الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحالم ..قصة قصيرة

فخر الدين فياض
كاتب وصحفي سوري

(Fayad Fakheraldeen)

2005 / 10 / 13
الادب والفن


كاتب وصحفي سوري

قال لي "في الليلة الفائتة شعرت برائحة امرأة!!"
نظرت إليه بدهشة.. وغرابة.
فقال "هو هذا!! تلمست تلك الرائحة التي أعرفها جيداً.. هل تعرف كيف تلمس رائحة الأنثى؟!"
قلت له "أنت تحلم وتحلم.. هو الحلم الذي يقودك إلى الجنون.. أم الجنون يقودك إلى الحلم؟!"
امتعض.. ونظر إلي بسخرية.. مؤنباً (سطحيتي) في رؤية الأشياء.. مدَّ يده وضغط على كتفي باستياء:
"عليك أن ترى بكل حواسك.. وليس بعينيك البسيطتين فقط!!
للرائحة شكل وملمس وصوت وطعم.."
سكت قليلاً وأخذ نفساً من سيجارته.. وأردف:
"كيف ستشعر بطعم الأنثى إذا لم تتذوق رائحتها.. وتسمع صهيل خلاياها.. وتشم عبق الياسمين من مساماتها الحالمة؟!
كيف ستشعر بطعم الأنثى إذا لم تستطع رؤية أجنحة اللذة التي تحملها إلى أفق أزرق بعيد؟!".
كان يتحدث بهمس أقرب إلى السرية، وكأنه يخشى أن يسمعه الآخرون. نظرت إلى عينيه الواسعتين وقد ازداد جحوظهما واتسعت حدقتاهما.. وجه واسع.. على رأس حليقة ضخمة.. كتفان عريضان وقامة شاهقة.. وكأنني أراه للمرة الأولى.. كان جبلاً متحركاً.
سألته بهدوء و(تواطؤ) عن رائحة تلك المرأة!!
نظر في وجهي مستفسراً إن كنت هازئا... إنه يعلم في أعماقه أنني لا أهزأ منه أبداً.. وأنني أحبه وأشاركه أفكاره، و(أثق) بها، مهما كانت بعيدة..
تنهّد وقال بهدوء وسرية:
"كانت ذات طعم بحري أشقر.. تشبه طعم البرتقال.. ولعينيها الخضراوين أفق يمتد من شواطئ الرغبة.. وحتى الشفق الناري الأحمر.."
سكت قليلاً، وبعد أن تلفت حوله، أشعل سيجارة من علبته الرخيصة ذات الرائحة القاتلة، وكأنها دخان "العطن" أو العفن المحروق!! وأطرق متلذذاً بكلماته:
"كنت أسمع توثب نهديها.. كانا يستغيثان كذئبة غسلت جسدها بماء عشتار.. ويعويان بإثارة ورغبة وافتراس.. أصوات من البوح الغامض وهما يتقافزان نحو أشعة القمر المسترسلة على ذاك الصدر الثلجي الحار.."
وسكت برهة.. ثم نظر إليَّ حائراً إن كنت أفهمه.. ولما اطمئن إلى أنني أتابعه وأهتم لأمر تلك المرأة.. قال:
"كان ظهرها ينساب كما الأسماك.. كما السهول الممتلئة بالطيور والفراشات.. والمطر.
كان قدسي التضاريس والتعرجات.. نهر بلون سماء فضية..
يخترق حقلاً من سنابل القمح الشقراء..
إنه طعم الفرح في أرض مسحورة، لا متناهية..
كان صوت الريح يداعب السنابل الطويلة المتماوجة مثل خصور المراهقات.. فتنبعث رائحة الأفق مليئة بطيور مهاجرة.."
نهض قليلاً ونظر عبر النافذة إلى الباحة الواسعة، وأكد أن لا أحد يستمع إلينا بعد أن تلفت حوله ووجد أن الجميع نيام..
اقترب وأردف بهدوء ومتعة:
"كان لقدميها طعم تفاح الجبال.. ورائحة العشب الأخضر..
وكلما ارتقيت إلى أعلى كنت أسمع أجراس كنائس.. وأشم رائحة برارٍ بدائية..
كنت أسمع تدفق الشلالات العالية.. وكان الماء المتطاير رذاذاً ينعش روحي، ويوقظ في جسدي أحاسيس
شتى ..
ربوة من العشب الأصفر الغض كانت تتراءى لي.. وعلى حوافها أزهرت أشجار الكرز الموشحة بأردية حمراء.. ضباب شفاف كان يغلّف تلك الربوة.. وطعم عرين غامض يقطنه تنين خرافي.. يلتهم الكون بمتعة.. وإثارة!!"
أطفأ سيجارته في علبة "تنكية" صغيرة، بعد أن امتص جزءاً من عقبها.. وأشعل سيجارة أخرى بعود ثقاب رديء تطاير جزء منه وحرق أعلى سبابته، فوضع إصبعه في فمه لحظةً.. وتابع دون أن يبدي أي شعور بالألم:
"كانت امرأة فاتنة.. وحقيقية!!
لرائحتها لون أزرق شفاف متماوج مع خصلات شقراء..
هل تعرف أن للرائحة لوناً أيضاً؟!"
وسكت متأملاً الجدران الرمادية الباهتة التي تحيط بنا.. في الفراغ.. وفي اللاشيء!! ترتسم على وجهه ابتسامة حزن.. ونقمة!!
كان يتوجع من شيء ما في صدره، صوت أنين دفين ينبعث من داخله، حين يصمت.. وكأن وحشاً حبس داخل روحه.. و لم يجد مخرجاً.. نظر إلي و كأن شيئاً ينكسر في أعماقه ، إنها نظرته التي أعرفها تماماً حين يصاب بخيبةٍ ما، يتحول آنذاك إلى كائن بلا ملامح ولا معالم، سوى فجوة من الحزن الأسطوري.. قال لي بما يشبه الصمت:
"بحثت عنها طوال الليل ولم أجدها.. كنت خائفاً عليها من هؤلاء الأوغاد"
وأشار بإصبعه المحترقة إلى الرجال النائمين تحت الضوء الساطع!! وتابع هامساً بعجز وذل:
"لا يمكن لامرأة لها رائحة البراري والبحار البرتقالية..
رائحة سنابل القمح والأفق الغامض..
أن تنام بين هؤلاء.. سيضاجعونها كما لو كانت من المطاط!!
دون رحمة.. ودن حواس!!
رائحة الموت تنبعث من أرواحهم وأجسادهم المتيبسة.. هل رأيت أسنانهم..
سوداء منخورة كما الجذوع المحترقة.. إن حواسهم معطوبة..
تآكلت بفعل الرطوبة والصدأ!!"
سكت بحنق.. تنهد بعد برهة.. وبعينين خائفتين قال:
"أخشى أن تأتي الليلة أيضاً!!"
مددت يدي وأخذت سيجارة من علبته، وبعد أن أشعلتها بعود من أعواده الرديئة بحذر وتؤدة، نهضت ناظراً عبر قضبان النافذة إلى تلك الساحة القذرة بجدرانها المرتفعة والتي يعلوها شريطٌ شائك وعسكر يحملون بنادقهم من غرف المراقبة الصغيرة..
كان الأفق معتماً، والسماء تتلبد بغيوم سوداء.. الأرض مبللة بمطر قبيح.. والريح تخترق جوانب النافذة بلؤم واستهزاء..
الضوء يملأ تلك الزنزانة الضخمة، بسطحية وعنف، وينبعث من كافة الأرجاء.. وكأنها غرفة زجاجية، لا نهائية الأبعاد..
باردة وساطعة.. وهذه المخلوقات الموزعة فيها بترتيب وانضباط حديدي، فئران نُزعت حواسها.. لاختبار الحياة بلا حواس!!
لطالما كرهت هذا الضوء!!
نظرت إليه.. كان جسده متراكماً بعضه فوق بعض .. بفوضى وعبث أحمقين..
أنفه ملتصق بصدره.. و رأسه يتدلى بين الساقين مثل المشنقة..
أذنه تغوص عميقاً في الأرض الباردة.. وخيط دخان يرتفع نحو النافذة وقد رُبطت فيه شفتان بنيتان!!
عين رمادية كبيرة تتوسط مؤخرة الرأس المقلوب!!
اقتربت منه وهمست في أذنيه :
"حين تأتي تلك المرأة ... أيقظني!!









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تأملات - كيف نشأت اللغة؟ وما الفرق بين السب والشتم؟


.. انطلاق مهرجان -سماع- الدولي للإنشاد والموسيقي الروحية




.. الفنانة أنغام تشعل مسرح مركز البحرين العالمي بأمسية غنائية ا


.. أون سيت - ‏احنا عايزين نتكلم عن شيريهان ..الملحن إيهاب عبد ا




.. سرقة على طريقة أفلام الآكشن.. شرطة أتلانتا تبحث عن لصين سرقا