أولى تلك الأحرف التي أصبحت تأريخاً وحضارة تتباهى بها الإنسانية ليومنا هذا وتتحدث عن وطن الرافدين الذي خط ّ الكتابة و رموزها ، نهضت فرشة حامد من قعر الماء الساكن بالألوان ، لتداعب سطوح الأقمشة البيضاء المؤطرة بالخشب و لترسم خطوطـــــاً وألوانــــا مشوهة .. نزفت منها روح الساكنين في الوطن الجريح .. ونزفت منها و بها روح حامد المرتعبة والخائفة !
لكَ أن تأتي أيها الجندي ( المرقم ........ ) الى دهاليز القصور المرمرية .. وحيث ( الزاهي بعصره ) و ( المؤمن بالله ونصره ) يقف أمامك ضاحكاً .. منتشيــــاً بأوسمة النصر على شعبه المدحور منذ شباط الأسود .. وليومنا هذا !
وقفت َ يا حامـــد ، وأنت الحالم والضاحك والمغدور من قسوة الطاغي وقانون حياته وحلمه الجنوني و سفاهته و صفاقته ، لكي تخط أناملك السمراويتان ونظرات عيونك و ريشتك المرتعبة .. صوراً مشوهة لا ملامح لها ولا طعماً ولا شغفـاً في قلوب المحرومين والمنكوبين بنار الحروب التي أنت وغيرك وقودها المشتعلة ! وما أن أنتهى المشهد الأول و تلاه المشهد الثاني ، وما توالى من مشاهد محزنة و باكية إمتلأت بها قصور الطاغية وساحاته وإمتدت صورها الدامية والمرعبة من أقصى الشمال وحتى جنوب الفاو و حيث أشجار الحنـــّاء ، حتى كنت وسط الشارع المليئ أنينــــاً وعذابات ودموع ، لكي تبكي معهم على نزيف و نواح الوطن المنكوب والحزين والمثخن بالجراح .. ينظر اليك الطغـــاة بعيون الرقيب والحسيب والمتوعد بالشر ، بدلاً من أن تكون فرشاتك وعبقرية ما أنتجه خيالك الخصب وثراء عائلتك الفني محط تقدير و رعاية ، ليس لك وحسب ، بل للوطن الذي أنجبك وعشت فيه !
وكما يبست ثمار النخيل وجفت عروقها وأحرقت جذوعها بنيران القذائف والشظايا ، وكما هربت الطيور المهاجرة من أهوار وبطائح العراق التي إنتقم منها الطغاة بحثاً عن بقعة ما تحط فيها ، وكما سكتت أنامل العازفين وشح ّ النطق بعذب الكلام وحلاوته وطربه ، جفت فرشاة رسمك و روحك المعطاء يا حامد و رحت تبحث وتلهث سريعاً في فوضى الجوع الذي يلف الوطن وأحلام أبناءه المشروعة في الرفاهية والعيش الكريم والرغيد . ولأن حلمك وأحلام من حولك هي دوماً ضحايا ما أنتجته الحروب الرعناء وعلاقات السوق وطمع الكبار وجشعهم من أجل حفنة دولارات ، فقد خذلتك الأيام وضاقت بك سبل العيش ولقمته الكريمة وأنت في مقتبل عمرك وحياتك اللاهثة نحو بيت سعيد ! وسقطتَ .. وكان يوم الرحيل عنا قاسياً ، مؤلمــــاً ، كعذاباتنا التي بها نعيش و نودّع من حين لآخر حبيب هنا ومبدع هناك ! رحلت عنا وتركت لنا ذكريات عن صحبة وضحكة كنــــا نقرأها في عيونك الوادعة ! وإن ْ بكينـــــاك حينــــاً و صمتنــــا مرغمين ، فإننـــــا لن ننسى أحلامك التي لو قــُدّر لها أن تنمو وتنضج وتتحقق في وطن معافى ، لكانت فرشاتك وأناملك ستحكي لنا عن عصر جديد تضاهي به عبقرية دافنشي و أنجلـــو و رامبرانت و فان خوخ و رافاييــــل و آبـــــل وفرانشيسكو دي جويــــا وغيرهم من مبدعي فنون الرسم وخطوطه وألوانه والذين يحفظ التأريخ لهم إبداعاتهم و كنوز ما تركوه لنــــا وللبشرية قاطبة ، ولكانت ساحات الوطن الغنـــّاء تشهد لك كل هذا العشق للألـــــوان و زهوهـــــا ومعانيها !
نحن لا نبكي غيابك عنا وحسب ، بل عذاباتك ومعها عذابات الوطن ! وأقسى ما في رحيلك يا صاحبي .. أن تجف الفرشاة والأنامل المبدعة الى الأبد !
----------------
* حامد جميل عزيز الفنان العراقي المندائي الذي غيبه الموت في 8 إكتوبر الجاري 2005 في أرض الوطن بعد معاناة من مرض عضال وشظف العيش عن عمر يناهز ( 41 ) الواحدة والأربعين عاماً .
* سعيد أفندي إشارة للفيلم العراقي الذي يحمل نفس الأسم والذي أنتج وعرض عام 1957 وقام ببطولته الفنان يوسف العاني وفنانة الشعب الراحلة ( زينب ) .


بصرة – أهـــــوار في إكتوبر 2005
















التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا