الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ألكرافة (ربطة العُنق )

قاسم حسن محاجنة
مترجم ومدرب شخصي ، كاتب وشاعر أحيانا

2015 / 8 / 17
الادب والفن


ألكرافة (ربطة العُنق )
يتقدم من ألحضور رجلٌ طويل يرتدي بدلة من ثلاث قطع مع ربطة عنق حمراء ، يعتمرُ طربوشا مكويا على طريقة "الأفندية " ، أيام زمان . لقد كان مظهره لافتا وغريبا في هذا المكان وفي هذه البيئة البشرية . غالبية من هَبُّوا لإستقباله والترحيب به ، هم من كبار ألسن الذين يرتدون لباساً تقليدا مُكونا من "دِمَايَةٍ" فلسطينية ، وهي رداء من قطعة واحدة ، تصل حتى الأقدام ،يلُفها الرجال حول أجسادهم ويربطونها "بحبل " يتدلى من أحد طرفيها ، ويعتمرون حطة بيضاء ، حال لونها الى الأصفر الفاتح لقِدَمِها وكثرة غسلها، يعتليها عقال أسود.
كانت ملابسهم أسمالا بالية قياسا بأناقة القادم .
لم ينتظر أحد الرجال ويُكنى بالقطروز ، وهو عجوز يتكيء على عصا، في أسماله ، وصول السيد الأنيق، بل توجه نحوه بخطوات سريعة ، صافحهُ وانكب على يده يُقبلها .. بينما بادله الباقون مصافحة بمصافحة ..
-من هذا، وكيف "يَقبلُ" أن يبوس يده، رجلٌ أكبر من والده بالتأكيد؟ علا صوت أحد صغار السن متسائلا ..
أجابهُ أكثر من صوت : إنه أبو رياض ...!!
-ومن هو أبو رياض هذا ؟!
تلك الأيام خَفّف الحكم العسكري قبضته قليلا ، وبدأ بإصدار تصاريح عمل للشبان العرب ، في المدن اليهودية التي كانت بحاجة ماسة الى الأيدي العاملة . فقد كانت فورة بناء المساكن للقادمين الجُدد في أوجها. ولم تكن تكنولوجيا البناء متطورة ، فالأشغال بمجملها يدوية ، وكان هناك نقص كبير في العمال غير المؤهلين ، ليرفعوا مواد البناء الى الطبقات العُليا .
وكان الشباب الأقوياء ، يعملون كعتّالين في ورش البناء ، ينقلون على ظهرهم الطوب الثقيل ، الرمل والحصى في أكياس ، يصعدون وعلى ظهورهم تلك الأحمال الثقيلة بسرعة وجَلَد . لكي يُجاروا البنائين في الطبقات العليا في وتيرة البناء وصب الباطون، السريعة .
لقد جرى "القرش" في أيديهم ، وتأثروا بالأجواء حولهم .فلبسوا البنطلون والقميص بدل "الدماية " التقليدية ، سرّحوا شعورهم حسب آخر موضة ، واستبدلوا أكياس الدخان "اللف"، بعلبة سجائر رشيقة وانيقة من الماركات التي كانت رائجة . واشتروا لأنفسهم أحذية لامعة ولها "بوز" ..!!
كانت غالبيتهم تشتغل في مدينة تل – أبيب ، وتسكن في يافا ، في البيوت القديمة التي هجرها أهلها ، يدفعون أُجرتها لساكنيها الجُدد ، يبقون في يافا من الأحد حتى ظهيرة الجمعة ، يعودون بعدها الى بيوتهم في القرى ، ليقضوا ما تبقى من يوم الجمعة ويوم السبت بين ابناء عائلاتهم ، وكانوا يعودون بأجورهم يُسلمونها للوالد بخنوع ومع قبلة على ظاهر يده ، حتى يصرف منها ويتصرف بالباقي . وكان يُخيل للسائر في شوارع يافا ، بأنها مدينة شباب فقط ... وكثرت فيها المقاهي والمطاعم العمالية العربية .
منذ القديم ، تنشط في يافا سوق شهيرة للأدوات والملابس المستعملة ، وهي السوق التي أطلق عليها اهل يافا، إسم سوق "الدلالة "، أي سوق اليد ألثانية وربما اليد الثالثة أو أكثر .
كانت تأتي الى السوق بالات الملابس المستعملة ، وكان أن احتوت إحدى هذه البالات عددا لا يُحصى من الكرافَّتات (ربطات العُنق ) . فتدنى سعرها كثيرا . بحيث قرر أحد الشبان أن يشتري لنفسه مجموعة منها بمبلغ زهيد .لقد اختارها من أزهى الألوان .
كان "مصطفى " هذا ، من عائلة فقيرة جدا ، عائلة "القطروز " وهي تعني "العامل في ارض الإقطاعي مقابل الغذاء والملبس " ، إن القطروز أشبه بقِنَّ الأرض ، مما هو إنسانٌ حر ..
عاد مصطفى الى البلدة وفي حقيبته ما يزيد على العشرين كرافة . غضب والده على هذا التبذير غير المُبرر ، وصرخ في وجهه :-من تظن نفسك ؟؟!! هل أنتَ "أبو رياض " ؟! عِشنا عمرنا كله ولم نرَ أحدا يلبس الكرافة غير أبي رياض ..!! إنه أفندي ، درس في بيروت ، والأهم من كل ذلك ، فهو المالك لغالبية الأراضي في قريتنا ..!!
أسرّ مصطفي في نفسه شيئا . فصبيحة يوم السبت استحم وأرتدى اجمل ملابسه ، بنطلون ، قميص ، جاكيت وربطة عنق ، لم ينسَ تلميع حذاءه ، ووضع علبة السجائر في جيب القميص لتظهر ، عندما يضع يديه في جيوب بنطلونه ، وخرج الى مركز القرية ، حيث يجتمع الرجال في المقهى .
رأى عن بعد طربوش "ابو رياض " ، فتوجه نحوه متبخترا مُبرزا ربطة العنق وتركها للهواء يتلاعب بها !
نظر "ابو رياض " نحو المُنافس الجديد ، وفغر فاهُ مندهشا :-مصطفى القطروز !! إبن الذي كان قطروزا في أرضنا ؟؟!! أكيد قامت القيامة ..!!
لم يُطق "أبو رياض " رؤية ابن القطروز بالكرافة ...
-لقد هزُلت ..لن أبقى في هذا البلد يوما آخر !! أحس بأن ميزته الخاصة قد تلاشت واختفت .. فلم يعد هو الأفندي الوحيد الذي يضع ربطة العُنق ..ماركته المسجلة .
وبالفعل ، غادر ابو رياض البلدة ، ليسكن في غرفة في مسجد المدينة .. وعلى ذمة الراوي ، حينما وافتهُ المنية ،بحثوا عن "فاعلي خير " ليحملوا التابوت الى المقبرة القريبة ..!!









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - قاسم محاجنة وسوق الدلالة!
أفنان القاسم ( 2015 / 8 / 17 - 19:05 )
جميلة هذه الحكايات الواقعية، فأكثِر منها، للتأريخ، خاصة وأنك هنا تتكلم عن يافا وسوق الدلالة تمامًا كما كانت تقول المرحومة أمي... لكن يا بابا الكرافتة تاعك الزرقاء أجمل بكثير من كل الكرافتات...


2 - سوق -البراغيث -
قاسم حسن محاجنة ( 2015 / 8 / 18 - 05:52 )
صباحك فل وياسمين
شكرا على الاطراء للقصة والكرافة .
ما زال سوق الدلالة فعالا وناشطا ، لكنه لبس لبوسا جديدا .
ويذهب اليه الأغنياء كما الفقراء . فالأغنياء يبحثون عن قطع اثرية وخصوصا الاعمال الفنية من منحوتات ورسوم .
اطلق عليه أبناء عمنا اسما جديدا وهو -سوق البراغيث - .
ولكلمة برغوث في العبرية ،سياق إيجابي .
سازور يافا قريبا باسمك ! ها كيف هاي ؟
تحياتي

اخر الافلام

.. فـرنـسـا: لـمـاذا تـغـيـب ثـقـافـة الائتلاف؟ • فرانس 24 / FR


.. الفنانة نجوى فؤاد: -أنا سعيدة جدًا... هذا تكريم عظيم-




.. ستايل توك مع شيرين حمدي - عارضة الأزياء فيفيان عوض بتعمل إيه


.. لتسليط الضوء على محنة أهل غزة.. فنانة يمنية تكرس لوحاتها لخد




.. ما هي اكبر اساءة تعرّضت لها نوال الزغبي ؟ ??