الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دون كيخوتا نائبا في البرلمان الليبي!!

محمد عبعوب

2015 / 8 / 1
الادب والفن


كان يقود السيارة على الطريق الساحلي بين مدينتي سرت و اجدابيا يرافقه في الكرسي الخلفي نائب عن منطقته بإحدى نواحي غرب البلاد متوجها إلى مقر البرلمان الجديد المنعقد بمدينة البيضاء خمسينات القرن الماضي، كان مندمجا مع أغان تبثها محطة الإذاعة الليبية على جهاز المذياع بالسيارة؛ فجأة توقف محرك السيارة عن الهدير، ركن السائق المرعوب السيارة بما تبقى فيها من قوة دفع إلى يمين الطريق، وفتح الباب ونزل ليتفقد المحرك ويهتدي لسبب هذا التوقف المفاجئ، لكن يبدو أنه قليل الخبرة، فربما وضعته صلة قرابة بهذا النائب أو ولاء في وظيفة سائق له، فلم ينتبه إلى أن نفاذ الوقود هو سبب توقف السيارة إلا صدفة قادته إلى ملاحظة مؤشر الخزان.. وهو في حالة رعب من الخطأ الذي وقع فيه، أخبر سيده -الذي يستلقي ببذخ على الكرسي الخلفي كنائب يمثله منطقته، تحتدم في خياله مسارات معارك سياسية سيقودها تحت قبة البرلمان- أخبره بأن وقود السيارة قد نفذ وأن مسافة طويلة تفصله عن أول محطة وقود ليعيد تعبئة الخزان، هز النائب المحترم رأسه باستهزاء من السائق المبذر، قائلا له:
- وكيف لا ينفذ الوقود وأنت منذ مغادرتنا مصراته تشغل الراديو وتستمع إلى الأغاني والموسيقى؟ تحسب أن الراديو يشتغل بالهواء!!!
والحق تساؤله الهازئ بسيل من التقريع واللوم الذي قابله السائق بالصمت المطلق رعبا مما قد يجره عليه هذا التقصير والتبذير من كوارث اخطرها فقدان وظيفته!!!
هذه القصة التي يتناقلها المعاصرون لأول مجلس نواب ليبي بعد الاستقلال - وهي من الممكن أن تكون مفبركة، كما أنها يمكن أن تكون حقيقية- وذلك من باب الفكاهة واستظهار بساطة وسطحية تفكير جزء كبير من أعضاء هذا المجلس في تلك الفترة المبكرة من تاريخ ليبيا، قفزت إلى ذاكرتي وأنا أعيش واحدة من القصص المشابهة جرت وقائعها في البرلمان الليبي الحالي في العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين ، وذلك عندما دخل علينا ذات صباح ثلاثة نواب تقريبا ونحن موظفون بمكتب الإعلام التابع لديوان البرلمان، ينهمك بعضنا في صياغة الأخبار الخاصة بالمجلس لنشرها، ويعمل آخرون على إعداد نشرة خاصة توزع على النواب، تضم ما ينشر عبر الميديا العالمية حول البرلمان وحول ليبيا وبعض الأخبار العالمية المهمة، لوضعهم في صورة الأحداث العالمية و ما يقوله العالم عنهم وعن بلادهم التي تعاني من ارتدادات زلزال سياسي كان العنف والقوة فيه سيدا المشهد.. دخل وفد النواب وفي يد احدهم عدد سابق من هذه النشرة، واستفسر قائدهم بلهجة عدوانية، عما إذا كنا نحن المسئولين عن إصدار هذه النشرة؟ وتقدم من رئيس المكتب -الذي كان دائم الحرص على إظهار نفسه أنه جدير بالرئاسة- ليتأكد منه بأن هذه النشرة تصدر عنه.. فأجابه بنعم، مضيفا ما إذا كانت بها أية أخطاء أو له وجهة نظر لتطويرها؟ تطاير الشرر من عيني النائب وسأل بتوتر :
- كيف يحق لكم وانتم تتبعون مجلس النواب أن تصدروا نشرات تضم كتابات وتهجمات على المجلس تسئ لأعضائه ولعمله؟ هل أنتم تتبعوننا أم أنتم معارضون لنا؟!! هل تتقاضون مرتبات لتروجوا لأكاذيب وتلفيقات الأعداء عن هذا المجلس ونوابه؟!!
وتدفق سيل من الأسئلة التهجمية من ذلك النائب الموتور بسلطة مطلقة ترسخت في ذهنه على مدى عقود من سياسة تقوم على مبدأ : إما معي أو ضدي.. لم تفلح محاولات رئيس المكتب المرعوب من احتمال فقدان منصبه ، كما لم تفلح محاولاتنا لتوضح الموقف لهذا النائب ورفاقه وإقناعهم بأن وضع هذه الأخبار والآراء الناقدة للمجلس والمتصيدة لأخطائه في النشرة إنما هي لوضعهم في صورة ما يقوله العالم عنهم وليستفيدوا منها في تفادي الأخطاء إن وجدت، وليصححوا الصور الملتبسة عنهم للقراء عبر وسائل الإعلام.. واستمر هذا النائب الذي يبدوا أنه قد تعرض لعملية شحن زائدة وهو حديث العهد بالسياسة ولم يجرب دهاليزها و زواريبها ، ولم يخبر دور الإعلام في صناعة الرأي، استمر في إلقاء محاضرته الهجومية والزبد يتطاير من شدقيه مطلقا تهديدات واتهامات مبطنة ضد العاملين بالمكتب ملوحا بشبهة وجود طابور خامس بين العاملين فيه مجندون لتشويه البرلمان وخدمة المناوئين له..!!
وبعد تلك المحاضرة الهجومية السمجة التي احتكر فيها ذلك النائب وجوقته المشهد بعقول منغلقة على حكم لا يقبل الجدل بوجود طابور خامس في هذا المكتب ، وبعد سيل من التهديدات المبطنة -أرعبت دون شك رئيس المكتب، لكنها بعثت شعورا بالشفقة على هؤلاء النواب وليبيا التي يمثلونها لدينا- غادر النائب وجوقته المكتب وغبار المعركة الكلامية وضوضاءها تشنف آذانهم..
تنفس رئيس المكتب الصعداء وارتمى خائر القوى على مقعده الذي لا يطيق فراقه ورعب شبح إزاحته من هذا المنصب يسيطر على تفكيره.. تبادل زملاءه النظرات باستغراب لهذه المعركة الكاخوتية* التي أثارها هؤلاء النواب بلا أي سبب وبدون معنى، سوى أن عقولهم المنغلقة على نظرية المؤامرة ترفض استيعاب واحدة من أبجديات صناعة الرأي وتطوير الإلمام بجوانب القضايا التي يعملون على معالجتها ، ولم يرو في هذه النشرة إلا أنها تروج للأخبار المناوئة لهم ولليبيا كما يرونها هم، ولم يدركوا أن هذه الأخبار والآراء يمكن أن تساعدهم في تفادي الأخطاء وتصحيح مسارهم وتحفزهم للرد على كتابها او توضيح دورهم في بناء ليبيا للرأي العام، بدل بقائهم يتغنون بأمجاد وبطولات أسطورية بعيدة عن الواقع..
وفي النهاية لا بد لي من توضح أمر مهم ، وهو عدم وجود أي وجه للمقارنة بين أسباب سطحية وضحالة تفكير نائب البرلمان الليبي في خمسينات القرن الماضي، وبين أسباب سطحية وضحالة تفكير مثيله في العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين، ذلك أن ما كان يتوفر لنائب القرن الماضي من وسائل لتطوير معارفه وأفكاره من الندرة بما لا تجيز لنا لومه او نقده، فليبيا في تلك الفترة كانت لتوها قد خرجت من قرون من الاستعمار التركي والايطالي وبعده الانتداب الثلاثي، ولا تتوفر بها وسائل تعميم المعارف من جامعات و مدارس و صحافة وإذاعات كما هي اليوم، حيث يمكن لهذا النائب في الزمن الراهن المنغلق على أفكار بالية ان يستدعي كل ثقافات وأفكار وسياسات وعلوم العالم الحديث والمعاصر بلمسة من إصبعه على مفاتيح حاسوبه المزود بخدمة (الواي ماكس) الذي اقتناه على حساب المجلس، في أي لحظة يريد ليتمكن من تنمية معرفته وأفكاره بما يواكب تطورات العالم من حوله ، فإذا بنا نفاجأ بأنه يرفض حتى محاولة وضع هذه الأفكار والمعلومات نصب عينية وفي متناول يده، ويصر على البقاء حبيس أفكاره المتحجرة عن العالم وصناعة الرأي..
كما لابد لي من الإشارة إلى أن هذه الحالة من ضحالة الوعي وسطحية التفكير التي جسدها هذا النائب ورفاقه بموقفهم هذا، لا تشكل ظاهرة مسيطرة على مجلس نوابنا المعاصر الذي يضم أساتذة وخبراء مرموقين، صدموا هم الآخرون عندما أبلغناهم بالموقف، وأوضحوا لنا أنه يجب علينا إدراك أن هذا المجلس هو في الواقع من مخرجات مجتمع كان لعقود أربعة حبيسا لفكرة الرأي الواحد ونظرية المؤامرة، وبالتالي فإن وجود نواب بهذا المستوى الضحل من التفكير يعد أمرا متوقعا جدا..
• الكاخوتية نسبة الى دون كيخوتا بطل رواية للكاتب الاسباني سيرفانتيس كان يفتعل معارك وانتصارات وهمية مع أعداء وهميين (طواحين الهواء) لا وجود لهم على ارض الواقع .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيديو يوثق اعتداء مغني الراب الأميركي ديدي على صديقته في فند


.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز جسديًا على صديقته في




.. حفيد طه حسين في حوار خاص يكشف أسرار جديدة في حياة عميد الأد


.. فنان إيطالي يقف دقيقة صمت خلال حفله دعما لفلسطين




.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز -ديدي- جسدياً على صدي