الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تظاهرات ساحة التحرير: من (المشروطة) إلى ديكتاتورية (ما ننطيها)3

حسين كركوش

2015 / 8 / 7
مواضيع وابحاث سياسية



حسين كركوش

تظاهرات ساحة التحرير: من (المشروطة) حتى ديكتاتورية (ما ننطيها)

القسم الأخير


سأبدأ هذا القسم الثالث و الأخير بذكر قصتين واقعيتين من تاريخ المجتمع العراقي:

الأولى : حسين مروة (1910-1987) ومحمد شرارة (1906- 1979) ، صبيان لبنانيان شيعيان أرسلهما أبواهما في بداية عشرينيات القرن الماضي وهما في سن الرابعة عشر إلى مدينة النجف لدراسة العلوم الإسلامية. وبعد أن قضيا سنوات طويلة هناك حولتهما البيئة الثقافية في النجف (نعم النجف لا غيرها ، وكان ذلك قبل تسعين سنة) إلى شيوعيين ثم إلى باحثين ماركسيين مرموقين ومشهورين.


الثانية : قبل أكثر من سبعين سنة ، أي في عام 1940 وصل مدينة الموصل قادما من مصر ، أحد أعضاء جماعة (الأخوان المسلمون) أسمه محمد عبد الحميد أحمد ، ليؤسس فرع عراقي للجماعة. وبعد أن قضى الداعية المصري ثلاث سنوات في العمل الجهادي ، عاد لبلاده. وهناك في مصر ، وفي (لقاء حضره الآلاف قدم عبد الحميد تقريرا حول مستقبل الدعوة في العراق ، خلص فيها إلى أن العراق حالة ميئوس منها.) وأكد في تقريره على أن (الفساد في العراق عميق ومتسع.) وذكر أنه خلال السنوات الأربع التي أمضاها هناك لم يحرز نجاحا يذكر. نقلا من: طارق حمدي الأعظمي ، نشوء الحركة الإسلامية السنية المعاصرة في العراق. رسالة ماجستير مقدمة لجامعة هارتفورد سنة 1996.)

عن أي (فساد) في المجتمع العراقي كان الداعية المصري يتحدث سنة 1940 ؟ فالمجتمع العراقي كان وما يزال ، في أكثريته الساحقة ، مسلما. والعبادات والشعائر والطقوس ومحلات العبادة لم تُمس ، لا سابقا ولا الآن. والمدن العراقية لم تتحول ، لا سابقا ولا حاضرا ، إلى ماخور.
يقينا ، أن الداعية المصري كان يتوقع أن يجد مجتمعا عراقيا (وهابيا) منغلقا. ولكنه شعر بصدمة عندما وجد حراكا سياسيا / اجتماعيا / ثقافيا ، ورغبة عراقية عارمة للتغيير.
و إذا كان الداعية المصري قد أخطأ في التوصيف فأنه لم يخطأ في التشخيص. فإذا كانت مدينة النجف قد تحولت ، لا في اربعينيات وإنما في بداية عشرينيات القرن الماضي ، إلى مختبر تتفاعل داخله مختلف الأفكار والفلسفات والمدارس السياسية ، فما بالك ببقية المدن العراقية بعد عشرين سنة.
(الفساد) كان قد (نخر) بعمق جسد المجتمع العراقي ، ليس في منطقة واحدة وإنما في جميع أنحاء العراق. كان العراق يعيش في أربعينيات القرن الماضي تصاعد نهضة أصبحت ، لاحقا ، جبارة و شاملة ، وفي كل مجالات الحياة.
لن نذكر ازدهار الأحزاب السياسية السرية والعلنية بمختلف مدارسها الفكرية، ولا المؤلفات الحديثة في العلوم الإنسانية، ولا الاكتشافات الأثرية، ولا الصحف العلنية والسرية، ولا المنتديات والصالونات الأدبية، ولا الحركة المسرحية، ولا النشاط السينمائي والمسرحي، ولا الفنون التشكيلية، ولا الأغاني. لن أذكر هذا كله.
سأذكر فقط واقعتين اثنتين كان فيهما العراق رائدا ، و لامستا العصب الحساس في المجتمعات العربية، وهدمتا قدس الأقداس في الموروث الاجتماعي والثقافي لهذه المجتمعات : المرأة ، و الشعر.
* فقبل أكثر من نصف قرن كان العراق قد سبق جميع الدول العربية عندما أصبحت امرأة عراقية وزيرة. والجميع يدرك مغزى أن تصبح امرأة وزيرة في بلد عربي مسلم محافظ. نعم حدث ذلك في العراق ، وليس في غيره من البلدان العربية.
** أما ريادة العراق الثانية التي لم يسبقه إليها بلد عربي فقد خصت قدس الأقداس الآخر ، أعني الشعر الذي هو (ديوان العرب ورأس آدابهم وخزانة لغتهم ومتحفهم الناطق وسجلهم النفيس ) .
لكن هذا الصرح الثقافي (المقدس) تحرش به و هدمه وأعاد بنائه بطريقة حديثة العراقيون ( السياب ، نازك الملائكة) ، وليس غيرهم. و حدث ذلك قبل أكثر من نصف قرن.


سيقول قائل: وما علاقة تظاهرات ساحة التحرير بثورة 14 تموز 1958 و (المشروطة) و حسين مروة و السياب ؟
مجموعة من العراقيين الشباب يتظاهرون احتجاجا ضد تردي الخدمات ، فما علاقة تاريخ العراق بمطالبهم وبتظاهراتهم ؟
بالضبط ، هنا تكمن العلاقة.
شباب تظاهرات التحرير والمدن العراقية الأخرى ليسوا مقطوعي الجذور. إنهم ورثة و أحفاد بُناة النهضة العراقية الحديثة. ويخطأ من يظن أن دافعهم للتظاهر هو ، تردي الخدمات العامة. إنهم يتظاهرون ويتظاهرون وسيتظاهرون لكي تستأنف مسيرة عملية التغيير الاجتماعي التي بدأها أجدادهم وإبائهم منذ مطلع القرن الماضي. إنهم يتظاهرون لأنهم تيقنوا أن مجتمعهم العراقي عاد مائة سنة الوراء ، وأنه في طريقة ليصبح (قندهار) أو مجتمع (وهابي) مغلق.
الذين يتظاهرون هذه الأيام في بغداد والمدن العراقية الأخرى هم قمة جبل الجليد العراقي الجبار الذي بدأ الآن يظهر للعيان بعد أن غطس في أعماق البحر منذ نصف قرن ، بسبب ضربات تدميرية ماحقة.

الضربة الأولى كانت فترة حكم صدام حسين ، فترة عبادة الشخصية بأحط أنواعها. طوال تلك الحقبة المظلمة نجح صدام في تصحير العقل العراقي ، ونشأ خلالها جيل لا يعرف غير ترهات يرددها على مسامعه طوال ساعات اليوم (قائد) أوحد معتوه.
الثانية كانت فترة الحصار الاقتصادي التي تحول خلالها الفرد العراقي إلى كائن همه الوحيد وشغله الشاغل هو ، أن يبقى على قيد الحياة ، لا أكثر ، وأن يقبل بأي جهة سياسية تحكمه بديلا عن صدام.
الضربة الثالثة هي القنبلة النووية الطائفية التي (صًفرت) العقل العراقي ، ومسحت ذاكرته التاريخية ، وألغت كل خياراته وعطلت كل مطالبه ، ما خلا غرائزه البدائية العدوانية.
الآن ، وبعد سنوات الخراب ، بدأ العراقيون ، كل العراقيين ، يدركون بأنهم كانوا (عميانا يقاتلون عميانا وما من شيء يحدث).
لم يحدث أي شيء. لا في مجال الخدمات العامة ولا في العيش الكريم و تحقيق العدالة الاجتماعية ، ولا في ميدان الحريات الديمقراطية العامة والخاصة.
إنها بداية استعادة الوعي.
بالتأكيد ، سنكون ساذجين ومغفلين لو قلنا أن تظاهرات هذه الأيام ستقلب الأمور رأسا على عقب ، هكذا بين ليلة وضحاها.
لكننا سنكون ساذجين أكثر لو قلنا إن هذه التظاهرات صرخة في البرية.
الأمور في العراق لن تظل ، بعد تظاهرات هذه الأيام ، كما كانت سابقا.
وسيشهد المجتمع العراقي اصطفافات جديدة وتغيرات جديدة ، و سيشهد المجتمع العراقي معارك اجتماعية وسياسية طاحنة كبرى لكنها من نوع آخر.

إنه العراق وليس قندهار.
إنه مجتمع (المشروطة) الذي اختار المستقبل عندما رفض مرة واحدة وللأبد (المستبدة).
إنه المجتمع العراقي الذي أطاح بدكتاتورية (ما ننطيها).
إنه ليس عراق (طالبان) ولا عراق ولاية الفقيه ، وإنما عراق مرجعية السيستاني التي (أوضحت أنها ترتأي لعلماء الدين أن ينأوا بأنفسهم عن تسلم المناصب الحكومية) ، و هي المرجعية التي ( لا تدعو إلى قيام حكومة دينية ، بل إلى نظام يعتمد مبدأ التعددية والعدالة والمساواة) ، والتي ترى (أن يكون للمرأة العراقية دور كبير في تطور العراق ورقيه ورفعته.)

نعم (شتلة) تظاهرات هذه الأيام ستستمر بالنمو وستكبر لأنها (شتلة) تمتد جذورها عميقا في تاريخ العراق. وهذه التظاهرات ستلفظ كل من يريد تطويقها واحتوائها وحرفها عن مسيرتها ومنعها من تحقيق هدفها بإقامة دولة مدنية بنظام ديمقراطي ، كما نصت مواد الدستور الجديد.
لكن الطريق لن يكون سهلا ومعبدا أبدا. ستتحد جميع القوى المناهضة للتغيير وستستخدم جميع أسلحتها المكشوفة والمخفية ، الأسلحة الفعلية والأسلحة المعنوية التسقيطية ، وهي أسلحة لا تقل فتكا من الأولى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الشعب العراقي من الشعوب المتمردة التي تفاجئ العالم
علاء الصفار ( 2015 / 8 / 7 - 14:09 )
تحيات الاستاذ حسين كركوش
مقال رائع فهو ينتصر للشعوب و ياخذ بيد الشباب بل ياخذ بيد كل المنهارين من احزاب اليسار ام احزاب السلطة لرؤية الواقع في العراق فرغم جرائم صدام حسين و جلاوزته و لتحالف امريكا مع صدام حسين و البعث الفاشي و تعاون السعودية و الكويت مع صدام ايام الحرب على ايران قام الشعب العراقي باول انتفاضة ضد الدكتاتورية في المنطقة العربية في عام 91 فقامت امريكا بدعم صدام ليسحق الشعب العراقي و ثورته, فبعدها خدع الامريكان ليس الشعب العراقي و يساره و شيوعيه بل خدع العالم ليقيم الحرية و التقدم في العراق لذا سكت الشعب العراقي و هدأ لذا اليوم بدء الشعب العراقي ينتفض و يتحرك رغم كل انواع الحيف و القهر و الفساد و التفجير و انتصار داعش لنزع الموصل من العراق, اي ان العراقي و حتى البشر المتدين فيه ومن مدنه المقدسة يكمن فيها روح التحرر و الانعتاق و الثورة اي ان الدين في العراق حالة خاصة يمكن القول تاخذ ابعاد العلاقة الشخصية مع الله و هو بكلمة اخرى العراق مهيأ لفصل السلطات و التقدم العلماني’ لكن العراق محاصر بالسعودية و الاردن و تركيا عملاء امريكا و الناتو, نعم العراق هو صاحب ثورة القرامطة !ن

اخر الافلام

.. -أسلحة الناتو أصبحت خردة-.. معرض روسي لـ-غنائم- حرب أوكرانيا


.. تهجير الفلسطينيين.. حلم إسرائيلي لا يتوقف وهاجس فلسطيني وعرب




.. زيارة بلينكن لإسرائيل تفشل في تغيير موقف نتنياهو حيال رفح |


.. مصدر فلسطيني يكشف.. ورقة السداسية العربية تتضمن خريطة طريق ل




.. الحوثيون يوجهون رسالة للسعودية بشأن -التباطؤ- في مسار التفاو