الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عبق الذكريات

سليمان جبران

2015 / 8 / 2
الادب والفن


هذيك الأيّام
عبق الذكريات

أحبّتي أبناء صفّي،
وأخيرا التقينا ! بعد خمسين سنة دفعناها من عمرنا، عدّا ونقدا، ونحن لاهون. التقينا لنحاول العودة في أمسية واحدة، في جلسة واحدة، إلى عبق تلك الأيّام: نخلع عنّا نظّاراتنا، ورءوسنا البيضاء أو العارية، وكروشنا الناشزة، ونعود في رحلة افتراضيّة إلى تلك الأيّام دفعة واحدة. ما دامت هي تأبى العودة إلينا فلا أقلّ من عودتنا نحن إليها، على جناح الذكريات، في لقائنا هذا. ما أكثر ما نحاول، في هذا العمر، تذكّر اسم أو قول فتخوننا الذاكرة. أمّا تلك الأيّام البعيدة فهي واضحة راسخة في خريطة الرأس، كأنّما عشناها أمس !
أمرّ اليوم بكفرياسيف، فلا أرى من معالم كفرياسيف التي حضنتني فعشقتها، أثرا. هل أتّهم بالرجعيّة إذا كنت اليوم أتوق إلى كفرياسيف الماضي ؟ كفرياسيف الشوارع المبلّطة، كفرياسيف المراح ودار الستّات، والعين، وفلافل عوض، وشارع الصبر يأخذ بأيدينا إلى مدرسة البابور. كفرياسيف الأصدقاء والزملاء والأحباب. كفرياسيف الناس الطيّبين الذين كانوا لنا أهلا في غياب أهلنا. أبحث عن كفرياسيف تلك، في يقظتي وأحلامي، وعن ذلك الفتى الناحل، بمرحه وطموحه وعنفوانه، فلا أجد من كفرياسيف تلك ولا من ذلك الفتى، أثرا. هل أتّهم فعلا بالرجعيّة لهذا التوق الذي يُمْتعني ويوجعني في آن ؟ سجّلوني إذن رجعيّا وأمري إلى الله !
أتخطّى أربعا وخمسين سنة إلى الوراء، فأراني داخلا عمارة أمّ الياس، في رغبة ورهبة، كأني مقْدم على أوكسفورد أو السوربون. فتى ناحل، هذا ما كنته يومذاك وأنتم تشهدون، يأتي من قرية نائية في الشمال إلى بلدة لا يعرفها ومدرسة لا تعرفه، معبّأ طموحا وإصرارا على طلب العلم ولو في الصين ! ما زلت أذكر كلمة أبي المنذرة عندما ودّعني في طريقي أوّل مرّة إلى المدرسة: "إلى مدرسة كفرياسيف يأتي الطلاب من كلّ القرى. جميعهم متفوّقون. لا تظنّ أنّك تستطيع التفوّق دونما جدّ وعرق، كما في الماضي". كلمة قصيرة هدّت حيلي، وهزّت ثقتي بنفسي، وحكمت سلوكي ومزاجي فترة غير قصيرة قضيتها مهموما، كمن ينوء بحمل لا قبَل له به، ولا يستطيع من تحته فكاكا !
هل كانت تلك الفترة حلوة فعلا؛ فردوسا رائعا أضعناه على طريق الحياة الشائك؟ هل كانت فترة ورديّة ساحرة كما نراها اليوم، أم هي النوستالجيا إلى الشباب والولدنة تضفي على الماضي كلّه ألوانا زاهية ومذاقا مسْكرا ؟ كانت الحياة في تلك الأيّام قاسية وناشفة: ضائقة مادّيّة تجعلنا نعيش حياة متقشّفة، وما نحن بزهّاد ولا متقشّفين. وحكم عسكري يقيّد السفر والألسنة والأفكار. وغرفة صغيرة يغالب عتمتها قنديل واهن، يشاركنا قراءاتنا وسهراتنا. ومدارس لا مختبرات فيها ولا مكتبة ولا كتب. من كلّ التجهيزات الضروريّة كان في المدرسة معلّمون وطلاب ومقاعد فقط. في هذه الظروف تعلّمنا، واجتهدنا ونجحنا. أو رغم هذه الظروف كلّها، على الأصحّ. قارنوا ظروفنا تلك بظروف أولادنا وأحفادنا اليوم، لتوقنوا أنّ العزيمة الصادقة تفلق الصخر، والظروف القاسية تفولذ الصغار، فيكبرون قبل الأوان!
كانت الحياة قاسية، لكنّا لم نستسلم ولم نكتئب، وهو الأهمّ: درسنا ولعبنا، عملنا وضحكنا،على المعلّمين حينا، وعلى بعضنا في أغلب الأحيان، ثمّ تفرّقنا، كلّ في طريق، لنلتقي اليوم بعد خمسين سنة. ياه، خمسين سنة؟!
طوال المدرسة الثانويّة، كان طموحي الأسمى أن أغدو شاعرا. شاعرا كبيرا يملأ الدنيا ويشغل الناس، مثل المتنبّي، أو علي محمود طه على الأقلّ ! بل إنّي كتبت قصائد كثيرة، كما يذكر بعضكم، في الحبّ وفي الوطنيّة، موقنا في داخلي أنّ تلك هي بداية طريقي إلى المجد والخلود ! ولأنّ الشعر لا يُطعم خبزا، فقد كانت غاية طموحاتي المعيشيّة أن أغدو معلّما للغة العربيّة في مدرسة ثانويّة. لا مقاولا كبيرا، ولا تاجرا ثريّا، ولا صاحب شركة. معلّم اللغة العربيّة في مدرسة ثانويّة، وما بالقليل ذا اللقب! هكذا كانت مفاهيمي، أو مفاهيم تلك الأيّام ربّما؟
إلا أنّ المرء يخطّط، ومن فوقه أو قبله تخطّط له الأيّام وصروفها. هكذا مارست التعليم في المرحلة الابتدائيّة، بكلّ صفوفها ومواضيعها، وفي أكثر من بلدة، ولسنوات طويلة تبخّر في غضونها حلم الشاعريّة. وعلّمت اللغة العربيّة في المدارس الثانويّة، مبتغاي الأوّل، وفي دور المعلّمين العربيّة واليهوديّة. وبمحض الصدفة تماما في الجامعة أيضا! قضيت حياتي كلّها في التعليم، وهذه السنة هي آخر الشوط. وما زلت، صدّقوني، محبّا لعملي، مكْبرا رسالته، أقدم عليه بحماس ذلك الشابّ الذي كنته قبل خمسين سنة !
عملت محاضرا في الجامعة أكثر من ثلاثين سنة، درّست خلالها مئات الطلاب، اليهود والعرب، وأصدرت كتبا ومقالات كثيرة، معظمها في النقد الأدبي وبعضها في اللغة. بل إنّي كتبت أيضا ذات نوبة، كما وصفتها آنذاك، مجموعة قصائد للصغار. ألم يكن الشعر كما تذكرون، حبّي ومبتغاي الأوّل ؟
بعد هذه السنة أعتزل العمل الرسمي، ولا أقول أتقاعد، فالقعود للكسالى. وأراني مواصلا نشاطاتي ودراساتي، طالما أسعفني فكري وجسدي، فالصحّة في عمرتا هذا، كما تعرفون، هي ذخرنا الأوّل والأخير!
[الكلمة في لقاء أبناء الصفّ سنة 2007]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حصريا.. مراسل #صباح_العربية مع السعفة الذهبية قبل أن تقدم لل


.. الممثل والمخرج الأمريكي كيفن كوستنر يعرض فيلمه -الأفق: ملحمة




.. مخرجا فيلم -رفعت عينى للسما- المشارك في -كان- يكشفان كواليس


.. كلمة أخيرة - الزمالك كان في زنقة وربنا سترها مع جوميز.. النا




.. المراجعة النهائية لطلاب الثانوية العامة خلاصة منهج اللغة الإ