الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بوش كمخلِّص: جذور النظر الى أميركا

سلامة كيلة

2005 / 10 / 14
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


هكذا رسم بوش ذاته، حيث أشار إلى أنه " مكلَّف " برسالة إلى العالم أجمع، من الله غالباً، و من التاريخ أحياناً. و هذا ما كرَّره في خطابات عدَّة بعد الحادي عشر من أيلول. لهذا حاول أن يُظهر ذاته كناشر لقيم الحرية و الديمقراطية، و كمدافع عن قيم الحضارة التي تمثِّلها بلا منازع الرأسمالية القائمة. و لقد بذل جهداً كبيراً من أجل التأكيد على ذلك و توضيحه، كما عمل على نشر جيوشه في العالم، و خوضه الحروب، و إحتلال دول، من أجل ذلك. حيث أن نشر الحرّية و الديمقراطية يحتاج إلى القوّة كما أشارت معلّمته كونداليزا رايس.
و بالتالي كان خطاب بوش يرتكز على أن أميركا ( و هو شخصياً ) تحمل رسالة من الله ( أو من التاريخ )، و لهذا فهي مقدّسة و تستأهل التضحيات التي تقدِّمها، و أن أميركا جديرة بذلك، لتاريخها و لأنها تأسّست على رسالة. الأمر الذي يدفعها إلى التضحية بإرسال جنودها إلى الحروب من أجل تدمير قوى الإرهاب و قوى الطغيان. إنها رسالة مقدّسة يجب أن تُبذل التضحيات من أجلها دون تردُّد. و الخطاب هنا عاد ليتّكئ على المقدّس، مما يوضّح خطورة الممارسة التي تحتاج إلى ذلك لكي تبدوَ صحيحة.
و ربما يكون هذا الخطاب " الأيديولوجي " ضرورياً في بلد مثل أميركا، يعاني من أزمات عميقة تفرض عليه السيطرة على العالم بالقوّة، و تفرض مصالح الشركات الإحتكارية متعدية القومية " فتح الأسواق "، و كذلك تفرض إحتكارات النفط " وضع اليد " على كل مناطق النفط في العالم، و أيضاً يفرض المجمّع الصناعي العسكري الميل إلى خوض الحروب من أجل أن تصبّ ميزانيات الدولة في جيوبه. و كل ذلك، لكي يُمرًّر، يحتاج إلى غطاء أخلاقيٍّ يبرِّره، و يعطي للحروب و الإحتلال و السيطرة طابعاً مثالياً مقدّساً. فالجيش يقوم بمهمة إنسانية كبيرة تقتضي تمدين المجتمعات التي لازالت تؤسِّس بيئات صالحة لنشوء الإرهاب الذي بات يهدِّد أميركا في عقر دارها، و كذلك لنشوء الإستبداد الذي يعبِّر عن وضع غير متساوق مع قيم الحضارة، و الذي يسحق شعوبه. إنها مهمة مقدّسة، سواء لأنها رسالة ( أو مهمة ) من الله، أو أنها رسالة من التاريخ ذاته.
و يمكن أن نلحظ هنا أن هذا الخطاب هو تكرار مجدَّد للخطاب الإستعماري القديم، الذي غطّى إستعمار أربعة أرجاء الأرض من أجل تمدين الشعوب التي لازالت تعيش في حالة بربرية. لكن، و رغم الإستعمار الطويل، فقد ظلّت دون أن تتطوّر و تتحدَّث، كما أن ثرواتها نُهبت من قِبل شركات الدول المستعمِرة، و بالتالي توسّعت الفجوة بين البلدان المستعمِرة و الأخرى المستعمَرة. و الآن، بعد نهاية الحرب الباردة و إنهيار المنظومة الإشتراكية التي فكّكت ذاك الخطاب الإستعماري، يعود الخطاب ذاته، حيث يجب نشر الحرّية و الديمقراطية عبر القوّة، و من ثَمّ لتحتكر الشركات الإمبريالية نهب الدول المستعمَرة تحت شعار " حلو " هو: إعادة الإعمار.
هذه المفارقة بين الخطاب " الأيديولوجي " المعسول و المثالي، و بين الحروب و التدمير و النهب، لا تلمس من قِبل قطاع من النخب التي شعرت بأن الإستبداد الطويل قد سحقها و همّشها و مسخ شخصيتها، و أيضاً وضعها في السجون سنوات طويلة. حيث بات هذا الخطاب " الأيديولوجي " حقيقة، و بات برنامجاً سياسياً تقوم الجيوش الأميركية بتحقيقه. و حتى عندما يصبح وضع العراق مؤسياً إلى هذا الحدّ، و يتوضّح أن الحرّية تتحوّل إلى فوضى، و الديمقراطية إلى حكم الطوائف، و الفيدرالية إلى التفكيك، و يصبح العراق مقسّماً على أساس طائفيّ و إثنيّ، و محكوم من قِبل قوى أصولية، يظلّ الخطاب " الأيديولوجي " حقيقة رغم أن الواقع الذي أسَّسته الجيوش الأميركية يناقضه. و يبقى الهدف المثالي هو الذي يهدي الجيوش التي باتت تدمّر العراق و تقتل مواطنيه و تنهب ثرواته علناً، و رغم كلّ النقد و الفضح الذي يقوم به أميركيون و أوروبيون كثر.
و ليتشكّل هنا بوش كمخلّص كذلك، يبدو أنه يحمل رسالة إلهية فعلاً، و أن جيوشه تسعى لنشر الحرّية و الديمقراطية، و كل القيم الرأسمالية " الجميلة ". إنه النبي الجديد الذي سوف " يفكّ أسرنا "، و ينشر كل ما هو " جميل " و حداثي. لنصبح، كما فعلت أميركا في ألمانيا و اليابان، دولاً رأسمالية متطوّرة.
هذا هو الخطاب " الأيديولوجي " التابع "، الذي ينطلق من أن بوش هو أيضاً مخلّص. هذا الخطاب المستحكم هو الذي يمنع رؤية الوقائع لأنها مفارقة له، مناقضة لمنطلقاته، و بالتالي تلعب دور الفاضح لهذه المنطلقات. لهذا يجب أن يختفي الواقع، و أن تُهمل الوقائع، و لاشكّ في أن التدمير الأميركي يقوم بذلك. إذن، فهو يخدم ذاك الخطاب و يُعزِّز من ألقه، و لهذا فهو نشاط مثالي في إستراتيجية مثالية، " تُعلي من قيمة الإنسان " ( لهذا فهي ترسله إلى السماء، إلى الجنّة ).
لماذا هذا التطابق مع رؤية بوش و خطابه؟ كيف يمكن أن يتشكّل وعي يقوم على البحث عن مخلّص في القرن الحادي و العشرين؟ المسألة مرتبطة بالواقع، حيث بدت نتيجة الصراع الذي حكم العقود الخمسة الماضية مؤسية بالنسبة لكل القوى التي عملت على تحقيق التغيير، و صُنِّفت كمعارضة. فقد خرجت مهزومة و محطّمة، و خسرت سنوات طويلة من عمرها في السجون أو عاجزة في كنف الإستبداد، أي في السحق، في إطار العمل السرّي و المطاردة المستديمة. و لاشكّ في أن التضحية كانت كبيرة، في وضع تشكّلت فيه نظم شمولية، هيمنت على كل مفاصل المجتمع، و إنحكمت لمنطق إستبداديّ بشع. كما في وضع كانت فيه الفئات الشعبية محيَّدة، و في الغالب مندمجة في مهرجانات السلطة. و كان يبدو أن السلطة قادرة على تدمير الحركة السياسية إعتماداً على جبروتها: ضخامة سيطرتها على الإقتصاد، و القطاعات المجتمعية، و بالتالي مقدرتها على توظيف قوّة قمع ضخمة.
لهذا بدت السلطة كجبروت مطلق ليس من الممكن زحزحته. سلطة مطلقة مستمرّة إلى الأبد، كما كانت السلطة تعمِّم في خطابها " الأيديولوجي "، منطلقة من أنها كلية الجبروت. هل هي كذلك؟ ربما كانت في لحظة تبدو كذلك، و هذا يحتاج إلى تحليل واقعيّ، لكن التحوّلات الداخلية التي فرضتها و التي إعتمدت على النهب و إفشال الدولة كرب عمل، كانت تفضي إلى تلاشي القوّة، حيث وقع الإقتصاد في أزمة، و تعمّق التمايز بين الأغنى و الأفقر، و لم يَعُدْ لبُنى القوّة إطار أيديولوجيّ موحِّد، و وضع الطبقات الشعبية أخذ ينحدر. لكن طبيعة الوعي الذي حكم الحركة السياسية منعها من أن ترى أسباب " جبروت " السلطة، و بالتالي منعها من أن تري إمكانية إنهيار هذا الجبروت، رغم أن التجارب الإشتراكية أوضحت أن ذلك ممكن.
هذا العجز عن وعي الواقع هو الذي قاد إلى تضخيم قوّة السلطة بتحويلها إلى مطلق، و إلى مطلق مؤبَّد. زاد من ذلك الهزيمة في الصراع السياسي و تحطيم الأحزاب و السجون التي زرعت الأحقاد. و بالتالي فقد ترافق العجز الذاتي و الشعور بجبروت السلطة و أبديتها ليُنتجا ميلاً يسعى إلى البحث عن مخلِّص، أيٍّ كان، مادامت لديه المقدرة على تحقيق التغيير. و هذا ما كانت الدولة الأميركية تفعله منذ إنهيار المنظومة الإشتراكية ( هذا الإنهيار الذي زاد من شعور هؤلاء بالعجز )، حيث سعت إلى إنهاء كل النظم التي تمرَّدت خلال سنوات الحرب الباردة، و عملت على أن تصبح الدولة قوّة تطوير إقتصادي، كما حدَّت من الهيمنة الإقتصادية للشركات الإحتكارية الإمبريالية بشكل أو بآخر.
لهذا بدأ " الحلم " ينصبّ على أميركا. و منذ الحادي عشر من أيلول سنة 2001، و الهجوم الضخم الذي بدأته الدولة الأميركية عالمياً، بات بوش هو المخلِّص، فهو مَنْ يملك المقدرة على التغيير، بغض النظر على وجهته، و بغضّ النظر عمّن يخدم، و ماذا يمكن أن نستفيد منه. لقد أصبح التغيير هو الهدف المطلق، و لكي يُقبل أصبح من الضروري الإقتناع المطلق بالخطاب " الأيديولوجي " الذي تعمِّمه الإدارة الأميركية، ذاك الخطاب الذي يلامس مكنونات هؤلاء، و الذي يعزف على لحن الحرّية و الديمقراطية. و من هذا المنطلق يصبح خطاباً حقيقياً، و يأتي على " الدبابة الأميركية ".
إذن، هكذا رسم بوش ذاته كمخلِّص، و هكذا يُرسم في ذهن من إنكسر في إطار الصراع الداخلي، و شعر بالهزيمة و العجز. أليس العجز و الهزيمة هما أساس نشوء فكرة المخلِّص عبر التاريخ؟ و هي الفكرة التي لازالت تسكن وعي الفئات الشعبية، التي لازالت تبحث عن " البطل ".
لكن العاجز لا يستطيع مواجهة أميركا، على العكس سوف يكون ملحقاً في أجهزتها السياسية و الأيديولوجية ليس أكثر، إنْ أرادت هي ذلك. حيث أن رُهاب الخوف و العجز يفرضان الإلتحاق بالأقوى الذي " ينتقم ".
بوش ليس مخلِّصاً، إنه محتلّ و إمبريالي، و بالتالي يتوجَّب أن يواجه.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل يتداعى -السد الجمهوري- أمام اليمين المتطرف؟


.. الانتخابات التشريعية الفرنسية: اليمين المتطرف على أبواب السل




.. فرنسا: ماكرون -يخسر الرهان- واليمين المتطرف -على أبواب السلط


.. هولاند يدعو إلى -الواجب الحتمي- للتغلب على حزب التجمع الوطني




.. إدوار فيليب يدعو لسد الطريق أمام حزب التجمع الوطني وفرنسا ال