الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الهديّة (قصة قصيرة)

رستم أوسي

2015 / 8 / 8
الادب والفن


أيقظتني المدفعية باكراً هذا الصباح. لم أنم أصلاً ، فقد كانت تقصف طوال الليل ، أو ربما نمت ساعتين متقطعتين أو أقل قليلاً ، أثناء تبديل وردية العساكر أو خلال فترات الصيانة ، لا أدري. الحقيقة أن السلاح يعمل كل ليلة بذات الرتم ، لكن شيئاً آخر أشدّ وقعاً على نفسي من هدير المدفعية أخفض عتبة اليقظة لدى حواسّي طوال تلك الساعات ؛ كان الخوف من النهار يعشش في داخلي كتعشيش صوت الانفجار في أذنيّ ، و كانت الحيرة تلازمني كما يلازم سقف الغرفة الواطئ بصري ، و قد نكأت عنه الرطوبة طبقة الدهان السكري اللون. كيف سأقابلها اليوم ، خاوي اليدين!. كيف سأتبسّم لها و أنا أقول (صباح الخير). هل سأجرؤ على مناداتها ، كالعادة ، (حبّي)؟ كانت ساعة الجوال تشير إلى الخامسة و النصف صباحاً قبل أن أطفئه تواً. ساعتان متبقيتان على موعدنا ، ستمران كاستراحة السجن. أمس كان الأمر مختلفاً ؛ كان الوقت عبءً ثقيلاً علي ذاك المساء ، فيما تسلّط سيف الضحك الممضّ على قلبي الغارق في الحياء. لم أضحك من نفسي و لا من التجربة ، و أنا أحمل كيساً ثقيلاً و أختلف من دكان إلى معرض و من كشك إلى بسطة رابحاً المزيد من الخبرة في عرض زجاجات العطر التي بحوزتي ، بل ضحكت من تجاوب التجار معي على أنني بسطاتي صغير في المجال ، و من الخاتمة التي يلجأ إليها من يريد إنهاء الحديث عن صفقة رديئة ((الله يجبر عنك.))
وقفت طويلاً خلف نافذة العرض قبل الدخول إلى كل متجر ، و تجنبت الدخول إلى بعض المحالّ. توجست كثيراً ، راقبت ، تلفتّ بحثاً عن شخصٍ ما يعرفني هنا أو هناك ، داخل محل ما أو خارجه. نسيت وجهتي ، وسط السوق المتخم بالبضائع و الناس ، سارحاً في واحة من أكاذيب أجتهد لتلفيق قصة ، يمكن تصديقها ، لتفسير ما أفعله في حال شخَص أحدهم بغتةً أمام عينيّ أو لسعني صوت كالسوط من الوراء (( أستاذ! )).
جبت سوق الأشرفية دون جدوى. عرضتُ على أحد الباعة أن يبدل عبوة عطر نسائية باثنتين من عندي لكنه رفض. ما كنت لأتردد في مقايضة كل ما بحوزتي ، من روائح ذكورية لاذعة ، بعبوة نسائية واحدة ، لكن رده الحاسم أحرجني و قمع رغبتي في المحاولة.
((روايح حلوة ، بتمشي. بسّط ، توكل ع الله.)). قال عطارٌ و هو يعيد إحكام الغطاء على فوهة إحدى الزجاجات ، إلا أنه لم يتحمس أبداً لفكرة حيازة البضاعة. حملت الكيس و مضيت. و كأنهم يعلمون أن هذه البضاعة مالٌ حرام!.. قد لا تكون كذلك. بل هي دَين في رقبتي على كل الأحوال. لم أكن لأحاول بيعها لولا اضطراري ، كما أنّ صاحبها في تركيا و لن يستطيع المجيء ؛ لم يكن يدري أنه سيلاحَق حين أودعني إياها. ثم إنها عطورات رخيصة ، ثمنها مجتمعةً لا يتجاوز الألف ليرة.. لم يقبل أحد بشرائها و انتهى الأمر ، ما الداعي للشعور بذنب فشلت في اجتراحه!.
اأعدت تشغيل الجوال. هذا واقعي ، ثم إنني فعلت ما بوسعي. لم تقبل أمي أن تقرضني مالاً إلى آخر الشهر. كان يمكن أن أضغط عليها أكثر لولا أنني أعرف جيداً أن كاهلها يثقله أولادٌ جياع. تعالي و تفرجي يا سلاف!. هه قال وردة تكفيها!. هل كانت تعني مجرد وردة من بستان ما ، أو من الياسمينة الهرمة المتداخلة مع السياج الحديد على سور حديقة المحافظة على طريق الوظيفة ، حيث أقطف لها كل يوم!.
لكنها تعرف "البير و غطاه" ، كيف تفعل بي هذا!. لم يعد أحد يكترث لتعلّم اللغة. ثلاثة دروس خصوصية في الأسبوع لطلاب الشهادة الثانوية أصبحت كل ما أفعله في حياتي ، إلى جانب مداومتي على الاستيقاظ كل صباح للقاء سلاف على موقف الدائري الشمالي. و في هذه الأيام صار التدريس كالسمانة يقتضي مفاصلة الطلاب على السعر و دفتراً لتقييد الديون.
أمسى العالم في لحظة صحراء مقفرة ، و الآن لا شيء سوى جوارح كلماتها ، تحوّم فوق الرّمة التي خلفها ذهولي. لم أعتدها تخاطبني هكذا!.
كنّا في منتصف الطريق إلى وظيفتها البارحة حين رضخت ، بعد عناء ، لتوسلاتي أن تفصح عما يعكّر مزاجها منذ باكر الصباح. تقلصت المسافة بين حاجبيها و هي تتجنب النظر إليّ و تردد بنبرة شعرتُ بصيغة الاستفهام فيها تسخر مني ((ألم تتساءل مرة واحدة ما عساه يكون موقفي إذا سألني أحدهم ؛ ماذا أهداكِ حبيبك في عيد ميلادكِ؟)). التفتتْ إليّ فشغلتُ نفسي بمراقبة السيارات تمهيداً لقطع الشارع. تابعنا المسير و تابعَتْ مبددةً محاولتي لخطف طرف الحديث ((هذه من أهم المناسبات في حياتي. ينبغي أن تعي بمفردك أهمية أشياء كهذه.))
((من قال لكِ أنني لا أعي؟ أخبرتك يومها أن هديتك في الحفظ و الصون.. ))
((و هل يمكن تأجيل اليوم الذي خلقت فيه؟ ما قيمة الهدية إن لم تكن في وقتها؟ خلص شكراً ، لم يعد هناك داعٍ.))
باغتني كلامها ، اخترقني كنظراتها التي لم تعد تخشى الاستقرار على عينيّ و تأنيبي.
((لكن الوضع..))
((لا تحدثني عن وضعك المادي. مضى 29 يوماً على المناسبة!. لم أطلب ذهباً ، وردة كانت ستكفيني.))
ارتبكت ، فقدت الذاكرة و لم أشعر مطلقاً أنها قست علي. فنّد الشعورُ بالذنب الرغبةَ بالاحتجاج لدي ؛ 29 يوماً!.
((لدي سبب. لا أستطيع أن أكشف عنه الآن ، لكن سيأتي يوم و تعرفينه.)).
ألحّت علي لأخبرها عن الأمر لكنني امتنعت ، قبل أن ننحدر صامتين في الطريق المحاذي لكلية الهندسة المدنية. و مع انعطافنا يميناً باتجاه دائرة عملها بدأت وعودي لها بجلب الهدية غداً تتحول توسلاً أن تبدي القبول بها. بدت سماتها أكثر هدوءً و هي تودّعني ، بعد أن هزّت رأسها بالموافقة. تكلفَتْ ابتسامة خفيفة ثم تاه بصرها عني. راقبتها تبتعد و أملٌ يراودني ، كذلك الشعور الذي ينتاب من يدينون للمرابين ، أن غداً لسبب ما سيكون أفضل.
و ها قد صار الغد ، و أنا منشغل بالتفكير أأردّ على اتصالها أم لا. أتظاهر بالمرض و لا أنزل اليوم ، أم أشرح لها بالتفصيل ما حصل معي في السوق البارحة و انتهى. كان عليّ أن أقفل الجوال ، لكن الأوان قد فات. لن تصدق أنّي مرضت. أسكِت الهاتف و أجلس أتأمل اسمها على الشاشة. ستعاود الاتصال خلال دقائق. ألقيت الهاتف على السرير و ارتميت على ظهري دون حراك ، و كان الخوف من النهار ما يزال يعشش في داخلي كتعشيش صوت الانفجار في أذنيّ ، و كانت الحيرة تلازمني كما يلازم سقف الغرفة الواطئ بصري ، و قد نكأت عنه الرطوبة طبقة الدهان السكري اللون.

حلب - 2013.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رحيل الممثل البريطاني برنارد هيل عن عمر 79 عاماً


.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع




.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو


.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05




.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر