الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
ما اروعك يا ناري المقدسة
هيثم بن محمد شطورو
2015 / 8 / 5الادب والفن
مرت حذوه مترددة بين التوقـف امامه و بين التغافل عنه، الا انه استـدار اليها، و ما ان التـقت العيون حتى غض الطرف عن الخلاف القـديم بينهما. تـقدم اليها و رسم قبلات اربع على وجنـتيها الحمراوين المنـتـفـخـتـين قـليلا، فاشتمت رائحة الخمر في فمه فـتملكها الخوف من ان لا يكون متوازنا، الا انها وجدته منطلقا في روحه يتحـدث بهدوء و يسأل عن احوالها، فكانت بضع كلمات طويت خلالها تـسع سنوات من الفراق..
لم تكن غير صديقة أغرم بها كثيرا و عـشـقها و أحبها بمفهومه الخاص، الذي يتـطلع من خلاله الى روحنة الجسد و الى بلوغ مرحلة النشوة ، عسى ان تكون دواء ناجعا لآلام النفـس التي كان يراها مستعصية عن العلاج، بل رآها لعنة كبرى اصابته بها عيون الحساد و نكسة جواد هرول في الاتجاه الصعب.
فتاة عادية جدا تعشق الحياة كثيرا و لا يهمها غير اثارة اكبر عـدد ممكن من الرجال. روح "مادونية" شبقة ارتـضت لنفـسها ان تكون عـشيقة لرجل قد تجاوز الاربعين لما كان سنها في حدود الثانية و العشرين. لم تكن تهاب سلطة و لا قمعا و انما تـرنو دائما الى ابتلاع الدنيا في جوفها بكل اغرائها و عوالمها. ذاك ما كان يهز كيانه و ما يشعل قـلبه في اجواء صقيعه الجواني، حتى انه يهتـف لها دوما قائلا بنـشوة : " ما اروعك يا ناري المقدسة".
انتهى اللقاء الخاطف بسرعة، و لكن تـلامس كـفيهما مرارا اثـناء الحـديث اثار حنين احدهما للآخر. علم انها ستـتـزوج فبارك زواجها. قال لها قبل ان تودعه :
ـ لقد تغيـرت.
ـ اما انت فلم يتـغير فيك شيء.
لقاء قصير لم يتجاوز العشر دقائق استـذكر من خلاله تلك الفترة من حياته التي تختـلف كثيرا عن حياته الراهنة. انها فترة التـشوش العاطفي و الفكري و الوعي الحاد بالأزمة و التحـول على مستوى المفاهيم. كانت الاحداث تسير بخطى حثيثة نحو النزعة البراغماتية و الاستهلاك اليومي للأشواق و الافكار و تآكل مفاهيم الجدليات السابقة امام فاجعة سقوط المطرقة و المنجل، و شيوع اجواء التـفاهة الهمبرغرية و الاستهلاك الغريزي التافه الشاحب لمفهوم الحرية. ساعتها كان يجهد نفسه للتخلص مما اسماه بـ "أدران المثالية المعكوسة". من الممكن ايجاد تـسميات اخرى و من اكثر تلك التسميات شيوعا هو : "انـتهاء عصر الايديولوجيا".
وعيه المتأزم رماه بين مقاعد كلية الحقوق التي ارادها ان تكون مقبرة لمثاليته "الزائدة"، في حين ان روحه غارقة في حب الحكمة و التـفلسف.. " دراسة القانون تلصقك بالواقع و دراسة الفلسفة تبعدك عنه". ربما تكون هذه الجملة من اكثر الكلمات حمقا. سمعها في حياته من لسان محام غارق في ماديته المقـنعة ببعض الافكار و المواقف السياسية المبهمة. هل ينطق المحامون بالحكمة؟
استذكر في ذاك المساء و بمجرد رؤيتها فترة الأرق الكبرى تلك حين كانت روحه تـتـخبط في سجنها نافرة من عالم القوانين و الحقوق متطلعة الى الفكر الحر الطليق. من بين مفردات ذاك التمزق هو التأرجح بين الثـنائيات كمن يمشي حافي القدمين على الزجاج المكسور. كانت روحه مدماة و هو يتـلظى نارا بين ما تهمس اليه روحه من نـزعة متسامية الى عالم الفكر و الحب و التوحد مع ذاته فكرا و واقعا، و بين نفي تلك الذات و الاغتراب عنها و التماهي مع الواقع و الانغماس في الشهوة الى النخاع و التطلع الى وضع اجتماعي و مادي راق. كان يهفو الى السماء بوجدان دافئ و يتـخبط في الارض كـقـط شريد.
لم تكن لتـقر بغير عجزها عن فهمه. ثـقيل الدم و خفيف الروح. ماذا تريد ان تـفهم؟
ربما لن تـنسى طيلة حياتها ما رأته استـثـناء خارقا حين سألها بنبرة عادية:
ـ لماذا لا تكونين عاهرة بعـدما عجزتي على ان تكوني قـديسة؟
تطلعت اليه بنظرة ملؤها الدهشة. ارادت ان تصطنع الغـضب الا انه اردف قائلا :
ـ ترهقـني هذه الايام كل الثنائيات المتـناقـضة. في كثير من الاحيان اعجز عن تـفـسير اكثر الاشياء اعتيادية مثل... لماذا نعـيش؟
ـ لماذا نعـيش؟
ـ ربما لاننا لا نريد ان نموت.
رفعت حاجبها الايمن مفكرة و مستحـسنة الاجابة. همت للتـفوه الا انه اعاد السؤال بطريقة اخرى:
ـ هل من الممكن ان تكوني قـديسة و عاهرة في آن؟
رمقته بنظرة متسائلة ثم ضحكت بملئ نـفسها. كانت ضحكة مرتـفعة اثارت انزعاج الجالسين في مقهى الفندق، الا انه كان متمتعا الى حدود الغثيان بضحكـتها الرنانة الجميلة و بعينيها المدمعتين و ملامح وجهها المشرق حين قالت و الضحكة مازالت تـتماوج في وجدانها :
ـ و لكن.. كلنا كذلك.. الحقيقة ان كل النساء كذلك..
فـقهقه بعنف و كأنه لمح عـبثا جميلا و رائعا لاول مرة في حياته. كانت ذكية لاول مرة في حياتها و الاصح من ذلك انه رآها ذكية لاول مرة في حياته لما اردفت قائلة:
ـ الحياة لا تسير بدون تـناقض. و لكن.. ما افـظع الصراحة عندنا.
أغـدقـته بالنـشوة فاقـتـرب اليها و قبلها فـتـنافـرت كل العيون اليهما فسحبت نـفـسها و وقـفـت فتـوارت الانظار عنها.. خرجا مهرولين ليكملا الـقبلة في بيت أبيها... ما أن رأتـه صدفة حتى تـذكرت اول قبلة غرام امام العوام، و ما ان ودعها حتى تـذكر كـلماته الـقـديمة.. "ما اروعك يا ناري المقـدسة"..
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. تفاعلكم الحلقة كاملة | حملة هاريس: انتخبونا ولو في السر و فن
.. -أركسترا مزيكا-: احتفاء متجدد بالموسيقى العربية في أوروبا… •
.. هيفاء حسين لـ «الأيام»: فخورة بالتطور الكبير في مهرجان البحر
.. عوام في بحر الكلام | مع جمال بخيت - الشاعر حسن أبو عتمان | ا
.. الرئيس السيسي يشاهد فيلم قصير خلال الجلسة الافتتاحية للمنتدى