الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
اليسار بين الانساني و السياسي
هيثم بن محمد شطورو
2015 / 8 / 15اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
الجبهة الشعبـية في تـونس و الاسلامويات، هما بحق خـطـان متـوازيان يستحـيل أبـدا أن يلتـقـيا حـسب قانون إقـليدس الرياضي الفيـزيائي بالنسبة لمقاسات الأرض التي نمشي عـليها، و بالنسبة لمقاسات الفضاء التي يكون الخط فيها مقعرا أو منحني في أشكال دائـرية، فان اليسار وحده يمكنه أن يكون فضائيا، أما الاسلامويات فمكانها تحت الأرض كالجرذان مثـلما قال العـقيد المعـقـد "معمر القـذافي" أيام الثورة الليـبية المتوحـشـة.
كانت الجبهة الشعبية قد دافعت أيام إنشاء الدستور عن إقرار فـصل دستوري يمنع عقوبة الإعـدام، و كانت حركة النهضة الإسلامية ذات الأغـلبية في المجلس التأسيسي تـدافع بشراسة عن إقرار هذه العـقـوبة. في شهر جويـلية أثـناء إعداد قانون الإرهاب في المجلس النيابي الجديد ذو الأغلبية من حزب نداء تونس الذي يمثل مزيجا من الدستوريـين و التجمعيـين و اليساريـين المتخـفـفين و في الأخير يمثل طبقة رجال الأعمال الكبار، تمت إثارة مسالة عـقـوبة الإعـدام من جديد بالنسبة لمن يحكم عـليهم القضاء بتـلبس جريمة الإرهاب. اعترضت الجبهة الشعبية عن إدراج عـقـوبة الإعـدام، بـينما لم تعترض حركة النهضة ذات المركز الثاني في البرلمان و التي لو اعترضت لما كان لعـقوبة الإعـدام أن تمر. رفضت الجبهة الإعـدام برغم كونه موجها صوب أعـدائها الإيديـولوجيـيـن قبل أن يتبـين عـدائهم للمجتمع ككل، أي الإرهاب الإسلامي، و أقرت حركة النهضة الإعـدام برغم كونه يستهدف أبنائها السابقين حين كانت تمثل بصفة علانية الأخوان المسلمين و الطيف الاسلاموي و حين سهلت تغـلغـلهم في البلاد. و الجبهة مواقـفها ثابتة تـنطلق من فلسفة قـوامها عشق الحياة و تـقـديس الإنسان و هي إذ تـفعل برامجها السياسية و الاقـتصادية تـنطـلق من هذه القاعدة و ليس من قاعـدة طلب السلطة أو البقاء فيها أو القبول بالفتات منها مثل حركة النهضة. فمحور الجبهة الشعبية هو الإنسان ذاك أنها يسارية، و محور حركة النهضة هو السلطة ذاك أنها اسلاموية فـقهوية. هذا هو المعيار الأساسي في التـفـرقة بين التـقـدمية كنزوع إلى عالم أكثر إنسانية و الرجعية كسقوط في عالم أكثر تخـلفا و نـفاقـا و توحشا، و ما بينهما يرقص حزب نداء تونس و ترقص معه البلاد في هذه الفترة من الحياة السياسية في تونس.
فالحياة الإنسانية متغيرة، و الحياة الفردية للإنسان تـتغير على مستوى الوعي و الممارسة. أما الدولة فيجب أن تكون لها روح كلية تعبر بها عن المجتمع. كان الأحرى حسب الروحية العامة للمجتمع التونسي المتسامح أن يتم رفض عقوبة الإعدام. كان يمكن الاقـتصار على الأشغال الشاقة المؤبدة و التي يشملها هي ذاتها العفو الرئاسي بعد مدة لا تـقـل عن العشر سنوات مثلا. فالملاحظ ان اكبر دافع للجريمة العادية أو الإرهابية هو الضجر. الضجر من عدم العمل و عدم الحركة في الفكر و الممارسة. ألا يكون الأجدى تطوير مصالح السجـون بحيث يجبر المجرم على العمل و التـثـقـيف الإجباري و الترويح الأسبوعي كذلك. هناك صورة يمكن أن تـتجسد و إفادتها كبيرة للمجتمع و الدولة على مستوى التعايش و المستوى الاقتصادي. تصور أن السجناء يشتغلون لما لا يقل عن الثماني ساعات يوميا في مشاريع مختلفة و منها المشاريع الكبرى. تصور أن يتعود هذا الكائن الخاوي نفـسيا على العمل، و ان يشاهد ثمرة عمله بعد ان يتم. تصور كيف يتغير نحو الأفضل حين يستعيض إحساس النقص تجاه الآخر بالجريمة مثلما اقترف سابقا، بالعمل و رضائه عن ذاته و تلمسه جدارته بالحياة. العمل يمثل مادة احتراق داخل النفس لشوائبها و قـلقها و ضجرها و الإحساس بعدميتها. كل تلك الوجدانات السلبية تـنـقـلب إلى الايجابية بفضل العمل. استمرار هذا الجهد لعشر سنوات ألا يبرئ النفس نهائيا..
لكن هذا ليس بكاف. يجب أن تستبعد فكرة كونه موضوع استغلال من طرف الآخر سواء كان الدولة أو آمر السجن أو أي كائن بشري. يجب أن يمنح تـثـقـيفا و لو كان إجباريا. تنظيم أمسيات شعرية بحضور مجموعة متطوعة أو مأجورة لمناقشة القضايا، و الاستماع المكرر للكلام الجميل و الصور التي تبث معنى متـفتحا على الوجود تخرج النـفس من انغلاقيتها. يمكن كذلك تنـظيم عروض مسرحية أسبوعية يوم الراحة الأسبوعي و بالمثل يتم النقاش لان به وحده تـتكون المنهجية النقـدية في التـفكير. فالمجرم هو المنغلق على نظرة وحيدة للأشياء و لا يمكن لهذا المنهج أن يهشم إلا بعـرض الآراء المختلفة التي تسرب النسبية حتى يتحول الوعي برمته إلى النسبية و بالتالي يتحول إلى قبول الآخر مهما كان مختلفا. إضافة إلى ذلك فانه يتوجب إتاحة الفرصة للسجناء بحياة جنسية مع الطرف الآخر لمرة في الشهر سواء كان متزوجا أم اعـزبا. فالممارسة الجنسية المنـتـظمة لها فوائد صحية فيزيولوجيا و نـفـسيا. إنها تخـفض درجات التوتر و تساهم بأنسنة الإنسان حين يترافق بالعمل و التـثـقـيف. و عدم الإنهاك الجنسي يحفظ عنصر الشوق الضروري و يطور النزعة الفـنية الجمالية مما يؤنسن العملية الجنسية و التي تساهم بفاعلية كبرى في انسنة الإنسان...
هذا الإرهابي أو القاتل، لا يمكن له بعد فترة عشر سنوات من هذا الإيقاع الإنساني الصحي ان لا يكون مواطنا صالحا. مواطن له جميع الحقوق و لا ينظر إليه كسجين سابق ذو عاهة أبدية. انه يتحول إلى كائن إنساني منتج، بل ربما إلى ما يتـفـوق به على المواطن العادي نظرا لسلبه الشخصي السابق الماثل دوما أمامه و الذي يعمل دوما على ردمه بالأعمال الايجابية.
من هنا فالتركيبات الإيديولوجية تـنطلق من مواقـف فردية. هناك إيديولوجيات الحياة بما هي تـدفـق الذات الإنسانية على الوجود، و هي ظاهرة يسارية بامتياز في القرن العشرين بفضل نبي العصر الحديث "كارل ماركس" الذي جمع بين الفلسفة و الاقـتصاد في صياغة إنسانية واقعية تعمل على كسر كل قيود الاستغلال. و أكثر أشكال الاستغلال توحشا و رذيلة هي التي لا تـلمسها. إنها التي تكيف عقـلك لتميتك ذاتيا و تجعلك تسوق نـفـسك إلى اغترابك عن ذاتك و حتـفـك الانوجادي الكينوني..
" الإيديولوجيات تـتـلحـف بالكلي و هي لا تعـدو أن تكون سوى فـرديات"، حـسب الفيلسوف الألماني " هابرماس". إنها الفرديات المتـضخمة التي تجد سبيلا إلى توسعة دائرتها نحو الكلي حـسب منظورها، بل الكلي المطلق في دائرة توهمها العاصف لذاتـيـتها هي قبل غيرها. فتضخيم الفردانية يقود إلى إفناء الذاتية. في الوقت الذي يبحث فيه الإيـديولوجي عن التميز و سطوة ذاته المتخيلة على الجميع، فانه يتحـول بسرعة إلى ذاتية باهتة لا تـتـعايش مع الواقع الحي بسيلانه المتـغير و المتجاوز لكل الفرديات و لكل المعـطيات الجاهزة. فالواقع المايحـدث هو دوما واقع التجاوز و التـشضي لما هو موجود و مقرر انه موجود ، و هكذا تغدو الحياة العـقـلية المتـنبهة هي دوما العقـلية التي تلاحق التجدد باستمرار. هذه الملاحقة لا تـقـتـصر على العالم خارج ذاتي لأني أكون مجرد متـفـرج خاوي من الوفاض، و إنما يجب بطريقة متعاكسة و متـقـارنة أن تصوب نـفـسها دوما ناحية الذات، لاستـنـفارها كي تـتـشبع بأكبر قـدر من الأوكسجين، بأكبر قـدر من الحياة، بأكبر قـدر من التمتع بالحياة، بأكبر قـدر من الامتلاء بالوجود العظيم الساحر المفعم بالسعادة الكونية في سيلانه الدائم حتى يأمر الـرب بأخذ الدنيا و ما عـليها ليـبتـلعها في جوفه الكلي...
و برغم استـثـنائية اليسار في المجتمعات العربية بما انه مناقض تماما لرذيلة النفاق، إلا انه انـتـشر في الستينات سواء في شكله الشيوعي أو الناصري و البعثي، و هو اليوم في واقع متغير يحتم عـليه توسعة أفاق اهتماماته و التي تصب في عمق جوهريته الإنسانية. ما ينقص اليسار اليوم هو التخفـف من المعطى الإيديولوجي، ليفسح المجال إلى توسعة الروح النـقـدية و التـشبع بالنسبية. هذا ما يحقـق له المرونة و ما يحقـق له كذلك بناء ثـقافة جديدة، و ما يحقق له قدرة اكبر على التذاوت الذي لا يمكن ان يكون بإيديولوجيات تجعل الذات شبحا.
المعـركة الأساسية هي في الوعي. بين الوعي التـقـليدي الماضوي بكل أشكاله، و الوعي المستـقبلي المتجه إلى المستقبل المنفتح المجهول حيث الابتكار و الإبداع دوما. لكي يكون لليسار بعد عاطفي و هو انساني ضروري يجب عليه أن يشتغل على الجمالي بكثافة. الجمالي أي الفن، مع العلم انه لا يمكن النظر إلى الفنان الحقيقي أو المثـقـف الجاد الحقيقي إلا في كـونه يساريا يحمل جذوة النار الحارقة للعفونة في المحيط البشري. يجب على اليسار أن يعود إلى "كانط" و "هيغل" في الفلسفة لأنهما عمق الماركسية. يجب عليهم أن يحرصوا على أن لا يكونوا ماركسيين مثـلما قال "ماركس" عن نفسه. يجب كذلك الاهتمام الشديد بالفلسفة المعاصرة انطلاقا من الفينمونولوجية لهوسرل و هايدغر و لاكان و بول ريكور. من هنا تتأسس أجواء يسارية متضخمة و عميقة و من هنا تـنـتـشر في الأرض. ذاك أن الباطل كالزبد في البحر ينطفئ ما أن يبلغ الشاطئ و هي صورة قرآنية رائعة، أما الحق فجذوره في الأرض و أغصانه في السماء أي انه ثابت و قوي كالشجرة، و هو يمتد من تـربة الأرض إلى السماء و هو يوحد المادي و الروحي و الإنساني و الالاهي.. إنها صورة قرآنية رائعة جدا كذلك.
يجب على اليسار أن يخرج من الدائرة الضيقة التي أسستها الستينات ما قبل ميشال فوكو و دريدا و غيرهم.. و ها هو اليسار في العالم يستمر في بناء مملكة حكم جمالية جديدة في الواقع و الوعي. مملكة الحكم التي تحدث عنها الفيلسوف الالماني "كانط" و التي وصفها بـ"الذائقة" التي هي جنس من الحس المشترك للجميع مما يجعل الشعور قابلا لان يكون تواصليا على نحو إنساني عام دون توسط مفهوم معين.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. الانتخابات الرئاسية الأمريكية: نهاية سباق ضيق
.. احتجاجًا على -التطبيق التعسفي لقواعد اللباس-.. طالبة تتجرد م
.. هذا ما ستفعله إيران قبل تنصيب الرئيس الأميركي القادم | #التا
.. متظاهرون بباريس يحتجون على الحرب الإسرائيلية في غزة ولبنان
.. أبرز ما جاء في الصحف الدولية بشأن التصعيد الإسرائيلي في الشر