الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوصية ما قبل الأخيرة.. قصة قصيرة

نهار حسب الله

2015 / 8 / 8
الادب والفن


عاش أيامه بين جدران غرفته الاربعة.. وأكتوى بنار الوحدة واستنشق رمادها ودخانها خوفاً وغربة..
كان يمارس حياته على نحو تقليدي لا يتجاوز رتابة الواقع اليومي.. وفي إحدى الليالي تملكه خوف لم يستطع الافلات منه..
خوف تسلل سريعاً لأعماق روحه..
اعتقد للوهلة الاولى ان احساسه يشكل علامة من علامات الموت القريب.. احساس حاول ان يوريه التراب خلال ساعات الليل.. حاول جاهداً تحرير نفسه من ذلك الكابوس المخيف، مثلما حاول التظاهر بالهدوء قدر المستطاع، ولكنه شعر بأن أحشاءه تكورت على بعضها لتصبح قطعة واحدة، وان أطرافه بدأت تهتز كأنها ورقة وحيدة على غصن شجرة..
نهض من فوق سريره بعد ان شعر بان العرق يتدفق من مسامات جسده ليرتمي بضجة على الاريكة المصابة بجميع أمراض الشيخوخة.. ليخرج منها تراب الزمن العالق بداخلها.
لم يكن يعاني من مرض مزمن معين.. كانت صحته جيدة، غير انه كان يشم رائحة الموت وهي تقترب منه تدريجياً.. رائحة يجهلها جميع الأحياء إلا هو..
بدد عتمة الغرفة بعد أن أنار مصابيح الغرفة كلها، محاولاً طرد مخاوفه ولو لأجل مؤقت.. غير ان محاولاته باءت بالفشل، وظل يصارع نفسه حتى الغسق.
وردت الى رأسه فكرة ان يدون آخر لحظات حياته، وتطورت الفكرة حتى تحولت الى كتابة وصية..
كتب حروفه بخط مرتبك مرتجف على ورقة سمراء ودفنها تحت رأسه بعدما استلقى على الاريكة وذاب في نوم لا يخلو من الحذر..
ضجيج الناس في الحي الشعبي الذي يسكن فيه لم يسمح له بالنوم طويلاً.. حيث تسللت أصوات المارة وأبواق السيارات الى اذنيه ونبهته باطلالة صباح جديد.. ومن دون ان يفتح عينيه تلمس جسده وتفقد نبضات قلبه وتأكد من استمرارية حياته، فأبحرت المرارة واستنفدت الدموع واصبح الاسى شفافا لدرجة كان يصعب تفريقه عن البهجة المؤلمة بسخريتها..
قبل ان يغادر تابوت الليلة السابقة، فوق أريكته العجوز، مزق وصيته كونها لم تعد سارية المفعول، واستعجل استبدالها بورقة اخرى تناسب التوقيت الصباحي..
تحمم وتعطر بعطر محلي الصنع وارتدى ثيابه المتواضعة، وكتب وصية جديدة بخط اقل ارتباكاً من الليلة الماضية وبتفصيل أكثر عن حياته، وعن شبح الموت الذي يرافقه.. وعمل على طي الورقة أكثر من مرة ووضعها في جيب قميصه..وانطلق يجول بانتظار قدره الشؤم..
ربما غير الموت نظرته تجاهه، أو تجاهله أو انشغل بانجاز مهام أكثر عجلة من روحه، لانه قضى صراعا مع الحياة ورائحة الهلاك التي تمسح عطره المحلي لأكثر من خمسة أيام متواصلة..
كان يعيد كتابة وصيته أكثر من مرتين في اليوم الواحد، ويؤرخ فيها آخر التغيرات والمستتجدات..
ومع دخوله في اليوم السادس بدأ يشعر بالانهاك النفسي والجسدي.. وبدأ يمني نفسه بأن تنتهي محنته في أقرب وقت حتى ولو بموته، لدرجة انه تثاقل من كتابة وصية جديدة، بعدما لمس عدم جدية الموت تجاه روحه المنتظرة.. لكن القدر كان حاسماً صباح ذلك اليوم.
يبدو ان الموت كان يخطط ويرسم له موتاً يليق به.. لدرجة انه اسقط جثته بهدوء على الرصيف وكإنما أراد سحب روحه من جسده من دون ألم.. حتى بدا وكأنه خيط شفاف أفلت من سنارة.
تجمهر الناس حول جثته الهامدة وحاول احدهم كشف هوية الجثة مفتشاً عن البطاقة الشخصية او عنوان السكن..
إلا ان أحداً لم يجد سوى ورقة سمراء كان قد كتب فيها وصيته قبل يوم من رحيله.. والتي تثاقل من تجديد محتواها..
فتحها وقرأها بصوت عال:
انتظر الموت، ربما هو أصعب من أي موت، هذا ما أدركته بعد خمسة أيام من القلق..
آسف جداً لمن يقرأ رسالتي السمراء هذه لانه لن يجد ما ينفعه في جيوبي الخاوية، بعد ان جاهد عناء التفتيش، ولكني اعدك بالتعويض، خذ ساعة اليد التي ارتدي على الرغم من كونها لا تساوي شيئاً، وخذ حذائي وتقبل اعتذاراتي لانني لم اطله منذ زمن.. وامنح قميصي لم تحب ما لم يكن ملطخاً بالدم..
وان سأل الناس عن أسمي ابلغهم بان اسمي هو يوسف.. اخبرهم بأنني لا أحمل اي وثيقة تعريفية لاني كنت لا اخشى السير في مناطق الاقتتال الطائفي.. ولكني مع الاسف اجهل كيفية موتي..
سوف تجد في جيوبي مبلغاً رمزياً.. امنحه لأي فقير تختاره انت..
بحث في جيوبه عن المبلغ المذكور ولكنه لم يجد شيئاً.. غير ان صوت احد المتجمهرين قاطع بحثه:
- لقد سمعت ما كنت تقرأ، وتأكد من أنك لم تجد شيئاً مهما كنت قد بحثت عنه لانه كان قد انفق ما لديه مساء امس، عندما زار مطعمي المتواضع وطلب طبق فاصوليا مع التمن ولم يكن المبلغ كافياً ولكنني تقبلته على مضض.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عوام في بحر الكلام -الأغاني المظلومة في مسيرة الشاعر إسماعيل


.. عوام في بحر الكلام - قصة حياة الشاعر الكبير إسماعيل الحبروك




.. عوام في بحر الكلام - الشاعر جمال بخيت: الأسطورة الخالدة الأغ


.. عوام في بحر الكلام - ما قاله الكاتب الصحفي منير مطاوع عن الش




.. عوام في بحر الكلام - المناصب التي وصل لها الشاعر إسماعيل الح