الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي

والقلب يعشق سراً .. ( الجزء الثاني )

فاتن واصل

2015 / 8 / 15
الادب والفن

أما أنا وشيرين أخت نديم، فقد أُطلـِق اِسمانا على الملاكين المنحوتين من الرخام والمنتصبَين في تقابل على حافة النافورة التي تتوسط حديقة الفيلا، يمدّ كل منهما يده للآخر بحركة راقصة في غاية النعومة، وينشران جناحيهما، ويقفان على ساق واحدة، أما الأخرى فممدودة في الهواء على طريقة راقصات الباليه، تنفجر من كفَّيهما الممدودَين نافورة من المياه، كما لو كان كل كف يمثّل ينبوعاً من الخير.. كم جذبني منظرهما! وكثيراً ما كنت أقف أمامهما أتأمل اندفاع المياه بينهما، فأمدَّ يدي أنا أيضا بحركة تمثيلية لعلَّ ينبوعاً من المياه ينفجر من بين أصابعي.
أسوار الفيلا أيضا كانت مصدر إلهام لخيالي . فهي تتكوّن من جزء حجري بارتفاع حوالي نصف متر، تعلوه أسياخ حديدية نهاياتها على شكل حراب تربطها من أعلى دوائر، وتميل أغصان الشجر عليه وتتداخل مع الحديد كأنهما في حالة حوار لا ينتهي.. تتشابك أشجار الجهنمية التي زرعت بجواره، وتطلّ بأذرعها المحلاة بالزهور البيضاء والحمراء والوردية من خلال مصبعات الحديد، كنت أتخيل أنها لراقصات مكسيكيات يتطلعن على المارة خارج الأسوار ، ويمددن أذرعهن المحلاة بالزهور الملونة ليداعبْنهم..
أين هي الآن!! الحديقة تبدو لي جرداء جافة ، أظن أن الخفافيش والبوم باتت تسكنها..

زفرت زفرة عميقة .. يا خسارة !!

تقدم التاكسي ببطء فاعتدلت في جلستي ، ثم كأن انفراجة ما حدثت ، فتحركت السيارات وانطلق سائق التاكسي كالمجنون، فتحت حقيبة يدي وأخرجت حافظة نقودي استعداداً للنزول .. نظر السائق إلي في مرآة السيارة وسألني مقاطعاً فيض الذكريات :
حضرتك نازلة فين في شارع رمسيس ؟
فأجبته باختصار والإرهاق يملأ صوتي :
قرب شارع أحمد سعيد.

استيقظت منزعجة في صباح اليوم التالي على طرقات متتابعة وبإلحاح على باب الشقة، بعد محاولات مريرة للنوم، نهضت متثاقلة أجُــّر قدميّ، فتحت الباب فوجدت البواب ومعه الكهربائي، فقلت:
أدخل واستنى معاه لغاية ما يخلص شغله.
ذهبت للمطبخ لأعدّ فنجاناً من القهوة، فقد كان رأسي ثقيلاً كحجر والصداع يتفجر داخله، أشعلت سيجارة وتأملت المطبخ حولي كأني أراه لأول مرة .
ها هي المائدة التي طالما شهدتْ جلساتنا وأحاديثنا سوياً لسنوات.. حتى أصدقاؤنا المقرّبون كنا نستقبلهم في هذا المطبخ، حوّلناه إلى غرفة معيشة، يوجد فيها تليفزيون وراديو، وكان ضيوفنا يتحركون داخله بحُرية كما لو كانوا أصحاب البيت، فكان عصام دائماً يفتح دولاب العجايب (كما كان يسميه) بحثاً عن آخر أنواع المربى التي أنتجتُها، أو المخللات، وكان يرى أني أعدّ هذه الأصناف بنفس طريقة والدته، ويجب علي أن أقوم بإعطاء دروس لنيفين زوجته، التي كانت تنظر له محذرة ألا يبدأ في قصائد السخرية منها، كما كان يرى أن عليَّ أن أفتح مصنعاً لهذه المنتجات، أنافس به توفيق بك والد نديم وأبيعها وأصبح أغنى منهم جميعاً، وبهذا يستطيعون أن يتوقفوا عن العمل وأنفق أنا عليهم .. فنقهقه جميعاً كالأطفال على تعليقاته.. ثم ننطلق في سرد الأخبار ، ويأتي دور أشرف الذي يبدأ في تحليل وتفسير الأحداث من وجهة نظره السياسية.
نديم كان يسلك سلوكاً مختلفاً، حين يدخل إلى المطبخ يبدأ فوراً في إعداد قهوته بنفسه، ثم يسأل الجميع بما في ذلك أنا وأشرف:
حد عاوز قهوة معايا ؟
فنردّ بالإيجاب.. وهو يعرف طريق كل شيء : مكان البن والفناجين والكنكة وأعواد الثقاب، ويقدّم لنا ألذّ قهوة .. وأحيانا كان يجلب معه الجيتار ويجلس بيننا ليعزف مقطوعات من تأليفه، وفي مرات قليلة كنت أغني معه، بعد إلحاح الجميع.
يوم الخميس كانت سهرتنا تمتدّ حتى الخيوط الأولى من فجر اليوم التالي، ما بين حديث وعشاء وتناول المشروبات. لا أنسى شكل كأس الكونياك عندما يتخللها ضوء الأباجورة فيظهر السائل داخله بلون ذهبيّ داكن، تبقى الكأس بجوار أشرف يحتسيها ببطء طوال السهرة وخاصة في الشتاء.. ثم يسترسل في الحديث، وكان يقول لي إنه لا يشرب إلا كأساً واحدة فقط، لأنه أحياناً يحتاج لما يطلق لسانه دون أن يفقد السيطرة والتحكم ..
عاقل جداً أنت يا أشرف، وأظن أن هذا العقل كان سبباً في أن أتوقف أنا عن الغناء!

لم يكن الغناء بالنسبة لي حرفة أو مهنة أبداً، كان دوماً هوايتي. وقد ورثتُ الصوت القوي والحنجرة الذهبية كما كان يصفهما دائما المرحوم عبد الله النجار، من أبي الذي كان يغني حتى أثناء تواجده في الحمام. وحين انضممت للفرقة الاستعراضية أثناء الدراسة الشاقة في كلية العلوم، كان ذلك بدافع الاستمتاع والقيام بشيء أحببته بل وعشقته من صميم قلبي منذ الصغر، وحين كنت أغني كان ينتابني شعور أشبه بالتحليق والطيران ..أنفصل عن الأرض وأرى كل الأشياء بعيدة.. لأنبعث في مكان آخر لا أعرف أسراره ، والسر الوحيد الذي أعرفه كان النغمات التي تغزو مسامي وتملأ أنفاسي.
الزواج والعمل والإنجاب وتربية ابني جعلوا مسألة الغناء تتلاشى تدريجياً من حياتي، وتوقفتُ تماماً،عدا المرات القليلة التي كنت أصاحب نديم حين يعزف على جيتاره، أو حين كنت أهدهد كريم لينام. لم أشعر بأي تشجيع من أشرف على الاستمرار في الغناء بل كان مهتماً بحصولي على الدكتوراه أكثر بكثير من اهتمامه بهوايتي.. فاكتفيت بذكرياتي عن الغناء.
ألحّ عليّ نديم بعد دراسته بأمريكا وعمله بمجال الفن، أن أسجل بصوتي أغاني كتبها صديق له يجيد فنّ كتابة الأغنية، وكان يراهن أني سأحقق نجاحاً باهراً، ورغم استمراري لأيام أحلم بالفكرة، إلا أنني كنت قد أنجبت ابني كريم وكان يبتلع أغلب وقتي، بالإضافة إلى أنني لم أجد عند أشرف الحماس لهذا المشروع - دون أسباب واضحة – فرفضت عرض نديم.

مرّ اليوم الأول بعد عودتي من أميركا طويلاً مملاً وكئيباً، رغم انشغالي بتفريغ حقائبي وتجهيز أوراقي استعداداً للعودة إلى العمل في اليوم التالي.
بدأتُ باتصالاتي مع المعارف بشيرين أخت نديم للاطمئنان عليها، لكني لم أستطع الوصول إليها، إذ لم أتلقّ رداً طوال النهار. ثم اتصلت بأم محمود التي احتفت بعودتي، سألتها عن حالة حماتها المريضة دادا نبوية التي تلازم المستشفى منذ عدة شهور ولم تتحسن خلالها بل ساءت أحوالها، واتفقت معها على أن تأتي في الغد لتنظيف المنزل.

يتبع غداً

التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي

التعليقات

1 - تثمين وإعجاب لروايتك سيدتي
الحكيم البابلي ( 2015 / 8 / 15 - 18:22 )
العزيزة فاتن
حين قرأتُ الجزء الأول لم أكن أعلم مُسبقاً بأنها رواية، حيث أنتِ لم تُنوهي لذلك، لكنني -وكما ذكرتُ في تعليقي- أعجبني الجزء الأول وتخيلتُ أنه يُصلح تماماً ليكون بداية أو مدخل لرواية طويلة نسبياً ... وكنتُ مُصيباً
وكالجزء الأول .. أعجبني الجزء الثاني الذي يُمهد بدقة لما سيليه من أجزاء الرواية التي وجدتُ فيها لحد الآن سلاسة ولغة جميلة وإنسيابية عذبة ومراجعة لذكريات إمرأة شرقية عاشت وتعيش حياة متطورة حديثة بعيداً عن المُجتمع المُغلق الذي تتكون منه أغلب جُزيئات مُجتمعاتنا الشرقية المغلوبة على أمرها للأسف، والتي عكس كل مُجتمعات العالم .. تعيش الماضي وترفض التحديث الذي تفرضه سنة الحياة ودورتها الطبيعية

أعجبني جداً المقطع الرائع في قولك
اما أنا وشيرين أخت نديم، فقد أُطلـِق اِسمانا على الملاكين المنحوتين من الرخام والمنتصبَين في تقابل على حافة النافورة التي تتوسط حديقة الفيلا، يمدّ كل منهما يده للآخر بحركة راقصة في غاية النعومة، وينشران جناحيهما، ويقفان على ساق واحدة، أما الأخرى فممدودة في الهواء على طريقة راقصات الباليه، تنفجر من كفَّيهما الممدودَين نافورة من المياه

يتبع رجاءً

2 - تثمين وإعجاب لروايتك سيدتي .. تابع للتعليق الأول
الحكيم البابلي ( 2015 / 8 / 15 - 18:34 )

كما لو كان كل كف يمثّل ينبوعاً من الخير.. كم جذبني منظرهما! وكثيراً ما كنت أقف أمامهما أتأمل اندفاع المياه بينهما، فأمدَّ يدي أنا أيضا بحركة تمثيلية لعلَّ ينبوعاً من المياه ينفجر من بين أصابعي-. إنتهى الإقتباس

الحقيقة سيدة فاتن ان ينبوعاً عذباً من المياه يتفجر حقاً من بين أصابعك كلما نشرتِ جزءً جديداً من روايتك هذه
إستمري ... أعتقد إننا سنقرأ في الفصول القادمة كل ما هو جميل، حيث البداية كانت مُرضية تماماً بالنسبة لي، وأتطلع إلى مزيد من تفجر الأفكار لإمرأة شرقية تحمل كل جمال الفكر الشرقي الحديث وليس العفن الذي تتستر عليه الخرق السوداء البالية

تحيات وشكر ... طلعت ميشو

3 - الحكيم البابلي الاستاذ طلعت ميشو المحترم
فاتن واصل ( 2015 / 8 / 15 - 18:49 )
إطراءك سيصيبني بالغرور ، أحاول أن أتجنب ذلك بقوة.. شكراً على كلماتك الرقيقة وأطلب منك أن تبقى لنهايتها لعلك تظل معجبا بها.. تحياتي وامتناني.

4 - الرائعة فاتن واصل
سامى لبيب ( 2015 / 8 / 15 - 18:51 )
تحياتى سيدتى فاتن واصل
رائع هذا الإنتاج الفنى المتدفق بعد جدب غياب طويل .. وجميلة تلك الصور التى تسرديها وترسميها بتلقائية شديدة لأحس بالمواقع والأحداث بل أشمها وهذا من قدراتك الفنية الجميلة فإستمرى ولا تنقطعى ولتنشرى مقالات القلب يعشق سرا مجمعا فى كتاب بالحوار .

5 - الأستاذ المفكر الكبير سامي لبيب
فاتن واصل ( 2015 / 8 / 15 - 19:09 )
الرائع هو مرورك وتعليقك الجميل، وسوف أقوم بتجميع الأجزاء في النهاية كلها في كتاب وأضعه في مكتبة التمدن طبعاً كنصيحتك تماما، هذا الموقع الرائع الذي أتاح لي التعرف بشخصيات كريمة ومفكرين كبار، وأن احظى بوجودهم بعالمي البسيط.. ألف شكر لمرورك والاطراء.

6 - نص جميل جدا
رويدة سالم ( 2015 / 8 / 16 - 13:26 )
اتابع بشغف تطورات هذه الرواية الجميلة
اسلوبك جميل جدا استاذة فاتن وتنقلك من فكرة لاخرى سلس ومثير
دمتي مبدعة

7 - شهادة جميلة من أديبة ومبدعة
فاتن واصل ( 2015 / 8 / 16 - 14:52 )
الاستاذة المحترمة رويدة سالم، شكراً للاطراء وتمنياتي أن يبقى هذا الانطباع الجميل للرواية في نفسك حتى نهايتها. تحياتي وأتمنى ان أقرا لك عملا أدبيا في القريب.

8 - اعجاب
طلال سعيد دنو ( 2015 / 8 / 16 - 18:02 )
سيدتي المبدعة
جميلة هي روايتك والاحساس ان ما سيتبع سيكون اجمل
الابداع من اجمل صفاتك

9 - الأستاذ طلال سعيد دنو المحترم
فاتن واصل ( 2015 / 8 / 16 - 18:13 )
تحياتي أيها الفنان وشكرا لمرورك والاطراء، أتمنى أن تنال رضاك حتى نهايتها.. وأشكرك على كلماتك الطيبة.

10 - كان الجزء الأول في صدر الصفحة، فلمَ نزل في الثاني؟
ليندا كبرييل ( 2015 / 8 / 16 - 21:37 )
معذرة أستاذة فاتن أن أبدأ تعليقي بالاستغراب من اختيارات المسؤول الكريم عن وضع المقالات مرة في صدر الصفحة ( كما في الجزء الأول أمس)، ومرة في عمود مروج المتمدن كما هو اليوم؟

تحياتي إليك في الجزء الثاتي

بدأت أنشدّ لأحداث القصة، ترى ماذا تفكر سلوى؟ هؤلاء الأبطال.. سيكون لهم دور كبير في حياتها حتما، وإلا لما ذكرتِهم بهذه التفاصيل الدافئة التي تشعر القارئ كأنه يعيش معهم

سلوى تعشق الغناء منذ الصغر لكنها.. يا للأسف وهي التي تملك الحنجرة الذهبية تتوقف عن الغناء ، أشرف زوجها لم يدفعها أو يشجعها
حسنا لنرى تأثير ذلك على سلوى مستقبلا

ننتظر الجزء الثالث
اكتشفت الآن أنه كان لحضرتك مقال ( مشهد لم يحدث في جنازة عائلية)؟
كيف فاتني؟
معذرة، لعدم انتباهي، سأقرؤه فيما بعد.

تفضلي تقديري

11 - الأستاذة رندا كبرييل المحترمة
فاتن واصل ( 2015 / 8 / 17 - 06:46 )
شكراً لدعمك ومساندتك فيما اتخذه المسؤول والمنسق لصفحة الحوار المتمدن من قرار نقل أجزاء الرواية من أعلى لأسفل، .. وأرجو ألا يؤثر ذلك على متابعة القراء لها .
أرى أنك اندمجتِ في التفاصيل، أرجو أن يحظى الجزء الثالث بنفس الحماس. تحياتي أستاذة رندا.

12 - احساس مرهف
شيخ صفوك ( 2015 / 8 / 17 - 12:21 )
الاحساس المرهف نحو ما يدور من احداث عندما يترجم الي كلمات و بدقة متناهية يتحول الي لحن عذب الي مفاتيح موسيقية لاغنية رائعة تسرقنا لدقائق الي عالم السحر و الجمال فيتوقف الجسم عن العمل و تصمت الاعضاء و يرتقي الانسان الي اعلي مراحل النشوة و السعادة الروحية .. لقد فعلت ذلك مثل المايسترو
في الجزء الاول و في السطر الثاني وصفت الرجوع الي الوطن حيث الوحدة و الصمت
تعبير بليغ ..هكذا يصف شكسبير الموت في مسرحية هاملت
والقلب يعشق سرا ..انها الحقيقة
لا نستطيع انكارها و لا نستطيع الاعتراف بها
عذوبة الكلمات و رقتها جعلت لعابي يسيل للجزء الثالث
دمت بخير

13 - الأستاذ شيخ صفوك المحترم
فاتن واصل ( 2015 / 8 / 17 - 14:38 )
كل الامتنان لتثمين حضرتك لكتابتي وأرجو أن يحوز ويستحوذ الجزء الثالث على اهتمامك كما حدث في الجزئين الأول والثاني، وأتمنى ان أحظى بمتابعة حضرتك للرواية لأطول وقت ممكن. شكراً للاطراء ولحضور شكسبير بقامته الأسطورية بذهنك عند قراءتك لكلماتي .. وها هو الجزء الثالث قد ظهر على صفحات التمدن .تحياتي وامتناني.

اخر الافلام

.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع

.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو

.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05

.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر

.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب

الحوار المتمدن - موبايل الموقع الرئيسي (adsbygoogle = window.adsbygoogle || []).push({}); والقلب يعشق سراً .. ( الجزء الثاني )

فاتن واصل

الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي

والقلب يعشق سراً .. ( الجزء الثاني )