الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في الوجود – 5 - الوعي كوعاء للعقل و الإحساس و ما دونه.

نضال الربضي

2015 / 8 / 6
الطب , والعلوم




نظرنا في الأجزاء الأربع ِ الأولى من هذه السلسلة إلى الحياة و الموت و الوعي بحسبِ كونها جميعا ً تجليات ٍ للمادة ِ و لتحولاتِها الفيزيائية ِ المختلفة، و بحسب ِ كونها تمظهُرا ً لـ "طبيعة ِ هذه المادة" و "انعكاسا ً لماهيتها"، و ذهبت ُ معكم إلى أبعد َ من ذلك لأبين الفروق بين "الوعي العاقل" و الذي أطلق عليه كلمة َ الوعي بمطلق الحرِّية، و بين "الوعي غير العاقل" و الذي أرى أن الكلمة َ هنا مجرد ُ استعارة ٍ لما يظهر ُ من سلوكه فيبدو فيه أنه وعي، مع التأكيد أنه ليس كذلك، كما هو في سلوك ِ المادة غير الحية، و التي تتصرفُ كتعبير ٍ عن ذاتها و جوهر و ماهيتها لا أكثر.

و سأخوضُ اليوم في المنطقة ِ الشائكة للوعي غير البشري، و هي المنطقة ُ التي نجد ُ فيها الحيوانات ِ على اختلاف ِ أنواعها و درجات ِ ذكائها، لنتعمَّق َ ساعين لتشكيل ِ ملامِح ِ تعريف ِ الوعي على أدق ما نستطيع، مع الاعتراف بقصور ِ العلم عن القطع و التحديد النهائي، و اختلاف الآراء ِ و الاعتقادات ِ و المشارب ِ و التوجهات بين الباحثين و الدارسين. و سأبدأ من الإنسان كنقطة مرجعية لقبول ما هو "وعي" انحدارا ً نحو الحيوان لإيقاع القياس.

في الإنسان
----------
يقوم ُ الوعي في الإنسان على الإدراك ِ العاقل Sapience، و هو الذي بواسطته يستطيع ُ أن يُفكــِّر و يستنبط َ العلاقات بين الأشياء ِ و الكائنات، و يتخيل المواقف و يأخذ القرارات بناء ً على الحقيقة الواقعة و الممكنات التي يحتملُ أن تقع. فهذا الجزء الإدراكي العقلي هو مستوى متقدم من الوعي نعلم ُ أنه نتيجة مباشرة لوجود الدماغ البشري و لشبكته العصبية و للتفاعلات البيولوجية الكيميائية بداخله.

ينضوي الوعي في الإنسان على إدراك ٍ أبسط َ و أكثر بدائيـَّة ً من الإدراك العاقل، و هو الإدراك الحسي Sentience، الذي يؤسِّس ُ لوجود العقل، فيستجيب ُ له الأخير و يعمل ُ عليه ، و يتفاعل ُ معه، و يفسره، و يعطيه المعنى، و يوظفه، و يخرج ُ نتائجَه ُ بحسب العمليات السابقة تفاعلات ٍ يومية على المستويات: الشخصية، الاجتماعية، الوظيفية: كلها بشكل ٍ خاص، و الحياتية بشكل عام ٍ. فما هو الإدراك الحسي؟

الإدراك الحسي هو القدرة على "الاختبار"، بالمعنى الذي يستقبل ُ فيها جسد ُ الكائن الحي "مؤثرا ً" خارجيا ً مثل: رائحة ِ وردة، أو ملمس ِ غصن ِ شجرة، أو مشهد َ نهر ٍ ينساب. يُطلق على كل اختبار ٍ من هذه الاختبارات لفظ Quale (كــْــوَالـِـي) . و يعرِّف ُ البروفسور دانيل دينيت كل اختبار (Quale) منها بشكل ٍ مبسَّط ٍ فيقول عن المصطلح أنه:

"مصطلح غير مألوف يعبر عن شئ شديد الألفة بالنسبة لنا: يعبر عن الطريقة التي تبدو فيها الأشياء لنا"

أو بعبارة أبسط (بحسب صياغتي): الكوالي هي الخبرة التي نكتسبها مع كل حدث.

إن الإدراك الحسي Sentience (في الإنسان تحديدا ً) متطلب ٌ يجب توفره ليتمكن الإدراك العقلي من التواجد، فلا يمكن أن يتواجد العقل بدون المادة الدماغية التي ينطلق ُ منها، و هي بدورها لا يمكن ُ أن تتواجد َ إلا في الكائنات العضوية ِ المتطورة، و هذه الأخيرة كائنات ٌ ناتجة عن ضغط ٍ انتخابي تطوري ٍّ Evolutionary Selection Pressure بفعل ظروف و عوامل البيئة، أي إنها كائنات ٌ ناتجة عن "التــَّـفاعـُـل" و "التــَّـبدل" و "التــَّـكيــُّـف" و كلها أحداث ٌ لا يمكن ُ أن يقوم بها سوى "كائن ٌ لديه إحساس".

إذا ً و مما سبق أذهب ُ إلى أن الوعي ُ في الإنسان ِ يشتمل ُ على إدراكين هما: العقلي و الحسي.

في الحيوان
-----------
تمتلك الحيوانات الإدراك الحسي Sentience و الذي هو جزء ٌ من الوعي، و الذي على الرغم من كونه لا ينطق باسمه و لا يعبِّرُ عن شمولية ِ حقيقة ِ ماهيته أو جوهره، إلا أنه وعي ٌ (أو هكذا يبدو) بدرجات ٍ أقل من وعي الإنسان، مثلما نشاهد ُ في قردة ِ البونوبو و الشيمبانزيات التي يمكن ُ أن يبلغ َ ذكاؤها مبلغ َ ذكاء ِ طفل ٍ بشري في عمر الأربع ِ سنوات. و تستطيع ُ أن تختبر َ المواقف َ و الأحداث و تتفاعل معها، و تكوِّن (الكواليات) الخاصة بها. و هنا لا بدَّ أن نتوقف َ لنسأل:

هل هذا الذكاء ُ القِردِي يكفي لكي نصنِّف َ القرود العليا على أنها "واعية"؟

إن احتمالي الإجابة: أ- "النعم" وب- الـ "لا"، بابان واسعان لأسئلة ٍ أخرى ستلي بالضرورة:

أ -
فإن قلنا: لا، ليست واعية، فسنخوض ُ حربا ً فكرية ً ضارية ٍ شرسة، لأن هذا الجواب يعني و بكل بساطة: إذا كان ذكاء ُ القرد ِ الأعلى (شيمبانزي، بونوبو) و الذي يماثلُ ذكاء َ طفل السنوات الأربعة ِ لا يكفي لكي نصنــّـِـفه ُ واعيا ً فإننا عندها نصنِّف ُ أطفال َ البشر في الأعمار الصغيرة: الأربعة ِ و ما تحتها، على أنهم "غير ُ واعين"، و سيستتبعُ المعنى بالضرورة سؤالا ً أخلاقيا ً "هل هم أدنى قيمة ً إنسانية من البالغين؟"، و سنجعل ُ الأسئلة َ أكثر صعوبة ً و تشابكا ً و تعقيدا ً لنسأل أيضا ً "ماذا عن المعاقين الفاقدين للأهلية ِ العقلية، هل هم بشر ٌ أم أقل؟ ما هي حقوقهم؟" و ربما سننجرف ُ أكثر َ نحو أسئلة ٍ أخرى من شاكلة "إذا كنت ُ أكثر َ ذكاء ً من غيري (و إن كان ذكيا ً جدا ً) فهل أنا أكثر ُ وعيا ً منه و أفضل ُ منه؟ و ما الحقُّ الذي لي بقوة ِ وجود ذكائي و الذي ليس له؟"

و عندها ستكون ُ إجابات ُ الأسئلة السابقة مُستقاة ً من الفلسفات الوجودية، و الأخلاقية، و الإجتماعية، لأننا سنضطر ُ أن نتحدثَ عن طفل الإنسان بحسب أنه "عاقل ٌ في طور الاكتمال" و بالتالي "إنسان كامل بحسب ما سيكون عليه" لا بحسب "ما هو في تلك المرحلة " لكن مع كامل الاحترام الإنساني، أي أننا سنستخدم ُ وعينا العقلي كبالغين، و معتقدنا الأخلاقي، و قيمنا الفـُـضلى و المُـثلى لنتجاوز "الواقع" مستشرفين "المستقبل" فنحكم َ على الأول في ضوء ِ الأخير. و قس على ذلك إجابات ِ باقي الأسئلة ِ السابقة.

سنقول ُ في كل إجاباتنا أن جوهر الإنسان واحد و قيمته الإنسانية واحدة ٌ محفوظة، سواء ً كان صغيرا ً أو كبيرا ً، معاقا ً أو سويَّاً، شديد الذكاء أو متوسِّطَه ُ أو ضعيفَه ُ، هذا ما اتفقنا عليه بحسب مواثيق حقوق الإنسان، و الدساتير العلمانية، و الأحكام الأخلاقية التي تجعل من جنسنا عظيما ً بحق مُتجاوزا ً طبيعته ُ الحيوانية بدون أن ينفصل َ عنها، و هو ما سيؤيدني فيه معظم القرَّاء ِ الكرام (لا أقول ُ الجميع) دون شك.

لكن في كل الأحوال لا يجب ُ أن ننسى أو نتجاهل َ أن الجواب َ السابق ليس جوابا ً علميا ً أبدا ً، إنما جواب ٌ أخلاقيٌّ بالدرجة الأولى، أسعفنا حينما لم يسعفنا العلم، أو ربَّما أن العلم أسعفنا فأخبرنا بضعف عقل الطفل و المعاق فتجاوزنا - قاصدين – البحث َ في الوعي َ و الأهلية َ لخطورة ِ ما يمكن أن نجد، لنضع مكانهما الإنسانية، فأحللنا الأخلاق قاضيا ً حينما كان جواب العلم ِ الجامد و البارد مُتعارضا ً مع المشاعر ِ الإنسانية ِ و خبرات ِ الشعوب ِ الاجتماعية و قيمها الحضارية المتراكمة. أي أننا اتخذنا مسارين متداخلين مترادفين تبادليين لإصدار الأحكام: أحدهما مسار العلم و ثانيهما مسار الأخلاق.

سؤال ٌ علميٌّ آخر سيلحُّ علينا بشدة أيضا ً: "إذا كان طفل الإنسان غير واع ٍ ثم يصبح ُ واعيا ً، أليس معنى هذا أن الوعي كامن ٌ في الكائن، و يتجلى مع النمو (التغير) البيولوجي؟" و هو سؤال ٌ إذا أعدنا صياغته يمكن أن يقول َ ما يلي: "كيف يمكننا أن نحكم على الوعي حكما ً صحيحا ً إذا كان الوعي ُ نفسه متحركا ً متغيرا ً ديناميكيا ً ناميا ً مُتأثرا ً بالبيولوجيا و العصبونات الدماغية؟"، إننا هنا عزيزي القارئ أمام مأزِق ٍ زئبقي له ملامح ُ تتغير، مأزق ٍ مُلحٍّ شديد التــَّـطلــّـُـب ِ، له معاير لا نعرفها، و لا نُحسن قياسها كاملة ً لأننا لا نحيط بها، إنه مأزق ُ "الكامن ِ الذي يتجلى"، فهل الكائن ُ واع ٍ حتى في كمونِ الوعي دون ظهوره؟ فإن أقررنا فكيف َ نقيس ُ ما هو كامن؟ بل قل كيف نعرف ُ أنه كامن ُ أصلا ً؟ أما إذا نفينا أفلا نكون ُ عندها مجافين للمُعطى العلمي؟ و غص أيها القارئ الكريم أكثر و أكثر و استخرج أسئلتك َ التي ستلحُّ عليك كلما أعملت َ الذهن َ فيما عرضتُه ُ أمامك.


ب -
أما إن قلنا نعم: إنها واعية، وجب َ علينا أن نمد َّ الخيط َ على استقامتِه ِ لنسأل عندها: "ماذا عن حيوانات ٍ مثل الدلافين، الخنازير، الكلاب، الفيلة، و كلها تبدي شكلا ً من أشكال ِ الذكاء ملحوظا ً واضحا ً مثيرا ً للإنتباه، أين نرسم ُ الخطّ َّ الفاصل َ بين الواعي و غير الواعي؟" و سنسأل ُ أيضا ً "ما هي حقوق ُ هذه الحيوانات؟"

ما هو الجواب على السؤال إذا ً؟

كمحاولة ٍ للإجابة ِ على هذا السؤال سأستخدم ُ البحث المنشور في موقع دوريات أكسفورد على الرابط الذي تجدون توثيقه في أسفل المقال تحت المُعرِّف: م1، و الذي يرتكز ُ على نتائج دراسات عملية لعالمة النفس و خبيرة الكائنات الرئيسية (Primates: الإنسان، القردة العليا، القرود الأخرى) الدكتورة: "سو سافج رامبو" خلال السنوات: 2006 و حتى 2013.

كبداية ٍ يجب ُ أن نعترف َ أننا لا نعلم بدقة و تحديد و بشكل قطعي جازم: "ما هو الوعي" و "كيف يجب أن ندرسه" و "ما هو الخط الفاصل بين ما هو واعي و ما هو غير واعي"، و أن َّ دراسة الوعي تتطلب خوضا ً في التفاصيل الدقيقة للخبرات الموضوعية مع ابتعاد ٍ قاطع عن المناهج الاختزالية Reductive Approaches التي تنحى بالدراسة عن التفاصيل الصغيرة و الخفية و المتداخلة و تشغلها فقط بالكبيرة و الظاهرة و البسيطة، فتشابكُ مفردات: الوعي الإدراك العقل الحس، يتطلب فحصا ً دقيقا ً لكل ما من شأنه أن يؤثر في تحديد الوعي.

يذهب البحث ُ ليُبرز أهمية البيئة الثقافية في تسريع عملية تطور الوعي، و ظهور شكل الوعي، و الطريقة التي يعبر فيها الكائن عن الوعي، فيما يُطلق عليه اسم "العامل المُوحِّد" للوعي. إن هذه الثقافة التي أثرت في التشكيل و التعبير هي ذاتها التي تسمح للأجناس المتعددة أن تتخاطب فيما بينها، فهي التي تعتمد اللغة عند البشر، و هي التي تجعلنا ندرس ذكاء القرود العليا و وعيها باستخدام نفس الأداة: اللغة حيث أُخُضعت القرود العليا لتجارب تعلـّـُـمـِها و أثبتت بالقطع أنها قادرة على تميز: الحروف، الكلمات، و التراكيب اللغوية المختلفة، و هي قدرات أساسية في العقل البشري الواعي، مما يشي بوضوح شديد بوجود جذور الوعي في هذه الكائنات، و وجود الوعي نفسه بدرجة أقل من تلك الموجودة في الإنسان.

تكمن ُ أهمِّية التجارب السابقة لا فقط في المشاركة الفاعلة في اكتشاف ماهية الوعي لكن في تقديمها لأداة كاشفة له، أداة نستطيع تميز الوعي بواسطتها، أداة قياس، وسيلة تعرُّف، ضوء كاشف يخبرنا عن الوعي، ما دام أننا نُشرك في ثقافتنا (و هي هنا اللغة و نمط التفكير المرتبط بها) القرد الأعلى، و نلاحظ تفاعله معها، و ندرس استجابته للمعطيات و نحلل المخرجات التي تصدر عنه. إننا الآن على أرضية ثقافية لغوية مشتركة ندرس بواسطتها الوعي، و يتفاعل معنا الكائن ُ القردي المدروس و يزودنا بما يمكن قياسه و الحكم عليه.

للتوضيح دعونا ننظر إلى التجربة التالية التي تم إجراؤها على شيمبانزيين باسم: أوستين و شيرمان:
- وُضع الشيمبانزي أوستين في غرفة بزاوية تسمح له برؤية الباحث كلما فتح الثلاجة، و آخذ منها طعاما ً معينا ً.

- وضع شيمبانزي آخر اسمه شيرمان بزاوية تسمح له برؤية الشخص و هو يفتح الثلاجة لكن دون أن يستطيع رؤية ما تم أخذه من طعام.

- كان المطلوب من أوستين أن يستخدم لوحة مفاتيح للتخاطب مع شيرمان، ليخبره بنوع الطعام الذي أخذه الباحث.

- و المطلوب من شيرمان أن يتخاطب باستخدام لوحة مفاتيحه مع الباحث، لطلب نوع الطعام الذي أخبره عنه أوستين.

- كلما كان الطلب صحيحا ً يقوم الباحث بمكافأتهما بتقديم الطعام لهما.

أكدت نتائج التجربة أن الاستخدام اللغوي الناجح بين أوستين و شيرمان اعتمد أساسا ً على فهم ٍ مشترك لحقيقة الموقف و المطلوب كبداية، و أن النجاح اعتمد على توظيف اللغة لخدمة الفهم، أي أن الإدراك و الفهم هنا هما الأساس و أن الاستخدام اللغوي كان الأداة، بمعنى آخر: إن المخرجات اللغوية و النجاح في التعامل مع الموقف، و الذي يشي بوضوح شديد بوجود وعي معين لدى الكائن القردي، استند على أساس دماغ مادي عصبي عضوي مشترك. فإذا ما مددنا الخيط على استقامته و عدنا إلى السجل التطوري لنوعنا البشري و قارناه بالسجل التطوري لهذه القردة، أدركنا أن الوعي كامن ٌ فيها من حيث ُ كونِ المادة العضوية أساسا ً لكل ما يمكن أن ينتج عنها تطوريا ً، و بدون تعارض ٍ كذلك َ ظاهر ٌ (أي الوعي) بأشكال مختلفة لا ترتقي (حتى الآن) لمستوى الوعي البشري. إننا هنا نفتح الباب واسعا ً أمام احتمالات التطور المختلفة مستشرفين مئات أو آلاف السنين القادمة، إننا ننتجاوز ُ السؤال: "هل الحيوانات واعية؟" لنقول: "ما هي احتمالات تطور الوعي عند الحيوانات، و كم سيلزم بعض أنواعها لظهور وعي مشابه لما عند الإنسان؟" بل يمكننا أن نذهب إلى أبعد من ذلك لنسأل: "هل سنشهد ظهور وعي حيواني متقدم ليس بالضرورة مشابها ً لوعينا، لكن من نوع ٍ آخر؟" و سنعود للفقرة التي أبرزت ُ فيها دور الثقافة في تزويدنا بأداة مشتركة مع الكائنات الأخرى لدراسة الوعي لنسأل: "هل ستكون ثقافتنا أداة ً مناسبة لدراسة ذلك الوعي الجديد؟ أم سيتعين علينا أن نجد ثقافة أخرى مشتركة إن وُجدت؟"

و ربما أن الجملة التالية تعبر بشكل ٍ مختصر - لكنه مثير ٌ بحق - عن الوعي كما يخبرنا عنه استخدام اللغة في تجربة أوستين و شيرمان كقردة عليا، و في حياتنا كبشر:
“Language was not reducible to its internal structure alone. It required two participants able to mean and to intend, locked into a social context of communicative exchange.”

"لا يمكننا اختزال (اختصار، حصر) اللغة ببنائها الداخلي (اللغوي). إنها (استخدام اللغة في التجربة السابقة) تطلبت مشاركــَـيـْن اثنين قادرَيـْن على فهم و تكوين معنى و اتخاذ قصد، ضمن سياق (إطار) اجتماعي لخطاب متبادل" (الترجمة: نضال الربضي).

في تجربة ٍ أخرى مع قرد البونوبو كانزي، اعتمد الباحث منهجا ً يرتكزُ على الفهم ضمن الإطار الثقافي التلقائي أكثر من تلقين اللغة، فجاءت النتائج مدهشة ً بحق. لقد تم وضع كانزي في بيئة تشبه بيئته في الغابة مع أم ٍ ولدت إخوة آخرين له، كوّنوا مجتمعا ً من قردة البونوبو، في نفس الوقت الذي كان يتعامل فيه كانزي باستمرار مع الباحثين و المعتنين به من البشر، و حراس المكان، و يشاهد حيوانات أخرى مثل الكلاب التي تحرس المختبر. لقد كانت بيئة ثنائية: بونوبو و بشر، وفرت سياقا ً جديدا ً للغة لتعمل فيه، سياقا ً فريدا ً أبدى فيه كانزي مهارات مدهشة في فهم صعوبة تعامل والدته البونوبو مع البشر و عدم فهمها لهم ، و الذين بدورهم أبدوا عدم فهمهم لمقاصدها أيضا ً، فكان َ أن عمل َ كانزي وسيطا ً ناجحا ً بين الطرفين، يفهم والدته و احتياجاتها، و يفهم ُ البشر و متطلباتهم، و يُدرك الوسيلة و يتقنها ليتخاطب مع البشر ناقلا ً لهم هذه الاحتياجات و حاصلا ً منهم عليها ليقدمها لأمه و كذلك لأخوته الذين كانوا يفشلون في طلبها.

يخلص البحث ُ إلى إقراره بوجود وعي لدى القردة العليا، و بامتلاكها لـ"شخصيات". كما و يركز بشكل واضح و صريح على أهمية الثقافة و البيئة في تطوير الوعي بقوة ِ أثرهما على المكون البيولوجي العصبي الأساسي (أي على الدماغ). إننا هنا أمام عصر ٍ جديد نعترف ُ فيه بأن الوعي فينا و في الحيوانات يرتكز ُ على أرضية بيولوجية عصبية مشتركة هي الدماغ الذي نعرفُ بفضل علوم التطور و الجينات و الأحافير أنه في تغير مستمر و ارتقاء ٍ و نشوء لا يتوقفان. و أرى أن العرض السابق إجابة وافية على سؤالنا.

الخلاصة
----------
- يستند الوعي على مكونه العضوي العصبي (الدماغ)، و تؤثر الثقافة و البيئة في تطوير الوعي بشكل رئيسي.


- على الرغم أننا لا نستطيع أن نحدد بدقة ماهية الوعي إلا أننا نمتلك مناهجَ و مؤشرات ٍ على وجوده، و طرقا ً لقياسه، تتطور باستمرار.


- بحسب هذه المناهج و الطرق و المؤشرات، تمتلك ُ بعض الحيوانات الذكية مثل القردة العليا الوعي.


- نستنتج بالقياس على القردة العليا، و بدراسة بعض الحيوانات الأخرى مثل الدلافين أن مفهوم الوعي يمتدُّ ليشملها أيضا ً. (م2، م3: مقالتان عن الدلافين، أنظر توثيقهما في الأسفل)


- يفتح ُ السابق ُ الباب واسعا ً أمام مزيد ٍ من البحث و التدقيق و مراجعة المفاهيم القديمة للذكاء و الوعي، و انتهاج طرق جديدة لمراقبتهما و قياسهما، للوصول إلى تعريف ٍ مُرضٍ للوعي و أشكاله.


- يشجع ُ هذا الجزء من سلسلة "قراءة في الوجود" القراء َ الكرام ليقوموا بأبحاثهم الخاصة و يتساءلوا و يتحرروا من سطوة الأفكار التقليدية ليستطيعوا أن يدركوا الجامع البيولوجي المشترك بين الكائنات، و يميزوا الوعي فيها، ليكوِّنوا قناعاتهم الخاصة المرتكزة على ما تقدمه لنا الأبحاث و الاكتشافات، بهدف الاقتراب أكثر من الحقيقة.


-----------------------------------------------------------------------------------------------------------
المصادر:
م1: بحث منشور في موقع دوريات أكسفورد على الرابط التالي:
http://icb.oxfordjournals.org/content/40/6/910.full?sid=64ce99e1-b1a0-45c6-a741-e40183c4062a
(التعريف بالباحثة: https://en.wikipedia.org/wiki/Sue_Savage-Rumbaugh )


م2: مقال عن ذكاء و سلوك الدلافين.
http://understanddolphins.tripod.com/dolphinbrainandintelligence.html


م3: مقال عن ذكاء الدلافين.
http://www.whalefacts.org/dolphin-intellegence/



روابط أخرى ذات فائدة:
الحياة الاجتماعية لقردة البونوبو.
http://www.thedailytransmission.com/2015/05/14/bonobos-make-love-not-war/


ضوء على ذكاء الخنازير و صفاتها الاجتماعية.
http://www.huffingtonpost.com/2015/06/15/are-pigs-intelligent_n_7585582.html


ممارسات ذكاء و وعي عند الفيلة.
http://mentalfloss.com/article/55640/7-behaviors-prove-elephants-are-incredibly-smart


صورة حداد لأنثى فيل على موت فيل آخر (قارنها بسلوك توديع الميت عندنا، و سلوك احتضان الأصدقاء لأهل الميت)
http://travel.nationalgeographic.com/travel/traveler-magazine/photo-contest/2012/entries/149266/view/








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - عزيزي نضال الغالي
قاسم حسن محاجنة ( 2015 / 8 / 6 - 13:41 )
تحيات واشواق
النسبية هي سيدة الموقف حتى الآن
فلو أخذنا القرد الذي -اخترع - لغة وتواصل بها مع زميله ، فهو بالنسبة لباقي القرود ، أكثر ذكاءً.
كما وأن المريض بالشيزوفرينيا الذي يتواصل مع الله ، هو من وجهة نظره -يفوقنا - ذكاءً ، لأنه قادرٌ على التواصل مع كينونة عليا ، ليس للمخلوق البسيط إليها من سبيل ، لكنه بنظر -زملائه- الفصاميين شديد - الذكاء - وله مهارات اتصال تفوق قدرة البشر .
ومن ثم ، ولتحديد الوعي ، يجب أن نسأل ما هو -الطبيعي- وغير الطبيعي ؟
لكنك ودون شك تطرق مواضيعا عميقة جدا ، وتحاول ان -تجد- جوابا،لسؤال صعب وشاق ، ما هو الوعي ؟ هل هو مقتصر على الهومو سابينس ؟ وهل قصورنا عن اكتشاف القرات الكامنة عند الحيوانات يعني بأنها غير واعية أو غير مدركة .
اعتقد بأن العلم سيأتي بإجابات . ولا تنسَ بأن الأميجدالا البشرية ، هي الدماغ الأولي ، الحيواني قبل الهومو سابينس .فها أبحاث الدماغ وتحديدا الأميغدالا ستقودنا الى مزيد من المعرفة عن -العقل - الحيواني ؟
شكرا لك ، وبرافو عليك أيها الرجل ، لانك تطرح مواضيع مثيرة ومثيرة للجدل .
ويبقى السؤال ، هل -وعي - الهومو سابينس العربي ، شبيه بوعي الغربي


2 - الدماغ و ما قبله - 1
نضال الربضي ( 2015 / 8 / 6 - 21:06 )
تحياتي المسائية الجميلة أيها العزيز قاسم،

أسعدني تعليقك فهو يلخص ما أردت قوله في مقالي، و أود هنا أن أعود بك إلى ما قبل اللوزة الدماغية (الأميجالدا) في رحلة إلى ماض ٍ سحيق كانت الأيونات في البكتيريا تلعب فيه دورا ً هاما ً كوسيلة نقل للمعلومات في الخلية.

تشير أبحاث أن هدف العصبونات الأول كان تحسين عملية الإحساس و جعلها أكثر فاعلية، و كذلك عملية نقل المعلومات في الخلية، و أن الوعي الناتج الآن هو منتج جانبي لم يكن الهدف الرئيسي، بنفس الطريقة التي تشير بها أبحاث أخرى أن الريش بدأ كوسيلة تميز و جذب جنسي للطرف الآخر (مثل ما يفعل الطاووس) ثم جاء الطيران كنتيجة جانبية.

لا نستطيع دراسة الوعي سوى من زاوية النسبية كما تفضلت َ بالتعقيب، و ذلك لأننا ندرك العالم من خلال إطار أو نموذج نصنعه نحن، لا يلزم الحقيقة في شئ، لكننا و بما أننا لا نملك سوى رؤيتنا و الكواليات التي نعيشها نعرِّف الوعي في الإطار الذي نفهمه.

يتبع


3 - الدماغ و ما قبله - 2
نضال الربضي ( 2015 / 8 / 6 - 21:10 )
تابع من تعليقي الأول

في التجارب التي أشرت ُ إليها في المقال، كانت لغة البشر هي الأرضية المشتركة ضمن الثقافة البشرية التي تم تعريض الشيمبانزيين و البونوبو لها، و أبرزت قدرتهم على استيعاب اللغة جزئيا ً و تميز حروفها و كلماتها و تراكيبها و استخدام لوحة المفاتيح للتعبير، وجود َ الوعي لديهم، فكانت النتيجة هي: نعم لدى القردة العليا وعي.

و هذا صحيح، فالوعي في أبسط صوره هو قدرة الكائن على تميز وجوده كـ -وحدة بيولوجية- أو -وحدة وجودية- و تميز محيطه و تميز الكائنات الأخرى، و التفاعل معها، و هذا متوفر في القردة العليا، و الدلافين، و الفيلة، و الخنازير و الكلاب، و الحيوانات بشكل عام، لكن درجة وعي الحيوانات هي التي تختلف.

يتبع


4 - الدماغ و ما قبله - 3
نضال الربضي ( 2015 / 8 / 6 - 21:21 )
تابع من تعليقي الثاني

بالنسبة لسؤالك عن مقاربة وعي الإنسان العربي مع الغربي فالجواب هنا من شقين:

- الوعي البيولوجي لدى الإثنين متطابق، فكلاهما خاضع لذات التصنيف البيولوجي: جنس Homo نوع ، Sapiens و بالتالي فهما متطابقان تشريحيا ً، و هذا الوعي هو موضوع مقالي.

- الوعي الحضاري: و هو سؤالك صديقي العزيز، مختلف، فكل منهما ينتمي إلى ثقافة مختلفة، تزوده برؤية أخرى للحياة، و قناعات تصوغ ردود أفعاله، و طموحاته، و تشكل مقاصده، و لذلك يسير كل منهما في طريق له معالم و ملامح و محطات مختلفة.

بحسب قانون التطور فالبقاء سيكون للأصلح، والأصلح ليس بالضرورة الأفضل، إنما الذي يستطيع أن يحيا و ينقل جيناته.

موضوع الوعي شائك جدا ً، و أنا سعيد بتفاعلك معي!

دمت بكل الود!


5 - عودةً للوعي
شوكت جميل ( 2015 / 8 / 8 - 20:48 )
عزيزي الأستاذ / نضال الربضي ؛ تحية مسائية مضمخة بأريج القهوة

أشرتَ سلفا إلى الجنس البشري كأعلى درجات الوعي بين كائناتنا الأرضية ، بقدرته على الفهم أو الحكم العقلي.

و اليوم تبسط الحديث عن الكائنات العليا في مراقي التطور(كالدلافين و القردة و الأفيال) و التي هي دون الإنسان العاقل ، غير أنها تملك لوناً من ألوان الوعي و الذي لا يتجاوز -أكثره -درجة الإدرك الحسي، و إن تضمن في رأيي_و كما هو واضح_شيئاً ليس بالقليل من الفهم و الحكم العقلي. فالحدود بين درجات الوعي ليست خطوطاً في نظري و إنما مناطق غائمة أو قل انتقالية .

و لعلك غداً _أو قريباً_ تبسط الحديث عن الكائنات الدنيا في مراقي التطور (كالطيور و الأسماك و حتى البكتريا ) و التي لا يتجاوز وعيها درجة الإنفعال الحسي في أدناها و درجة الإدراك الحسي. في أعلاه

و لكن لا أحسبنا مضطرين ،حتى من الناحية العلمية المحضة _و ليس بسبب إشفاقنا من التبعات الأخلاقية_ إلى إخراج الكائنات العليا من الكائنات الواعية ،فقط إذا نظرنا-علمياً- للوعي ليس كحالة حدية واحدة هي الفهم ،بل كدائرة تحوي درجات الوعي من الخلية إلى الإنسان.
جهدٌ مشكور
أخلص التحايا


6 - العزيز شوكت جميل العزيز
قاسم حسن محاجنة ( 2015 / 8 / 8 - 22:33 )
تحياتي لك وللزميل نضال ومساء الخير
أود أن ابدي اعجابي هنا وعلى صفحتك ،برصانة ما تكتب من مقالات ومت تعقيبات .
مع خالص مودتي


7 - العزيز الجميل، شوكت!
نضال الربضي ( 2015 / 8 / 9 - 19:19 )
تحية مسائية طيبة!

أجد أننا متفقان على شيوع الوعي، و شموليته كطيف لأشكال متعددة منه. أجد أيضا ً أن الإدراك الحسِّي الذي أوردته في البكتيريا مقدمة للوعي باعتبار أن البكتيريا لا تدرك كيانها إدراك الكائنات المعقدة، و إن كانت تدرك نفسها بطريقة ما، و هنا مكمن الصعوبة لأننا و إن كنا لا نعلم ماهية الوعي إلا أن دلائله تشتبه علينا فهل البكتيريا واعية: الجواب

- نعم فهي تدرك كيانها و إلا ما كانت تخوض في محيطها محافظة على نفسها و نامية بقوة التمثيل الكيميائي (الأيض) و متكاثرة و متطورة.

- لا فهي لا تمتلك جهازا ً عصبيا ً دماغيا ً يتمثل فيه الوعي العاقل كما نعرفه.

و الجوابان صحيحان، فكل منهما يحمل جزءا ً من الحقيقة، لاحظ معي هذا التشابك.

إذا ً ماذا نستنتج؟

بكل بساطة: علينا أن نجد تعريفا ً مقبولا ً للوعي بحسب إطارنا المعرفي و حكمنا العلمي حتى لو كان هذا الإطار بسيطا ً و غير شمولي، لكنه يبقى إطارنا الذي نرى من خلاله.

بماذا يفيدنا هذا الإطار؟ بكونه نقطة انطلاق لكي يتسع نحو الشمولية.

أسعدني حضورك يا صديقي!
و أسعدتني خواطر أصنام الفلين الفخمة!


8 - العزيز الطيب قاسم!
نضال الربضي ( 2015 / 8 / 9 - 19:23 )
أطيب التحيات المسائية لك أيضا ً أيها الصديق الغالي!

شوكت شاعر ٌ و فيلسوف، مُقل ُّ الإنتاج كدانة ٍ في قلب ِ صدفة في قاع محيط، أو كبدر ٍ ينتظره ُ محبوه و عشَّاقُه فيطل ُّ بما يبهج ُ العيون و يشبع ُ القلوب و يسرُّ الحاضرين.

أعتز ُّ بكما جدَّا ااااااااااا ً !


9 - عزيزي الأستاذ / قاسم
شوكت جميل ( 2015 / 8 / 9 - 21:30 )
مساء الخير ، و شكرا على مشاعرك الطيبة ، و تقديرك الكريم.

و الحق أستمتع بمقالاتك ذات الأسلوب الرشيق و الرائق ،و لأشد ما أعجبني حديثك عن عرب 48 _ و انت في قلب الحدث _و الذي يكشف عن حقائق طالما كانت غائبة أو غائمة لدي الكثيرين ،نتيجة التعتيم الإعلامي أو التشويه أحيانا.

دمت أخا عزيزا


10 - عزيزي الأستاذ / نضال الربضي
شوكت جميل ( 2015 / 8 / 9 - 21:45 )
مساءالخير ،أخجلني ما غمرتني به من تقديرك الفائق ، فحرت جوابا.

دمت أخا عزيزا

اخر الافلام

.. الطبيب غسان أبو ستة: تحول جذري يحدث في المجتمعات الغربية


.. ارتفاع وفيات فيضانات البرازيل لـ85 شخصا وقلق حول إمدادات الم




.. عصام صاصا مطرب المهرجانات يصل مصلحة الطب الشرعى لإجراء تحليل


.. الجيش الإسرائيلي يركد وفاة الطبيب الفلسطيني عدنان البرش داخل




.. صور بالأقمار الصناعية تظهر حجم الدمار الذي تعرضت له البرازيل