الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشارعُ السياسيّ بعد غياب المثقف

محمد الأحمد

2005 / 10 / 14
الصحافة والاعلام


مقالات: أحمد عبد المجيد
قراءة : محمد الأحمد
ما بين السياسي والمثقف ثمة بون شاسع يقف إليه القارئ في كتاب (الشارع السياسي- صادر عن مكتبة اليقظة العربية 2005م)، حيث يمتثل السؤال شاخصا حول من هو المثقف الفاعل في الكشف واستقراء المستقبل، ومن هو السياسي العامل في ارض الواقع الملموس، ومؤلفه (احمد عبد المجيد) احد وجهات الأعلام الفاعلة في العراق الذي بقي منتجاً بعطاء على مدى أكثر من ثلاثين عاماً، وقد حايَثَََ أهم التحولات الجذرية الحادة التي خاضها العراق الحديث ما بين عهدين طويلين، الأول امتد لأكثر من خمس وثلاثين عاماً تحت وصاية الفكر الواحد، والنظرة الضيقة، وقد خلف العراق بعده كسيرا متصدعاً تتناوشهُ قوى تودّ تمزيقه إلى نتفٍ كأنها قدره المحتوم، والعهد الثاني، هو يومنا هذا، الذي لم نر فيه ما قد وصفوه لنا، عهدُ الانفتاح والديمقراطية التي تمنهجها الإرادة البراغماتية نحو (شرق أوسط جديد)، حيث جاءت عاصفة حافلة بالجديد الجاد على أنقاض انهيار الأول وما خلف من انسلاخ قاس في كل حيوات مواطنينا العراقيين، عانّ فيها المجتمع العراقي برمته بلا استثناء، وبكل طيفه، من جملة مسائل أهمها صراعات المؤسسات الاستحواذية مع بعضها على ارض العراق، إرهاباً، وثقافة، وموقعاً، بشتى السبل، فأخذت عواصفها تجرف الدم العراقي الزكي، ما بين سيارات مفخخة وعصابات الاغتيالات التي لم تستثن أحدا، لا الزمان ولا المكان، والإنسان لا حول وقوة. (إن إحدى مهام المثقف هي السعي لكسر التصنيفات المقولبة، والمختزلة التي تحدّ من التفكير والتواصل الإنساني كثيراً- ادوارد سعيد ). من بعد أن خبر المثقف جيداً مساحةُ العالم الجديد، تحت ظل عالم الثورة المعلوماتية، وكان متطلعاً بعمق إلى اغلب موروثاته، وموروثات الأمم الأخرى، صار مستشرفاً على ما يجري من تغيرات على خريطة العالم الذي كان رازحاً تحت نير -الحاكم بالدكتاتورية المفرطة، إذ كان موقناً بان ما من حال يدوم، فثمة أنظمة اتخذت من الديكتاتورية سدّا منيعاً لتطبع أنظمتها الثقافية، على أساس (بأنك تستطيع أن تقيد الناس بسلاسل أقوى من الحديد عن طريق أفكارهم هم أنفسهم- ميشيل فوكو)، صار المثقف يرى أقرانه منقسمون إلى جهتين متعاكستين في الاتجاه، الآخر إلى أقصى اليمين تطرفاً، واليسار إلى أقصى اليسار تطرفاً، فالقلق والأمل صنوان لعملة واحدة على الرغم من تعارضهما. قلقهم في التغيرات المتينة للمستحدثات التقنية التي تفرضها القاعدة التكنولوجية، والتي تسير قدما بلا تأخر لتكتسح كل ما حولها، وما كان قديما في الفكرة والاستخدام يجده قد تفتت إلى نتفٍ صغيرة، وربما باتت لا تعني أحدا ابد، (فالفكرة الجيدة لا تذهبها سوى الفكرة الأفضل) والقسم الثاني من المثقفين قد وجدوا أنفسهم أمام عاصفة قوية من الإقتلاعات والأجتثاثات، فصار لزماً عليهم أن يتمسكوا بما كانوا يؤمنون به، أو ما كانوا يعملون به، يطوروه إلى الأفضل، و إلا عليهم بان يسلموا لما استحدث. فالثقافة وعياً في الوعي، والأداة، والمكان، والزمان. والمثقف هو من يعمل وفق نظام ما يكون عليه لزما الحضور في زمنه، ومكانه، مدافعاً بعلمية عما يراه جاداً، وجدياً، وفيه طموح لأن يطور ما كان يستحق التطوير، مستحدثا أنظمة غالبا ما تكون متداخلة من ثقافة الآخر، وربما، يكون المحتوى نفسه يسير حثيثا داخل المتعارضات بالتسميات، ويصبان في هدف واحد هو كيفية توسيع القاعدة لكل منهما على حساب الآخر. يكون المستشرف لما يجري أمام ناظريه، وقد أنجز ما يسمى بالتعددية الثقافية، كونها استعراض مقارن ما بين خيارات معرفية للأنظمة الثقافية؛ التي تشمل وحدات المعرفة بكل ما يتناوله الإنسان المعاصر، فهناك زلازل تهزّ هزّاً عنيفاً كل ضعف، وهي أنظمة (العسكرة) العلوم العسكرية، ونقلها إلى حقل الثقافة، أو بتعبير أصح، إلى بقية المجتمع والتاريخ، فتم تعميم مفهوم (العسكرة) الثقافية بحيث لم يعد مقتصراً على غزو الجيوش، هناك غزو عام.. غزو التجارة والسلع والأجهزة الالكترونية، وهناك غزو للقيم والعادات والتقاليد تتنافس في تحقيقه الفضائيات، ووسائل الدعاية. تعددت وسائله، وصار المثقف ينظر إلى مفهوم الغزو الثقافي في معانيه العديدة، وإتساعاته المفاهيمية، قلقاً بشأن وجوده، و مبهماً فيما يطرح عليه من جدل مفاهيمي بين قوى الحداثة وقوى التقليد، فالتيارات القومانية استخدمت هذا المفهوم أيضاً، دفاعاً عن ما كانت تطرحه لجمهورها، كشعارٍ سياسي ضد التيارات الاشتراكية في الخمسينات والستينات، وراحت العسكرة تغلف هذه المفاهيم كلما اشتدَّ الصراع بين الأطراف المتصارعة على الثروات والمواقع الإستراتجية، كذلك في ظل الصراع السياسي بين التيارات الأصولية والتيارات الليبرالية في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، كان العامل الاقتصادي على الدوام هو المحرك لهذا المفهوم (الشعار)، والمثقف المحايد يأخذه الذهول مما يكون عليه من تعدد في المفاهيم، وبين التطبيق الذي يجري عليه، وعلى أقرانه بمختلف المناهج، ولتستثني القيم الحقة، كونها أقنعة من اجل أن تعبر بالخطابات إلى ما تريد. ففي نهايات القرن التاسع عشر تنوعت الثقافات، الثقافة القدرية، والثقافة الاستعمارية، والأفكار المستوردة، والعقائد الدخيلة، وغيرها من الصيغ والشعارات التي تكرس لاحقاً في تعبير العسكرة الفكرية. تنتمي إلى الصراعات السياسية والصراعات الأيديولوجية. من اجل الهيمنة على الثقافة والهوية والتاريخ، والجغرافية، والثروة، وصارت قيم التنوير والنهضة والعقلانية والحداثة التي ظهرت لدى الآخر تسمى من الآخر غزوا ثقافياً، من بعد أن أصبحت قيماً كونية، و تراشقت التهم على (فلان) مثلاً داعية للآخر ومنبراً من منابر الغزو الفكري حين دعا إلى الشك (الفلاني)، وتطبيقه في تفكيك تقنيات الثقافة الأخرى. بينما (فلان) يتصدر الواجهة القريبة، كونه من نظام لا يختلف، ويكون الإنسان على الدوام هدفاً، لأجل أن يدجن بواسطة خطابات منظمة، تعسكره ساعة تريد، وتطويه كورقة عمل تأجل العمل بها، وطبول الإعلام تدمدم متناسية الجرح النازف، والموقف المتهاوي.. (للديمقراطية وقدٌ خاص في نفوس المثقفين، ربما لأنهم فرأوا عنها، وربما تلقوا فيضاً مما يدور عنها في المجتمعات الأخرى، وعلينا الاعتراف إن ما يصلنا من الخارج لا يعدو في بعض وجوهه المظاهر البراقة حسب، وإنما الجوهر فهو شيء آخر، وليس مختلفاً بالضرورة- الكتاب ص13) فالفضائيات تعلق صلبانها، وتصلب الشعب الذي اقبل على عموده بنفسه، بكل حرمان وتعطش راح العراقي المحروم ينهل من الفضاء الأثيري كل محطاته، والمطبوعات التي زخَّت عليه المقال بعد المقال، والتحقيق تلو التحقيق، حتى المواقع الأنترنيتية هي أيضاً التي لم تشأ؛ إلا أن تكون حاضرة في المجال الذهني للعراقي الحر العزيز الكريم، تريد (تقييده بسلاسل أقوى من الحديد عن طريق أفكاره نفسه – ميشيل فوكو).. والمثقف العراقي يرنو إلى بتطلعِ ابن أول الحضارات وأقدسها، في غمرة تنوع ثقافي خلفت له مفارقة معقدة تتعلق بالأوضاع المختلفة المتضاربة بين جيل و آخر، أو شعب وآخر أو بين منطقة وأخرى في أرجاء الأرض المعمورة (العالم قرية صغيرة). فكونها اتصلت المفاصل عبر بعضها البعض بواسطة الأثير التكنولوجي، وصار وصلة واحدة، فالاعتراف بالتنوع الثقافي اليوم، يعدّ أساساً للديمقراطية وصلبها، فهو ظاهرة حسنة، لأن مساره كمثقف كاشف في ليل حالك، جعل العالم من حوله قد امتلأ بالنزاعات الايدولوجية، بحيث لابد من الوقوف على بنية مختلف الحركات القوية في التاريخ والتي أعطته معنى من مرحلة إلى مرحلة أخرى، فصار التوجه الذي تطرحه بعض الإعلاميات، ويجد صداه لدى البعض فيدافع عن إقامة سياسات وطنية وإقليمية تحمي (المنتجات الذهنية) للشعوب ضد اضمحلالها، وعدم تطبيق نفس قواعد (المنتجات المادية) عليها. (لا نريد أن نأسف و نلطم أو نمزق الجيوب، فما فات قد مات- الكتاب ص122)، ففي حقبة وما بينها ظهر المثقف بصورة (دانتي)، و(كوبرنيكوس)، و(غاليليو)، و(ديكارت)، و(سبينوزا)، و(نيوتن)، و(كانت)، و(هيغل)، و(فيخته)، و(ماركس)، و(فرويد)، (ابن رشد)، و(طه حسين)، ليقول بالصوت الجهير (حقيقة إن ما يجري في مجتمعنا ليس من أخلاق مجتمعنا- الكتاب ص134)، وراحت الصورة البشرية تتسع لمدى أوسع على الرغم من انه قوبل بالتنكيل، والإجحاف. (فثمة خطر من إن صورة المثقف يمكن أن تختفي في كتلة كبيرة من التفاصيل، وان المثقف يمكن أن يصبح مجرد حرفي آخر أو صورة في وضع آخر-ادوارد سعيد )، فحدا ذلك التوجه الذي تدعمه المؤسسات التكنولوجية الاتصالية التي ترفض منح (المنتجات الذهنية) أي خصوصية كانت، وبالتالي فإنها تعالج التنوع الثقافي بتوسيع عروضها التجارية وجعل المواطن سوقاً للتوجه الذي يطرحه دعاة خلق مجال عمومي عالمي ما بعد قومي، (لان قدرة الناس على التضحية ومواجهة الموت لقاء هدف مجهول أو يتعذر تحقيقه، هي قدرة محدودة لا يمكن الركون إليها، أو الاعتماد عليها- الكتاب ص 36). والذين يرون إن تقلص أو نهاية الأمة يتطلب تدعيم مجتمع مدني مخلط ذي بعد دولي يؤمن التنوع الثقافي داخله وبما يخفف حدة النزعة الأصولية للاختلاف الثقافي والتي تنفي إمكانية تمازج الثقافات وترافدها. (دع الناس مطمئنين، أيها الرئيس لا أعينهم، إذا فتحت أعينهم، فما الذي سيرون؟ بؤسهما‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ دعهم إذن مستمرين في أحلامهم ‍‍‍‍‍‍‍‍- نيكوس كازنتزاكي )، بمعنى إن المثقف لم يكن في يوم ما أداة بيد احد، فهو المستقرأ، المستشرف، الباصر.. يرى عن بعد أن السياسي منفذا للقرارات التي تمسي مقررة من مقرر لا يقل شاننا بثقافته عن ثقافة المثقف. (ليس هناك أية قطيعة بالمعنى الحرفي، فإذا حدثت قطيعة سياسية فان امتداد بقية الميادين يأخذ شكله بصور وعلاقات متعددة ابسطها هو التبادل الثقافي والتواصل الاجتماعي- الكتاب ص 29)، أسئلة شاخصة تبقى متواصلة، ومتواترة يسألها الذي رأى ما لا يرى.. فالكاتب رجل إعلام محنك، وأسئلتهُ تفيض حيوية، وجاءت بلغة جزلة شفافة، تصل المتلقي بيسر (إن بعض القضايا الصغيرة في الحياة قد تتحول إلى معضلات في الشارع السياسي، ويجب أن نتدارك ذلك بحكمة وبتدابير جريئة.. فهل نفعل؟-الكتاب ص 69).. تسير حلقات الزمن متواصلة، ولا تنفك إحداها من الأخرى، فينتج المثقف دروسا وعبرا لن تتجاهلها أية مدرسة سياسية، كونها تحتاج العين الشاملة التي ير بها المثقف ذاته وسط عالم يعجُّ بالانهيارات، و شارع المثقف يواصل كشفه لأي مقرر سياسي، فالمثقف يعرف بان الحرف إشارة، وان النصح إضاءة في طريق مظلم وعر (علينا أن نسأل أنفسنا ماذا فعلنا لغدنا، ماذا أنجزنا إلى اللذين يأتون من بعدنا في ميادين الحياة أو في معترك المسؤولية التي توليناها- الكتاب ص 109)...
‏الخميس‏، 19‏ مايو‏، 2005








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. على حلبة فورمولا 1.. علماء يستبدلون السائقين بالذكاء الاصطنا


.. حرب غزة.. الكشف عن نقطة خلاف أساسية بين خطة بايدن والمقترح ا




.. اجتماع مصري أميركي إسرائيلي في القاهرة اليوم لبحث إعادة تشغي


.. زيلينسكي يتهم الصين بالضغط على الدول الأخرى لعدم حضور قمة ال




.. أضرار بمول تجاري في كريات شمونة بالجليل نتيجة سقوط صاروخ أطل