الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الموت والحياة .. أحياناً! / قصة قصيرة

نهار حسب الله

2015 / 7 / 28
الادب والفن


(1)
كانت النار تلوك بنهم كبير ما يصادفها على الارض، وكان الدخان الأسود يتصادع من كل مكان، يعلو ليعكر صفو السماء، ويحيل زرقتها النقية الى حزن عميق قاتم السواد..
كانت أصوات المدافع والاسلحة النارية تعزف عبثاً وتُشكل موسيقى صاخبة عنوانها الموت.. فيما كان الجندي العراقي المكلف (عبد الله) يحاول ان يبدد خوفه ويبدو أكثر قوة من بقية زملائه من الجنود..
يحاول امتصاص أو تقنين الخوف المتنامي بين رفاقه.. يحدثهم في أمور شتى، غير ان حكاياته كلها كانت تبدو هامشية، تافهة، باردة كمكعبات ثلجية صغيرة تقاوم ذوبانها تحت أشعة شمس صيفية لاهبة..
وعلى الرغم من ذلك، كان يكرر محاولاته من دون ملل أو كلل، يكلمهم عن أي شيء يطرد كابوس الهلاك، يغني لهم تارة، ويسخر من الموت تارة اخرى.. ويحثهم على كتابة الرسائل لذويهم وحبيباتهم.. ويعدهم بايصالها مع اي جندي يتمكن من نيل استحقاقه باستراحته القصيرة..
لم يكن عبد الله مسؤولاً عن فريقه المكون من عشرة جنود، معظمهم من مواليد ستينيات القرن الماضي، بقدر ما كان صديق الجميع وحافظ وكاتم أسرار كل منهم..
قساوة القصف وشراسته جعلت دوائر الخوف تكبر وتتسع مع الوقت، وهو الامر الذي وضع الجميع في مواجهة موت محتم، مما دعى أعضاء الفريق للبحث عن ابتكار ملجأ أكثر أمناً من السواتر الترابية التقليدية..
وجه (عبد الله) رفاقه بخلع خوذهم الحديدية الثقيلة التي كانت تغطي أعلى رؤوسهم واستخدامها كوسيلة لحفر ملجأين، أولهما تحت الدبابة الروسية (T55) وأخر خلفها مباشرة.
انقسم الفريق الى قسمين وكأنهم أرادوا دفن انفسهم على نحو مؤقت في تلك الخنادق، بانتظار ان تغفو نيران الحرب ولو لبرهة.. ليستنشقوا أنفاس الحياة مرة أخرى..
تمدد (رزاق) في تلك الحفرة المظلمة، رمى بجسده المتعرق على الارض غير آبه بما يحيط حوله.. وكأنه انتزع الاحساس من روحه وتحدى ضجيج الحرب من حوله مثلما تحدى خوفه واصدقائه وبقي يتأمل أسفل الدبابة حتى نام نوماً ثقيلاً، ليبدو كأنه في غيبوبة او فقدان للوعي..
أما (عمار) أصغر أصدقائه سناً، فقد كان يرتجف كبرعم فتي أرهقته مواجهة عاصفة هوجاء.. كان يحتضن سلاحه الرشاش كمن يحتضن حبيبة فارقها مرغماً.. يدفن رأسه بين ذراعيه والبندقية ويبكي خلسة ويعمد الى كتمان نحيبه وأسى روحه حتى لا يبدو ضعيفاً أمام رفاقه..
فيما كان (أكرم) أشد أعضاء الفريق شراسة ورغبة بمواجهة الموت، ليس لايمانه بالحرب وتضحياتها، فهو لا يبحث عن النصر بقدر ما يفتش عن المغامرة الشخصية..
كان قاسي الوجه والملامح والسلوك، حاد المزاج، منعزل عن أغلب زملائه.. يبدو للوهلة الاولى وكأنه قاتل مأجور، غير انه رغم كل ذلك كان طيب القلب..
رفض دعوة (عبد الله) وإصراره ولم يستجب لأمر الاختباء تحت الدبابة أو النزول الى الملجأ المجاور، وإنما قرر المكوث في حجرة الدبابة وحيداً..
احتدت وتيرة القصف المدفعي والجوي، وكأن العدو يستعجل بقية الفريق للانزواء في أحد الملجأين..
صرخ (عبد الله) بنبرة قائد آمر من تحت الدبابة محاولاً حث من تبقى من الزملاء في العراء على الاستعجال والمكوث في احد الملجأين.. ولكن سقوط قذيفة هاون قريبة، أصاب الجميع بالخرس.. وعطل الروية تماما.. ولم يبق في المكان إلا رائحة الموت الممزوج بالبارود..
(2)
ضاعت بوصلة الانسانية، وانعدمت الرؤية، تعطلت العيون عن الابصار بسبب التراب الهائج من جراء العصف، فيما أصيبت آذان الأحياء من الجندود بصمم مؤقت.. وتجمدت بقية حواسهم بتأثير الخوف..
هدأ ضجيج الانفجار، واستقر التراب المتناثر في السماء، وبدأ كل واحد من الاحياء يستكشف جسده ويتلمسه بحذر.. لئلا يكون مصاباً او متشظياً، غير ان (عبد الله) دهش وانتبه الخوف لاستكشاف مصير رفاقه الذين لم يمنحهم القدر فرصة الاختباء في أحد الخندقين..
في العراء كان المشهد يثير الدهشة والذهول، تحول لون التراب الذهبي الى مزيج لوني يجمع بين الأسود والأحمر، فضلاً عن تناثر بعض الأشلاء المتفحمة..
على الرغم من وجع عبد الله وانكسار روحه إلا انه لم يكن يقوى على البكاء ، فالدمع لا ينزل حين تهرب الروح من الجسد..
اقترب من بقايا جسد أحد الضحايا، ولم يكن إلا نصف جسد سفلي، كان قد فقد هوية وملامح صاحبه، تنبه لطرف ورقة كانت تتهاوى من جيبه.. سحبها، وفتح طياتها بانفعال وارتباك بالغين بغية معرفة هوية صاحب الجثة.. وإذا به يقرأ رسالة موجزة جاء فيها:
((حبيبتي آية..
هاي أول مرة أكتب بيها رسالة، لان صديقي عبد الله وعدني يوصلها الج.. وإذا وصلت راح اكتبلج كل فترة.
آني بخير.. والموت ناسيني، يمكن يعرف بية شكد أحبج، بس الشوق الج ولأمي معذبني أكثر من الحرب..
بس أرجع بأول إجازة ادز امي الكم خطابة..
احبج))
تخلى عبد الله عن شجاعته وبكى بحرقة، انهار تماماً، شعر بانه مسؤول عن هذه البشاعة.. وعن هذا الموت..
حدق ببقايا الجثة واعاد قراءة حروف الرسالة وكرر النظر الى سلاحه الرشاش الذي يستند الى كتفه، رماه على الأرض، وحدق به مرة أخرى.. ركز نظره إليه، بصق عليه وعلى بزته العسكرية.. اهان نفسه لانه حملها مسؤولية مقتل إنسان أراد الحياة.. ليدخل بعد ذلك في حالة من الهستريا وبدأ بموجة من السب والشتم على القائمين والمتسببين باشعال فتيل الحرب.
ركض نحوه (أكرم) واستعجل حبس انفاسه وكتم شتائمه، كونها كانت كافية لايصاله الى حجرة الاعدام..
تسلم (أكرم) زمام الامور بعد انهيار عبد الله، وأوعز للجنود بجمع أشلاء الموتى في مكان واحد لاعادة محاولة اكتشاف هويات أصحابها..
نُفذ الأمر، وتراكمت الأشلاء فوق بعضها البعض لتبدو كأنها تمثال او عمل تشكيلي اسطوري..
تبسمر (رزاق) قبالة هرم الاشلاء الذي شيده رفاقه، بدا شارد الذهن متأملاً لوحة الموت التي رسمت أمام عينيه.. واستمر صمته، حتى صوب نظره الى رأس متفحم، ليصرخ بحرقة ((عباس.. هذا رأس عباس!))..
استغرب الجميع قدرته على تمييز رأس عباس دون غيره على الرغم من ان جميع الجثث الستة متفحمة بالكامل..
أعاد صراخه وهو يضرب يديه على رأسه بعد ان فهم استغراب وتشكيك زملائه ((عباس .. انه عباس، عرفته من اسنانه المعوجة، وهذا نابه المكسور، كنت قد كسرته له ذات مزحة أيام الدراسة المتوسطة.. هذا صديق عمري عباس)) ثم ركض نحو الجمجمة وحملها وبدأ يقبلها ويمسح بها دموعه.. الى ان تدخل (أكرم) لحسم الامر.
اقترب (عمار) من تل الضحايا تاركاً خوفه وراء ظهره، رفع يده الى السماء ودعا أصدقاءه لقراءة سورة الفاتحة.

(3)
وصلت آليات الدعم الى الفريق بعد طول انتظار وتكرار نداء الاستغاثة، حمل الكادر الطبي الجثث في مشهد جنائزي جُسد أمام الناجين الاربعة..
وما هي إلا ساعات قليلة حتى تم تعزيز الفريق بستة اشخاص آخرين عوضاً عن الذين غادروا الى السماء..
في تلك اللحظة.. ايقن كل واحد من الجنود الاربعة بان الحرب لا تأبه بحجم الخسائر وما هم إلا وقود لمحرقة عملاقة لا تشتغل إلا بأرواح الشباب..
بدأ كل واحد منهم يفكر جاهداً بالفرار من الموت.. أولهم كان أقواهم وأكثرهم جسارة انه (أكرم) الذي قرر خسارة أصبع من أصابع يده، مقابل النجاة بجسد كامل فأطلق النار على يده محاولاً ايهام الكادر الطبي بانه تلقى إصابة من العدو، وسوف يحصل بعدئذ على كتاب التسريح من الخدمة العسكرية لاسباب طبية، غير ان إصابته كانت أكثر مما توقع لها، حيث قطعت يده من أسفل الكتف..
وعلى الرغم من إعاقته، ومخاطرته بحياته، إلا انه احيل الى مجلس تحقيقي بعد ان كشف الكادر الطبي عن مصدر الرصاصة التي أصابته ومسافة إطلاقها.. وهو الامر الذي أحاله من مواجهة الموت في ساحة الحرب الى موت آخر داخل زنزانة مظلمة.
أما (عمار) فقد رمى سلاحه وحمل كتابه المقدس وتقدم تجاه عدوه وسلم نفسه كأسير حرب.. وبقي عبد الله ورزاق انموذجاً لسرد حكاية حرب كاملة..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس


.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه




.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة


.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى




.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية