الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كليلة ودمنة في أراب ستان -5-

عبدو أبو يامن

2005 / 10 / 17
الادب والفن


( نفاسة وخساسة )

ليت هندا أنجزتنا ما تعد وشفت أنفسنا مما تجد
واستبدت مرة واحدة إنما العاجز من لا يستبد
_ حسد حملنه من أجلها وقديما كان في الناس الحسد
( عمر بن أبي ربيعة في صاحبته – هند- )
قال دمنة معقبا : عندما أقرأ هذه الأبيات يخيل إلي أن الاستبداد – أحيانا يكاد يكون طبعا للعربي – في كل أمور حياته حتى في أمر الحب، الذي هو منبع الرقة واللطف والجمال والظرف( وحسن معنى الرضا في صورة الغضب كما يقول الشاب الظريف!
قال كليلة : أحسبك ضللت قصد الشاعر في تعقيبك، وظلمته في استنتاجك!
قال دمنة : وكيف ظلمته وأبياته تفضحه؟
قال كليلة : إن حملت أبياته على ظاهرها هذا يكون صحيحا، ولكن لو تفطنت إلى قصد الخبيث لتمنيت لصاحبتك، إن كانت لك صاحبة، لو أنها استبدت مرة واحدة، ولحملتها على ذلك ولأغريتها به ولقلت لها إنها عاجزة إن لم تستبد!!
وبعد أن سرح بطرفه قليلا...
صاح دمنة : قاتل الله الشعراء؛ فما أحلى الاستبداد في شؤون الحب، حين تعصي العذال وتصل المحبوب رغم آنف الحساد كما يقول أبو العلاء...
على كل ليس هذا ما قصدته؛ وإنما قصدت شيئا آخر بعيدا عن دنيا العشق والعاشقين، والموصولين والمحرومين.
قال كليلة : حسنا، فما هذا الشيء البعيد؟؟
قال دمنة : إنه استبداد آخر، إن أخذنا الاستبداد بمعنى الأثرة والتملك للشيء من غير وجه حق، ( وهو أمر تجيزه اللغة؛ لأن المشهور من الاستبداد في عصرنا هو الانفراد في الحكم والرأي السياسي ) أقول إذا أخذنا الاستبداد بمعنى التملك والأثرة فإن نوعا آخر من الاستبداد أوخم وأشأم وأخس وألأم قد فشا وفاح حتى تكاد رائحته تزكم الأنوف، ذلك هو استبداد أهل العلم والكتاب والأدباء ومن إليهم من أصحاب القلم.
قال كليلة : وما الذي دعاك إلى أن تطرق الموضوع في هذا الوقت بالذات؟
قال دمنة : هذا أمر قديم كنت قد عرفت بعض فصوله فيما اشتجر بين الأدباء في بدايات القرن العشرين، وبالتحديد في النصف الأول منه وفي مصر خصوصا؛ بصفتها رائدة النهضة العربية الحديثة وقائدة الأمة على مختلف الصعد الحضارية.. وذلك فيما يعرف بالمعارك الأدبية وأشهرها الخصومة التي كانت قائمة بين طه حسين وزكي مبارك حين لجأ الأول إلى مركزه ففصل زكي مبارك من الجامعة إثر الخصومات التي كانت مستعرة بينهما. ويظهر أن سبل الحياة والعيش ضاقت بمبارك فقال قولته المشهورة : ( والله لو جاع أولادي لشويت طه حسين وأطعمتهم لحمه!! ) ( راجع طه حسين في ميزان العلماء والأدباء لمحمود مهدي الأستانبولي، والمعارك الأدبية لأنور الجندي). كنت قد قرأت ذلك وغيره، ورأيت كيف تخرج المعركة الكلامية عن حدود الأدب والنقاش والتنافس الشريف وتقارع الحجج الذي يعود بالنفع على القراء والثقافة، إلى ما لا يحسن في عقل ولا شرع ولا ضمير، كنت عرفت ذلك كله فنسيته في ضمن ما نسيت حتى كنت قبل أيام أقرأ في أحد كتب المفكر الكبير زكي نجيب محمود ( قصة عقل ) فأذكرني ما كنت نسيته، ولملمت شتات فكري وأخذت أتأمل في حال هؤلاء الرواد، العقاد وطه حسين وأحمد أمين وزكي مبارك والمازني وشوقي وحافظ والرافعي ومحمد حسين هيكل وغيرهم، هؤلاء الرواد الذين نعتبرهم حاملي مشعل الثقافة ورافعي لواء الأدب في عصرنا الحديث، ونعتبرهم القدوة والنبراس الذي نسيرعلى ضوئه، فهالني ما رأيت من هذا الانفصام القبيح في الخلق والسلوك والسيرة، حيث الكلام في واد والفعل في واد آخر، فهؤلاء الذين بشروا في كتاباتهم بالحق والحرية وحقوق الإنسان والكرامة الإنسانية والشرف والضمير كانوا في بعض تصرفاتهم أبعد ما يكونون عن الشرف والضمير والخلق، مستغلين مناصبهم ومراكزهم في استغلال ناشئة الأدب ومحدودي الشهرة والسلطة يسطون على جهودهم وأعمالهم وما ينزفون من قلوبهم وعقولهم..
قال كليلة : لكن ما قصة الدكتور زكي تحديدا؟
قال دمنة : أطراف هذه القضية كلهم في ذمة الله، وهم حين كتبوا ونشروا وبشروا أصبحت أفكارهم وتصرفاتهم ملكا للتاريخ والناس، وعلى ذلك قل ما سنقوله بحقهم يخرج من دائرة التجريح الشخصي والقذف العلني، فهم مجرد أمثلة نضربها للقراء لنرى من خلالها سر الفساد الذي يشيع في حياة الأمة في مختلف المجالات وأخطرها بلا شك المجال الثقافي؛ لأنه روح الأمة وعقلها وقلبها والقلعة الأخيرة التي إذا سقطت فقل على الأمة السلام والعفاء، فنحن نفهم أن تسوء ضمائر التجار أو الصناع أو الحكام أو عامة الناس أما أن تفسد ضمائر من هم في الأساس ضمير الأمة والموجه لها ورائدها في دروبها يتوخى صلاحها وفلاحها ورفعتها ورقيها فهذا ما يعز علينا فهمه وهذه الطامة التي ليس بعدها طامة.
قال كليلة : وأين هم من الحديث الشريف ( من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووز من عمل بها إلى يوم القيامة) ؟؟
قال دمنة : بل أين هم من الشعر الذي أنفقوا حياتهم فيه بحثا وقراءة ودرسا، وعاشوا به وله، وعليه قامت شهرتهم، أين هم من قول أبي ذؤيب الهذلي في بيتيه المشهورين :
فلا تجزعن من سنة أنت سرتها وأول راضي سنة من يسيرها
فإن التي فينا زعمت ومثلها لفيك ولكني أراك تجورها
( تجورها، أي تجور عنها أي تعدل )
فتأمل نفاق هؤلاء الناس بعد ذلك حين يتقارض طه حسين وأحمد أمين المقالات، فيقترح أحمد أمين لجنة للمروءات ( يظهر أنها على غرار لجنة التأليف والترجمة والنشر!! وسيأتيك خبرها بعد حين ) فيرد عليه طه حسين بأن يقترح إنشاء مدرسة للمروءة!! وهما أكثر من فاحت رائحة فضائحهما!!
يتباكون على الأخلاق والمروءة وينعون على الناس فقدان الضمير هما اللذان علما الناس كيف يكون الاستغلال وكيف يكون السطو؛ فطه حسين قصته ( في كتابه في الشعر الجاهلي ) أشهر من أن تذكر، وأما أحمد أمين وآه من أحمد أمين، ألا إنه لأرخ لحياة العرب والمسلمين العقلية في سلسلته المشهورة ( فجر الإسلام وضحاه وظهره ) تأريخا ما زال مرجعا ممتازا إلى اليوم ولكني أحب الحق أكثر من حبي لأحمد أمين!
أما قصة الدكتور زكي فكلنا يعرف أن أحمد أمين ألف لجنة ( ولكن ليست كالسابقة!! ) أسماها ( لجنة التأليف والترجمة والنشر ) هذه اللجنة التي خدمت الثقافة العربية تأليفا وترجمة وتحقيقا ونشرا، وهي من المؤسسات الثقافية الرائدة والمشهورة والمذكورة والمشكورة، إلا أن ذلك لا يمنعنا أن نقول إن : أحمد أمين ظل رئيسها طوال عمره ولما يقرب من أربعين عاما عاما ( ما شاء الله!! )، إذ تألفت اللجنة في عام 1914، وظل أحمد أمين رئيسها حتى وفاته في عام 1954م، هو الذي طالما صدع رؤوسنا بالكلام عن العدل والحرية، وأرخ لحياتنا العقلية ( ومن العقل أيضا أن يرأسها طوال عمره ) ومن العقل – أيضا – أن يخرج إلى دنيا الناس الثقافية مفكر بارز وأديب بارع هو صاحبنا الدكتور ( زكي نجيب محمود، ولد عام 1905م ) وكان صاحبنا شابا طلعة في رأسه كلام يريد أن يبثه في الناس ، وفي قلمه نتاج يريد أن ينشره على الملأ ولكنه جد مغمور، ولا يعرف صاحب جريدة ولا مطبعة، وليس له منصب ولا يتمنطق بسلطة علمية أو سياسية أو دينية، فماذا يفعل؟!!
أشار عليه بعض المشفقين الناصحين بالذهاب إلى لجنة التأليف والترجمة والنشر فهم ثلة من أصحاب الأقلام والفكر والثقافة المرموقة، وهم بعد ذلك يحسنون استقبال البائسين من أمثالك، وهم من سيخرجه من ظلام الخفاء إلى نور التجلي!! فذهب إليهم صاحبنا ملء قلبه عزيمة وفي أعصابه حماس وفي مخيلته آمال، فاستقبلوه وأحسنوا استقباله، إلا أنه لا حظ أنهم ليسوا سواء، وهل هذا مما يستغرب أو يتعجب له، ولكن الميزان الذي يزن أقدار الرجال ليس كم في رأسه من علم وفي داخله من ضمير، وإنما كم يملك من رصيد في حساب الشهرة ومن درجات في سلم السلطة، وسامح الله الدكتور زكي وغفر له ألا إنه أتعبنا؛ فهل لا حظ ذلك في بدايات اتصاله أو فيما بعد، لأنه إن لحظ ذلك في بداياته فما كان أحراه أن يفر بنفسه وأن ينفذ بجلده، هل هي الشهرة قاتلها الله، هل هو الطمع أم تحقيق الذات والبحث عن متنفس يبرز فيه للناس؟!!
وإن كان لحظ ذلك بأخرة – وهو ما أشك فيه – فكيف طوعت له نفسه أن يبقى عضوا في هذه اللجنة بعدما سطا رئيسها على جهده وعرقه وسهر لياليه، ( الواد زكي يؤلف ويترجم ويبحث ويشقي، وفتوة اللجنة ( أحمد أمين ) يشاركه التأليف من غير أن يخط حرفا أو يفتح كتابا، بقدرة قادر!!) ويخرج الكتاب، أستغفر الله هل قلت الكتاب؟؟!، بل الكتب وعليها اسم أحمد أمين وزكي نجيب محمود ( قصة الفلسفة اليونانية، قصة الفلسفة الحديثة جزءان، وقصة الأدب في العالم أيضا جزءان )!!
أقول ما الذي حمله على السكوت على هذا الضيم؛ هل هي تنشئة الآباء ( وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه )، ولكن ماذا عن العلم والثقافة، والفلسفة التي هي تخصص الدكتور زكي فيما بعد والتي ألف فيها كتبا، هذه الفلسفة التي تعلم الإنسان أول ما تعلمه الحرية والإرادة والاستقلالية والكرامة؟!!
أسئلة لا نحتاج إلى الإجابة عليها يكفي إيثارتها..
والغريب العجيب بعد ذلك أن الدكتور زكي في كل مناسبة، ومن غير مناسبة، لهج بذكر ما وقع عليه من ظلم، قد ملأ الدنيا صياحا ونواحا وإن كان همسا إلا أنه في حقيقته نواح، يصم رواد عصره بالنفاق وأنهم يقولون ما لا يفعلون، وأنهم ينطبق في حق قول الشاعر ( يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم ) وأنهم في واد والقول في واد... ( انظر سيرته الذاتية في : قصة عقل، حصاد السنين، وغيرها من كتبه ) ...
والأعجب من ذلك أنه أورد في كتابه ( تجديد الفكر العربي ) بيتين مشهورين لشاعر جاهلي هو ( المتلمس الضبعي ) يقول فيهما:
ولن يقيم على خسف يسام به إلا الأذلان عير الأهل والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته وذا يشج فلا يرثي له أحد
عجيب أمرك يا دكتور زكي، أتأمر الناس بالبر وتنسى نفسك؛ وماذا كنت تصنع منذ الغداة، ألا تسمي ما وقع عليك خسفا، ثم ألا ترى بأنك أشبهت الأذلين؟!!
ألا إن ما عابه الدكتور زكي على الناس وقع فيه، فكان مثلهم حذو القذة بالقذة كما يقال، وهو هذا الانفصام بين قول وفعل، بين تنظير وتطبيق، وعسى الله أن يجمع الشتيتين قولا وفعلا بعد أن ظننا كل الظن ألا تلاقيا!!
قال كليلة : كل هذا يقع ممن نحسبهم ضمير الأمة النقي ودرعها الذي به نستعصم حين تهب عليها عواصف الأيام وتعصف بها زوابع الحدثان؟!!
قال دمنة : وأكثر منه أيضا؛ فلا تسأل عن النبأ النبيث، وحسبك ما عرفت!!
قال كليلة : ولكن السؤال الآن هو : ما مأتى هذا الأمر ومن أي منجم نجم؛ هل هو الحسد؟؟
قال دمنة : هل ترمي إلى ما يقوله ابن ربيعة: إن الحسد قديم قدم الإنسان؟
قال كليلة : نعم..
قال دمنة : إنه الحسد وأمور أخرى، نذرها إلى لقاء آخر..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت


.. عاجل.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة غداً




.. سكرين شوت | إنتاج العربية| الذكاء الاصطناعي يهدد التراث المو


.. في عيد ميلاد عادل إمام الـ 84 فيلم -زهايمر- يعود إلى دور الس




.. مفاجآت في محاكمة ترمب بقضية شراء صمت الممثلة السابقة ستورمي