الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أعراس محمد محي الدين !

جابر حسين

2015 / 7 / 28
الادب والفن


مقالة تذكارية لمناسبة رحيله :
أعراس محمد محي الدين ...


---------------------------
إضاءة عن البنفسج :
( ليه يا بنفسج بتبهج
وأنت زهر حزين ؟! ) ...
- بيرم التونسي -

في هذا البيت الشعري ، عظيم الدلالة ، يصور لنا بيرم كيف هو يري البنفسج : حزينا ، صامتا ، يرقب الواقع الخشن من حوله ، يتأمله صابرا علي قسوته ،لكنه ، أيضا ، لم يمتثل لهذا الواقع المفجع فيستكين إليه ، ويظل ، كما الماء محايدا ، بل نراه يضفي ويشيع الإشراق والبهجة في من هم حوله ، لا ، ليس صامتا هنا ، فيشرع يرسل إشاراته الحيوية ثم يؤشر للفعل لمن يقرب منه وينظر إليه . أنه ينقل إليك حالته في جوهرها بالذات ، حالة من البهجة والإنشراح والشروق ، بيرم في حياته كلها ، وفي شعره أيضا ، يحتذي هذه الرؤية ذات الضجيج والفاعلية المستمرة ، فإنتمي بهما معا ،
الحياة والشعر ، إلي صف الفقراء والكادحين ، وكانت أشعاره في جملتها أشعار قلقة ومتوترة وتعايش حياة الناس في تحولاتها المتنوعة بخصوبة بادية وثراء عميقين . وهكذا كان شعره ينتمي إلي الوجه المضئ من البنفسج ، إلي حيث وجهه الحيوي الخلاق بإنبثاقاته اللافحة ودلالاته عميقة الأغوار . هي ، إذن ، رؤيا صاخبة وذات حيوية وخصوبة وثراء عميق للبنفسج في عين الشاعر وقلبه ، وبها تتصاعد معاني ودلالات وصور القصيدة إلي تخوم مشرقة البهاء والتوهج .

رؤية أخري رومانسية :

( البنفسج غادر صهوته / وانتهي للميادين / بين يدي صبية جائعين / يبيعونه فوق جسر الصبابات للعاشقين / وبين إشارات جند المرور / البنفسج لم يرتدع حين غادر أشجاره النائحات / ولم يتعظ بعذاباته / واكتفي بالدموع التي أغرقت جفنه / حينما علم الناس كيف يريقون ماء صباباتهم تحت أهداب فاتنة ... أشعلت نارها كي تصب الرصاص المحمي بأفواه صبوتهم / وأنا مترع بإزدحام الفؤاد إلي أخر السطر بالأمنيات التي أحرقت ألف حقل من الورد / أو ترتدي ثوب صفصافة سطعت بالحماس الربيعي عند إصطدام نوافذه بالغيوم ... / الهموم تدجج أوقاته وتحاصره / والبنفسج فجرئذ تائه ... / يتنقل بين
موائد أسئلة نكأت فرحه / فلماذا الرياحين تغبطه / ولماذا البنات الخجولات شبهنه بالحبيب البعيد ؟ / لماذا الوحيد يعلقه فوق جران غربته وينادي حبيبا نأي وأشتهي غير ذاك الذي يشتهيه الوحيد ؟ / لماذا الحبيبة هاربة من مواعيدها الزئبقية / لماذا أنا أحتفي بنداءات جرحي ثلاثين نوما / ثلاثين برقا هي النار تلدغ صدري / ولا نبع ماء قريب / ولا همس لحن الربابات / قال البنفسج قولته / وأنا قلت : هل للبنفسج بعض القرابات من عائلاتي ؟ / وهل للسلالة نأثيرها في دمائي ؟) . كما نري ، فأن الشاعر المصري عزت الطيري يريد للبنفسج أن يظل حبيس أشجاره وحدائقه ، وأن يكون
جميلا في موضعه ذاك يلون للعاشقين أيامهم ويجعل لأوقاتهم موسيقي كونية بديعة . وقد وجد الطيري أن البنفسج ظل علي ضحكه ، يضحك في وجع بعد أن ظل يرقب حبيبا قد ضيع في زحام الحياة ، فيما بين الحدائق وأشجارها ، حبيبته الغزالة
رؤية ثالثة ، أتكون هي رؤيا محي الدين ؟
للبنفسج رائحة ذكية ، وشذي فواح ، وله سيماء وملامح حلم الرؤيا إذ تنهض أمام ناظريك ، وله وفاء نادر ودافئ ، وهو صامد بقدرة فذة علي إستمرار توهجه ولمعانه ، وله القدرة الكلية علي البقاء المزهر في الذاكرة والزمن ، وهو ، أيضا ، مشروع حقيقي للإزدهار والنمو والإشتجار . يحيلك – وأنت تنظر إليه – إلي جميع الحدائق والبساتين ومواضع النباتات اللطيفة والزهور والورود جميعها ، فتذهب إليها متفقدا ما فيها ، زهرة زهرة ، وشتلة شتلة ، وفسيلا من بعد فسيل ، وترجع إليه – عند نهاية مطافك – ممتلئا بالإمتنان والعرفان وصدق التجربة الدافئة كما الخبز الطازج ،
فتجلس أمامه معترفا إليه بما لديه من قيمة الحياة وجدواها النبيلة . وللعشاق ، هو ثالث الأثنين ، مؤنس نجواهم الرفيقة ، ضوءهم وصاحب النجوي الخصوصية ، قنديله المضاء بزيت أصحابه وأصدقائه الخلص وأحبائه أجمعين . وللشعب والفقراء هو الدموع والحسرات والصبر الجميل ، والسهر والوجد والعزاء ، الحلم في أمل سيغدو أجمل عما قريب ! وهو ، أيضا ، العنفوان والبسالة الجريئة التي تقف ، أحيانا ، علي حافة الخطر وشفير الموت . وهو قدرتهم علي المقاومة والنضال ضد العسف والجور والظلم والطغيان ، هنا بالذات ، تجده قاطعا كالسيف البتار والفولاذ المحمي باللهيب ،
أبدا لا ينكسر ! وهو أيضا المدينة في وجوهها المتعددة جميعها ، هي كما هي ، بلا أية أقنعة زائفة ، فتواجده وحلوله حيث يكون الصدق والبراءة في وجوه النقاء والعذوبة والنبالة حيث ينعدم الزيف تماما ، فهو يستخلص منها ، كما الرحيق ، دفق الفرح وكأساته المترعة حتي حافاتها بالعذوبة وبالنضوج ! و ... لكن ، لم كل هذا الحديث عن البنفسج ؟! ذلك بسبب من أن قصيدة محي الدين ، هي قصيدة الماء والعشب و المقاومة بإمتياز . وقد رأيته ، منذ وقت مبكر ، يحتفي بالبنفسج والنبات والزهور في قصيدته ، وسنري ، من بعد ، كيف سيكون في نداء البنفسج في قصيدته البديعة " أعراس " ،
وكيف قد جعله مفتتحا ضروريا للوحات قصيدته .

عن الشاعر :

محمد محي الدين خلص شعره ، دفعة واحدة وعلي طول مسيرته الشعرية ، من مظاهر ضمور الرومانسية وموتها المبكر ، ففتح أمام قصيدته أفق شاسع في المدي ولإحتمالات عديدة لا تحدها حدود . فلم يكن أمامه من سبيل سوي أن يلخص تجربته ، ويشحنها بلوعة عميقة خاصة لمدينته ولوطنه ، ذلك الوطن الجريح كل مرة ويتناوشه الوحش لينشب فيه مخالبه وأسنانه فيدمي أطرافه وجسده ، ليبدأ منه النزيف ، الذي هو جراح الشاعر ونزيفه أيضا لا محالة ! لكن ، تلتحم معها وتعايشها ، فيجعل القصيدة تقول بما لاتستطيع قوله الكتابة في ظل غياب الديمقراطية ومصادرة أدوات التعبير . الشاعر قد
أمسك – من قبل ومن بعد – بمفردات قصيدته ولغتها ، وجعلهما زادا إليه ومؤنة ، في مسيرته الشعرية . جعلها محكومة بضابط موضوعي وهم شعري واحد هو : الوطن ، بتجلياته المتعددة كلها وبعمق الدلالات الكامنة في موضع الجوهر منه . وهو قد إنتبه ، منذ البدايات الأولي لتجربته الشعرية ، لصوت يناديه من الأعماق النقية التي يلتجئ إليها ، مشدودا بكلياته وقدراته الشعرية إلي صوت " فاطمة " حد أن شرع قي الرحيل إلي صوتها و ... إليها . باكرا قد رحل إليها بالفعل ، وهو في ذروة زمن رحيله ، يجد تمام عافيته الشعرية ولقصيدته لمعانها وتوهجها وإستمرارها الوجودي ، رحل
إليها ، إلي فاطمة / البلاد ، ليعاني عبء مسارات ومتطلبات قصيدته ومن ثم تجربته نفسها ، يعاني ليكتب ، ويكتب ليكون في فعل المصادمة لذلك الواقع المزرئ ويسعي لتغييره عبر رؤياه في القصيدة و الكتابة . فنجد أن مفردات الطبيعة في قصيدته ليست مظاهر جمالية مجردة ، لكنها عنده طبيعة مجسدة في الواقع أمامه ، يلامسها هو وكذلك تلامسها قصيدته نفسها ، فيعايشانها معا كما يفعل الناس من حولهما . لهذا ، نجد أن المفردات اليومية العادية وصور الطبيعة قريبة جدا لمفردة الشاعر ، ولذاته نفسها ، تماما مثلما هي قريبة أيضا للذات الجماعية من المجتمع الذي يعايشه
الشاعر بصدق ونقاء ورضي ! وبعيدا عن أية تهويمات فأن مشاعره الذاتية في قصيدته ، ليست تأملات مجردة مقطوعة السياق عن محيطها الواقعي ، لكنها هي مشاعر وتأملات إلتحمت بقصيدته نتيجة للأسئلة المريرة التي أبهظها واقع قاس أكثر مرارة , والثورة نفسها لديه ليست ، هي الأخري ، صورة لإستكمال شرط رومانتيكي ملحق بالقصيدة ، بل هي أجوبة باهرة ، لكنها أيضا ، نازفة بأوجاعها جراء تلك الأسئلة المقلقة المحرقة . لهذا ، أيضا ، نجد أن إختيارات الشاعر المبكرة في مجال تجديد وتطوير قصيدته ، هي إختيارات منسجمة كليا مع مشروعه الشعري والوجودي ، تتجلي في قصيدته
وكتابته المسرحية علي السواء ، ولعلنا لا نظلم الشاعر فيه أن رأينا أن خير تعبير عن ملامح وسمات هذا المشروع " التجديدي " لديه يظهر بتجليات واضحة في أعماله المسرحية ، حيث يضع تلك الإجابات في صور وتراكيب مسرحية واضحة ومعبرة بدقة لمجمل رؤياه وأفكاره في الحرية والديمقراطية والتحرر والثورة . لهذا ، فجعت شخصيا ، برحيله المفاجئ ، فلم يقل – بعد – كل ما لديه !

القصيدة ، أعراس الشاعر ...

محمد محي الدين يبدأ طقس أعراسه ، بالجلوس العظيم أمامها : أمام البنفسجة التي ذكرنا ، هي نفسها ، بلاده في إتساعها العميق ، في المعني والدلالة ، يدخل إليها بهو جلالها المهيب ، فأمامها وحدها يكون لمثل هذا " الكلام الفصيح " أن يطلع ، كما الرؤيا ، تبثق شاخصة في حضرتها البهية ، في ملكوتها بالذات ! الشاعر يعلم أن الأجساد قد نال منها تعب النضال ومتطلباته الخشنة ، قد أنهكها ، أو يكاد ، ذلك السعي المحموم الذي لا ينتهي لأجل أن ينال الإنسان كرامته وعزته وشموخه وكبرياؤه ، ذلك مما يصيب الناس وهم يكابدون في منازلة القمع والظلم ومحاولات
الديكتاتوريات سحق آدمية الإنسان . هذا النير القاسي الذي تمارسه الديكتاتورية وعلي أوسع نطاق تجاه الآخر ، أؤلئك الذين يملكون أفكارا ورؤي وأطروحات غير تلك السائدة بتوقيع الأنظمة في المجتمع ، وتسعي سعيها كله بوسائلها الهائلة في الإعلام والأمن علي بسطها في المجتمع كله ! الحرية للإنسان كانت هي رهان محمد محي الدين ومطلبه الذي ظل يلح عليه ، كان يمني نفسه ، وشعره أيضا ، أن يجدها متحققه واقعا في الوطن لدي عودته من بعثته في اليمن ! ولكنه ، ويا لحسرة الشاعر فيه ، لم يجده ! بل وجد " مسوخا " قبيحا يتحلقون ويكبرون لسوءاتهم أمام بنفسجته ، بالسلطة
والصولجان والسطوة والقمع والظلم يفعلون ، ويرقصون ، ويا لخطابهم الفج المشوه يسوقونه للمجتمع ! تلك كانت حسرة أخري تقترب من رؤي الشاعر ، تسعي لتنال منها ومن قصيدته . لكنه ، سرعان ما ينفلت من إسارها ، يبيعد عن " المسوخ " ويلتجئ إلي قصيدته ، فتسطع في بلاده التي يعشقها حد الوله ، فيصرخ ، مثلما فعل عبد الصبور ، في وجهها :
( إلي ، إلي ياغرباء ...
يافقراء ، يا مرضي ،
كسيري القلب والأعضاء ! ) ...
لكن ما يميز محي الدين عن عبد الصبور ، أن الأخير إلتجأ إلي التصوف والمرموزات المسيحية زادا لمسيره صوب الخلاص ، لكن محي الدين ، يشهر ، في الملأ ، إلتزامه بشعبه ووطنه وقضاياه الحيوية ، ينادي الناس ليعلن فيهم ، وفي الوطن ، موقفا إيجابيا ومنحازا بكلياته لأجل قضاياهم وخلاصهم !
يقول محي الدين :
( يا بنفسجتي ،
آن للفرح الآن أن يتفجر
فإقترحي رقصة المهرجان
النشيد الموقع بين الدخان
وعينيك تحت اللهب ! ) ...
هو هنا ، يضبط وقته ، في الحياة والشعر ، علي اللحظة الراهنة بالذات ، والتي لا مندوحة من أن يطلع منها الفرح ودماء العافية في الجسد ، هو طلوع ، لكنه في قوة وشدة الإنفجار والإعصار والزلزلة ! ولأجل هذا الطلوع في شموخه فأنه يقترح لبنفسجته " رقصة المهرجان " ، رقصة في بلبال النضال ، التي تدفع بالدماء الحارة في الأجساد المتعبة فتستحيل قوة جبارة تدفع بقوة ومثابرة بإتجاه التغيير المنشود ، وإلي الثورة ، يحدث كل ذلك ونشيد الثورة موقعا عليه " بين الدخان " وعيونها ، التي هي تحت شرارات اللهب ! لكن ، هنا ، يحق لنا أن نسأل الشاعر : لمن تكتب ؟
.. ( للمدينة هذي البطاقة ،
للأصدقاء القدامي
وللجدد المتعبين ...
وللفرح الطالع الآن من قلب
هنالك علاقة متوترة نشأت منذ زمان بعيد بين الشاعر ومدينته . نقول متوترة ، لكننا نعني أنها ذات حساسية عالية ، وتمتاز – تلك العلاقة – بشفافية عميقة ذات دلالات عديدة في شعره ، الذي هو رؤيات الشاعر وبصيرته في الحياة الواقعية في مستويات الراهن واليومي . هذه الألفة للمدينة وناسها أكسب صوته فرادة وخصوصية مبتكرة قل أن تجد لها نظيرا في شعرنا . أن ود مدني ، التي كان يأتيها الخليل ، في لحظات التوتر الحاد بين الرؤية الشعرية ومتطلبات النضال الوطني ، فيرتاح لديها برهة ، علي صدرها وبين ساعديها ، هذه المدينة التي غدت دالة علي محي الدين نفسه ، تجد
لها عرشا وثيرا مشبعا بالشذي وعبير أناشيد وأغاني النضال ، هكذا ، غدت عشقه وأحد أهم ملامح قصيدته . لهذا تراه يعلنه ، هذا العشق ، في الملأ ، هذه المحبة الناضجة ، فيقول أن بطاقات ولوحات قصيدته جميعها هي لأجلها ، لأجلها بالذات ، وللأصدقاء القدامي وللجدد المتعبين ، لكنه ، يؤكد ، دائما ، أن هنالك ثمة فرح سيأتي ، وسيطلع من بؤرة التعب التعب نفسها . ونلاحظ ، كيف للعينين تكونان وهي تحت اللهب ، تحت العسف وتحت الأقدام الغليظة للديكتاتورية . ولكن ، أيضا ، أن لمثل هذه الأقدام – عادة – لغة لدي الشعراء ، تماما مثلما للمدينة لغتها عندهم . فلمن ، تكتب
، أيضا ، أيها الشاعر العظيم كلماتك الساطعة المتوهجة لغة ودلالة ؟

اللوحة الثانية :

... ( لبنفسجتي نلتقي الآن .
أعلن بأسمك ،
أن جديد العصافير – في ظل
يناير المتجدد
في ظله المتمدد
في نجمه المتفرد .
للبحر ،
للشجر المتمرد
هذي البطاقة ...
للبحر ، للبر ، للمتعبين بليل المدينة
للواقفين بشباكها
وعلي باب متجرها ! ) ...
الشاعر ، الآن ، وفي هذا الوقت بالذات يلتقي بنفسجته / حبيبته التي يعشقها بولع وجنون ، يلتقيها ليعلن بأسمها هي ، لا غيرها ، ويقسم أمامها أن " جديد العصافير " سيأتي ، ستأتي في الغد الجميل الحرية والأغنيات ، الأناشيد وشعارات المرحلة ، قادمة لا محالة ! في هذه اللوحة تلبس القصيدة أردية الأمل المرتجي في أعماقه الخصيبة ذات البشارات . فالعصافير هي وعد وأمل مرتجي للشجر وللإخضراروللآمال الكبيرة في صيرورتها المتدفقة واستمرارها . ومعروف أن يناير هو شهر السودان المجيد ، رمزا لعزته وسيادته ، الوطن في تساميه وتعاليه علي الجراحات ونزيفها ، فهو
مجرح ومضرج بالدماء ، لكنه في جوهره ، معافي ونقيا وصلبا ، يتعمد بالدم ليصير صقيلا ناصعا بعد كل جرح ونزيف ، وبعد كل معاناة يخوضها . أن في أشعار محمد محي الدين ، في قاموسه الشعري بالتحديد ، تجد المفردات والعبارات يكسبها معان ودلالات مضيئة فتكرست في القصيدة لتضيئها : النجم المتفرد / البحر / الشجر المتمرد / البر / وليل المتعبين ( القدامي والجدد ) ، وهم أهل المدينة ، جميعهم حاضرين في ليل المدينة ونهاراتها في إصرار عتيد ، هم أناس الشاعر ورفقته الحميمة ، يعيشون أيامهم في قصيدته ، يقفون علي شباك المدينة وأمام أبواب متاجرها ، في أزقتها
وشوارعها ، تحت ظلال أشجارها المتمردة ، وعي شاطئ نهرها الرحيم ، هم ، جميعهم ، شخوص وحيوات قصيدته ومادتها الحية ، خميرة حياتها وزبدة عنفوانها !

اللوحة الثالثة :
... ( أننا ، يا بنفسجتي
الآن ، نترع البهجة القمرية
والفرح القزحي ...
الزغاريد تمرق من فوهات الحديد
المراجيح تخرج من فتحات المخازن
الرقص يشتد
الطبل يحمي – الدلاليك .
يخرج أطفال كل القري
من جيوب التجار
وتخرج هذي القصيدة
للبحر
أو للشوارع
أو لبنفسجتي ! ) ...
الشاعر هنا يقاتل باللغة الشعرية فتثتأثر وحدها بصوت الشاعر وتنتمي إلي وجهه وقصيدته . هو لا يكتفي بصليل الألفاظ وجرسها الحاد ، فيميل أحيانا كثيرة إلي الهمس والبوح الشفاف ، وليقترب – في ذات الوقت – إلي اسلوب مجايليه في القصيدة الحديثة ( الحديثة وقتذاك ) ، ولهذا تجد في قصيدته تتضافر لغته مع النزعة التبشيرية التي تلازم أدواته الشعرية في حميمية عميقة الأبعاد ، حد أن تقترب من لغة الحديث اليومي العادي بما يحاكي الواقع ، ولكن بسمات شعرية راقية وجذابة . يحدث كل ذلك لأن الشاعر يشارك ، شخصيا ، في النشاط التحرري والحراك الثقافي في مجتمعه .
وكل تلك المفردات في قصيدته تأخذ كامل زخمها وحيويتها ونضارتها : " البهجة القمرية " ، و " الفرح القزحي " ، و " الزغاريد " ، والمراجيح " ، ثم " الرقص الذي يشتد ويزداد صخبا وضجيجا وعافية في حضرة " الطبل " الحامي الذي يكاد يلتهب نشوانا وحماسة وفرحا ، و " الدلاليك " توقظ الناس وتلبسهم عافية الصحو الجميل واليقظة للفعل النبيل ، ليخرج ، من بعد ، أطفال كل القري بلا إستثناء ، يخرجون إلي الساحات والشوارع ، إلي حيث الملأ ، إلي حيث الشوارع النديات بالحضور البهي للحشود ، وبعافية الإندلاق علي نيران ذلك المشهد الخلاق ، يخرجون ، أولئك الأطفال الرائعون ،
زرافات كالشموس في سطوعها من " جيوب التجار " ، يخرجون من وسط ذلك الركام والجشع وسطوة رأس المال الطفيلي بكل حيفه وجوره البائن وحقارته ، بخروجهم الجسور يخلقون حالة إبهار ونشوة عارمة و ... عامة ! في معيتهم تكون قصيدة الشاعر ونداءه ، تخرج إلي حيث البحر ، ومن لا بحر له ، لا بر له علي قول درويش ، خروج ، إذن ، إلي الشوارع ، أو للبنفسجة علي قول محي الدين . فأنظر كيف يحيي الشاعر طقوس الفرح والعافية والنضال كاملة البهاء ، تضئ في الناس كما البلور الصافي النقي ، كدوالي القمر في حلته المذهبة تتدلي طقسا رحيما علي العشاق في لحظات نجواهم الحالمة من فوق
، فيجترح البهجة ذات الصفة القمرية ، و ... يعلن فرحا ممكنا في زمن فج دبق ! الشاعر يكسب شعره خاصية الفرح ، تطلع القصيدة أغنية من بين الركام فتندلق الزغاريد تشعل المواجد والنفوس ، ذلك فرح الوطن و إمكانيات إنتصاره الآتي أيضا ، تطلع من
" فوهات الحديد " ، تنسل من بين أصابع القمع والإرهاب ، ميلاد حقيقي مكتمل للفرح الشعبي في إزدهاره ونموه ، بشارة وإشارة بغد جميل سيأتي !

اللوحة الأخيرة :

... ( يا بنفسجتي ،
للمدينة حبي – وكل الحقول لك
النثر والشعر – نيل المدينة ،
أطفالها ومراجيحها ...
والظلال التي نلتقي تحتها ،
والبطاقات ...
هذي البطاقة – يا بنفسجتي
لصديقي الذي كان يرسم عينيك
ها هو الآن يمسح عينيه
من تعب ،
ويلون بالأخضر ...
الآن كفك مخضوبة ! ) ...

هنا ، أيضا ، الشاعر يبدأ طقس إعترافاته أمام بنفسجته ، التي هي بلاده ومدينته وحبيبته في آن ، ليؤكد ، أيضا ، حبه لهما ، وفي إفادته يقول أن كل الحقول لها ، كل النثر والشعر ... أراه يوضح ، بجلاء هنا ، رؤياه في الشعر والمسرح ، أعماله التي في جملتها منحازة بكلياتها لحيثيات الوطن وقضاياه الحيوية الجليلة كلها .ثم ، يضيف أشياء الحياة الجميلة فيجعلها إليها وحدها : نيل المدينة ، أطفال المدينة ومارجيحها ، ظلال أشجارها ملتقي الأصدقاء الجميلين والثائرين ، و البطاقات ، بطاقات الشعر والنثر أيضا ، قرابينك يا محي الدين ! ثم ، يستدرك فجأة ، كمن يصحو
وينتبه لفرط تداعياته وصوره الشعرية التي تمسك ببعضها في دفء حميم ، فيضيف : أن هذه البطاقة بالذات لصديقه الذي كان يرسم لها عينيها ، يراه الآن ، يمسح عينيه من غبارإنتهاكات عسس النظام وجلاوزته ويشرع يلون بالأخضر كفيها ، ذلك لأجل صديقه التشكيلي الشهيد طه يوسف عبيد . يلون كفيها بالأخضر لون الحقول ، لون الغصون والعشب والأشجار وعصافيرها ، لون القلوب أيضا ! ونسأله الشاعر أيضا : كيف له يلون كفيها بالأخضر والدم يسيل من بين يديها ، و ... الأحمر – لون الدم – لا يكذب يأتي ، كيف ؟ لكنه ، نتصوره يجلو عنها لون الدم ليجترح الأخضر يبقي مواتيا للفرح
بعد الإنتصار !
لمحمد محي الدين قصة طويلة الفصول مع الألوان والتشكيل والرسم ( لاحظ علاقته الشخصية العميقة مع التشكيلي الشهيد ) . اللون والألوان جميعها لها في قصيدته علاقة عميقة الأبعاد ، دافئة دفء ليالي الشتاء الجميلة ، ذات دلالات ومعان نبيلة ، واضحة الملامح في قصيدته وفي حياته نفسها . وللشاعر مطولة رائعة وتحتل مكانا مرموقا في تجربته الشعرية ، كرسها بالكامل لصديقه التشكيلي الشهيد طه يوسف عنونها : " عشرة لوحات للمدينة وهي تخرج من النهر " ، قدمها تحية وتذكرة لروحه ، كتبها في يناير 1982بود مدني ، يقول في اللوحة العشرة منها :

( أخضرا كان لون الحقول
ولون الغصون ،
وأشجارها والعصافير .
كانت مياه الجداول زرقاء ...
والنهر غير أزياؤه
والمدارس
والمصنع ، الدور ...
والأحمر الآن .
أن الشوارع غارقة في الدم الأحمر .
والأحمر
لا يكذب يأتي
في سراويل من الدم يأتي
راجلا يسبق
آلاف الخناجر ! ) ...
أنا علي يقين ، أن علاقة الشاعر بذلك الفنان المرهف المبدع ، ذو الحساسيةالفنية العالية العميقة للفن والتشكيل ، هي التي – من بعض وجوهها – خصبت رؤي وقصيدة محي الدين بتلك الألوان البهية وبتلك اللوحات الرائعة . ولعل قصيدة " أعراس " موضوع هذه الكتابة ، تكون بذاتها دليلا ومؤشرا بالغ الدلالة علي عمق تلك العلاقة الفريدة ، التي أتت بجماليات التشكيل وزخمه البديع إلي رحاب وضفاف قصيدة محي الدين ، بل شكلت ، كما أري ، في تضاعيفها ظلالا لألوان شتي متألقة بتقنية معاصرة في التشكيل ، كمعرفة وكرؤيا بصرية ووجدانية تلتحم في نسيج القصيدة ، ومنها تشع
كما الشهب ، تجدها هنا وهناك ، فيما بين المفردة الشعرية والآخري المجاورة ، فيما بين الصورة والصورة ، فيما طلعة القصيدة وطلوعها ، حضور لوني بهيج يلون كل تخوم قصيدته في أية وجهة نظرت إليها ! هكذا رأيت محي الدين في تماهيه مع التشكيل واللوحة وعناصر الألوان في إختلاطها وبزوغها ، في كامل أبهاء صيرورتها ، ذروة الجمال اللوني مندغما في لغة وصور وروح القصيدة ، ذروة الوسامة الشعرية ، ضد قبح اللحظة الراهنة في الزمان القاسي !
وتمضي القصيدة في تواترها ، ليستدعي الشاعر لبنفسجته المقولة السائرة في الناس : ( أن خضاب الرجال الدماء ، وخضاب النساء الحناء ! ) ، لكنه لا يورها كما شاعت في الناس ، بل يبدو مستدركا لحديث وبوحه وقفة ما ، وتأملا ، فيذهب منحي آخر ، جديد ومبتكر ومخالف للمألوف ، " يعتذر " عنها رغم إنها سارت في الناس كالمسلمات ، يعتذر فيقلب المقولة تماما حد يكاد يقضي عليها ! فالأخضر لون يحبه الشاعر جدا ، تكاد لا تخلوه منه أيا من قصائده ، ثم هو لون ورمز لصديقه الفنان الشهيد ، محببا إليه أيضا ! يعو لقصيدته توا ، إلي حيث توهجها وهيجانها الباقي ، فيطلب من بنفسجته
أن " تقترح رقصة المهرجان " ، وأكاد أري في رقصة المهرجان نفسها خرائط ملونة بإختلاط اللون وتمازجه بالموسيقي و ... بالرقص ذاته ، رقصة ، لكنها لوحة تشكيلية مكتملة الألوان مرقشة علي الجسد ، واللون في مكان الجوهر منها ، أحدي عناصرها الأساسية .
... ( يا بنفسجتي
غير أن خضاب الرجال ...
أعتذر !
أقترحي رقصة المهرجان .
سأعلن بأسم القدامي أو
المتعبين الجدد
بأسمك المتفجر في داخلي
سوف تهتز كل الشوارع بالفرح .
وأحبك ...
سينفجر الحزن بالمزن
والموت بالصوت ! ) ...

عند هذا المستوي من القصيدة ، تجدها مجللة بالكامل بالتوتر الحاد تجاه حركة الواقع وتجلياتها ، والشاعر مولع ومهجوس بالتجريب ، وبالبحث المستمر الذي سيكسب قصيدته وجها وملامح متفردة وذات خصوصية . ومغامرته المدهشة هذه تخلق اشالها من ذات نفسها ، تلك الأشكال والصور الفريدة في قصيدته ، تحتوي في مكان القلب منها ، حسه العميق ، بوتائر عالية مشدودة إلي واقعه وطموحه المحموم إلي إحتواء هذا الواقع دفعة واحدة ، لكنه يعيد خلقه مرة أخري خلقا يتيح له ، من بعد ، معرفة هذا الواقع وتأمل كل قسماته وملامحه وقوانينه ذوات الفعالية المؤثرة التي يرها فيه
ويكتشف تضاريسها ببصيرة الشاعر فيه ، وهي كامنة ، علي ما يبدو ، وساكنة ، علي السطح ! ولكن ، ما الذي يود محمد محي الدين أن يقوله من خلال قصيدته ؟أن الشاعر كما عرفته ، وازددت بها من خلال قصيدته ، هو فنانا واعيا ، والوعي هنا هو قرين كل الكينونات التي عبر بها عن موقفه بإزاء ما هو كائن أمامه ، في ذات اللحظة التي تولد فيها قصيدته . وفيما أري فأن إمتياز محي الدين وإنجازه الكبير في القصيدة ، يكمن في محاولته الجسورة في تخطي وتجاوز اللغة الشعرية السائدة ، إلي حيث تكون اللغة في القصيدة لغة جديدة بالكلية . وهذا ما إستدعي ، بالضرورة ، واقعا فنيا
جديدا لقصيدته . لأن فن الشعر هو علي التأكيد ، بناء لغوي متماسك البني والمستويات ضمن إطار شكلي فريد ، وصور شعرية مبتكرة وراقية و ... نامية . وهذا هو ، بالضبط ، ما نجحت فيه قصيدة محي الدين ، فظلت في الفضاء الشعري في بلادنا ، متفردة وذات خصوصية ، لا تشبه أية قصيدة ماضية ، ولا أية قصيدة راهنة . ولهذا نقول ، بإطمئنان ، أن لمحي الدين صوت هو صوته هو ، لا شبيه له !
بعد أن اقترح الشاعر لبنفسجته " رقصة المهرجان " ، سيبدأ يعلن – أمام شعبه ووطنه ومدينته وأهلها – حيثيات مواقفه كلها ، بصورة يقينية صارمة هذه المرة . وإعلانه يأخذ صيغة " القسم " ، خوفا من النكوص علي ما يبدو ، يقدمه أيضا بين يدي بنفسجته ، ويكون إعلانه بصيغة الجمع ، فلسانه غدا لسانا جماعيا ، وضميره جماعيا ، ووجهته جماعية ، وقصيدته – بمفرداتها وصورها وتراكيبها – تأخذ وجهة هي الأخري جماعية ، ليست ذاتية . أن قصيدته قصيدة الشخوص والدراما والحوار ، جماعية في الرؤي والأخيلة ، بأسم الجميع كما يقول ، هكذا علي اطلاق صيغة الجمع ، " القدامي أو
المتعبين الجدد " ، وبأسمها ، تلك البنفسجة العفية ، بكل الدلالات والإحالات الكامنة ، كالبذرة النامية فيه ، فتتفجر منه اللغة والكلمة والعبارة ، صورا ومعان . عند هذا المنحي يجئ إعلانه ، المنفستو الذي تسعي قصيدته كلها في أثره ببطء وبمثابرة وإصرار عجيب :
... ( سوف تهتز الشوارع بالفرح
وأحبك .
سينفجر الحزن مزنا
والموت بالصوت ! ) ...

ذروة الإنتماء للإنسان ، ، في بساطته وتلقائيته النقية ، ويسعي صوب إكتمال إنسانيته ، والعوة الجهيرة لإحترامها وصيانتها ، تلك المبادئ ترقي لدي الشاعر لمرتبة القداسة . عندما يختلط ذلك الحزن ، الطارئ المؤقت ، بالمطر فسيكون ميلادا وإخصابا جديدا للحياة القادمة ، الحياة الجميلة التي تستحق أن تعاش كما قال درويش ، وأن يضحي الإنسان بحياته نفسها لأجل صيانتها وصيرورة إكتمال دوراتها . عندها سوف " ينفجر الموت بالصوت " ، مطر الحشود يزهر صمودا ومقاومة في الناس ومنازلة للطغيان ، الشاعر هنا جعل من الصوت حياة محضة في مواجهة الموت الذي هو فناء وعدم
كما هو معلوم . قبله كان درويش قد قذف في وجوهنا سؤاله الجارح : (هل يصل الصوت / أم يصل الموت ؟ ) ، وترك للقصيدة كامل حريتها فتتقدم للإجابة علي هذا السؤال الفذ ! محي الدين خلط الصوت بالموت في تلازم رهيب ، في تلازم المصادمة ، ليطلع منهما صوتا منتصرا بالمطر والحب والشعب ، يفصح الشاعر بدواخله ، بيقيناته صوب شعبه ووطنه ومدينته وأهلها :

... ( يا بنفسجتي وأحبك .
يتفجر الوعد بالرعد
والشرق بالبرق
والطرق الجانبية بالفقراء ،
فأنشرحي .
يا بنفسجتي ،
ثم أني أحبك
و ... ... ! ) .

هكذا ، إذن ، تنتهي القصيدة ، هي بالأحري ، تبتدي !
ولكن : هل هذا العالم الذي يكتب من وسط قسوته الشاعر قصيدته ينتمي إلي الغاب ؟ أن فيه ، علي التأكيد ، بعضا كثيرا من ملامح الغاب ! أذكر أن الشيخ أمام كان يغني وهو وسط جموع الفقراء و " المتعبين " في أحياء القاهرة الفقيرة ولياليها المكتظة بالعسس ، بنبرات صوته القوي البليغ : ( غابة كلابها ديابة / نازلين في الناس هم / هم ... هم ... هم ! ) . ولكن ، أن تكون للواقع بعض ملامح الغابة أو جلها ، في زمان يتسيد فيه الطغيان ويستشري ، أو أن الناب والساعد يصبحان هما القانون السائد ، فذلك ليس أمرا قدريا لا فكاك منه علي أية حال ولا مناص منه ، نقول ذلك ، ونحن نعلم ،
يقينا ، أن مثل هذا العالم قد يكون ، علي الأرجح ، خاضعا لقوة ذات سطوة باطشة وجبروت ، مفارقة للموضوعية والعقلانية ، بل هي مخالفة للناموس البشري نفسه ، ومتعالية ، ولربما تكون ، أيضا ، سائدة لبعض الوقت ، يطول أو يقصر ! تلك القوة القسرية المفروضة بأدوات البطش والقمع ، متعددة الأوجه ، لكنها تختلف – كليا – عن الواقع المتسربل بحيثيات اليومي المعاش للناس في راهنهم ! لهذا نجد أن شخوص محي الدين هم أناس بسطاء ، فقراء جدا ومتعبين ، لكنهم نبيلون جدا يعيشون الحياة ببراءة الأطفال وصدقهم ، كما يعايشون ، في ذات الوقت ، العذاب اليومي والعسف يطالهم
فلا ينال من أرواحهم و وعيهم . يحسونها ، النبضات الإنسانية كما هي : الحب ، الحقد الطبقي والوهم ، الإحتيال والزيف والنفاق والخداع ، دسائس ومكر الساسة والمجتمع ، تماما ، مثلما هم يحسونها : صدق الكلمات والعبارات ، والنقاء البشري والطهارة ، النبالة وجسارة الموقف وبسالة الفعل ال يضئ ! لهذا ، نري محي الدين يحتفي أيماء إحتفاء في قصيدته بالفقراء الذين يسلكون في الطرق الجانبية الفقيرة المظلمة ، ليلتقوا مع رصفاءهم تحت ظلال الأشجار المتمردة ، متمردة علي قوانين الإستثمار للقطع الجائر لها ، حياء ونبالة ومواقفا ، حتي السكاري ، والمتعبين الجدد
هم الشخوص الأثيرة لقصيدته !
لأجل هذا كله ، نجده يعلن حبه لبنفسجته مجددا ،علي تواتر مسار القصيدة ، ولا يمل عن تكرار " لازمة " القصيدة ، ذلك الحب الخرافي العميق ، التي هي ، زيت قنديله وضوء شموعه الذي سيتواصل توهجه ولمعانه ، وطويلا جدا سيظل ، فيناشدها بنفسجته ، بتمن وحنان :

... ( فإنشرحي
يا بنفسجتي ...
ثم أني أحبك ،
و ... ... ! ) .

لا ، لا ، حاشا نقول أن أعراس محي الدين تنتهي هنا لا، لكنها ، بحق ، تبتدئ من هنا ! فقد قصد الشاعر أن يتركنا فيها في موضعها هذا ، مشرعة أبوابها ونوافذها كلها صوب إحتمالات وتفسيرات كثيرة محتملة ، عظيمة وخصبة ، وذات ثراء وغني فذ ! أنا ، ذلك فيما يخصني ، لن أكتب عن هذه الخاتمة ، التي هي في قناعتي ، بداية أخري دائرية ، حلزونية الصعود ، متوهجة ولامعة . فالقصيدة تدور وتدور علي محورها نفسه ، مرة بعد أخري ، فتغدو – ويا للعجب – خاتمتها هي نفسها بدايتها ! كنت في أمل كثير أن أجالس الشاعر ، ثم أحاوره ، عن الصيرورة المتنامية لأشعاره ، ولمسرحياته
ومبادراته المسرحية ، و عن بدايات قصيدته هذه وخواتيمها التي جعلها مشرعة كشراع في الريح ! كنت أعلم أن تلك المجالسة ستكون ، لي عل الأقل ، ذات شأن عظيم ، لكنه ، لكنه ، لحسرتي العميقة ، أختار أن يكون منا في الرحيل ! لست أدري ، بعد ، لم قد فعلها ، هكذا ، صباح الثلاثاء 26/ 5 الماضي و ... غادرنا !! ستبقي ، يارفيقنا ، نعم ، رفيقنا الشيوعي ، بالفكر والشعر والأدب ، خالدا في ضمير شعبنا عبر إبداعك الجميل ، و ... في الحزب ، ستظل مثير الأسئلة المحرقة ، لنا جميعا يا محمد !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا