الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المعوقون

احمد مصارع

2005 / 10 / 17
الادب والفن


كان شعار الأستاذ سعيد معقولا للغاية , إذ يجب على الإنسان أن يبحث عن الحياة الأفضل , فحسب رأيه فالإنسان وهو كائن راق , لا يمكنه أن يتكيف إلى مالا نهاية مع ظروف الفقر والشقاء , ولذا يتوجب عليه أن يتملص من جاذبية البؤس العام التي تقبض على مجتمعنا بإحكام , والتسلل نحو وضع هنيء .
حين غادرت القاهرة متخرجا من جامعة عين شمس ومن كلية العلوم , قسم الرياضيات , فقد تركته يكافح من اجل التخرج في السنة الأخيرة , فقد كان مضطرا للجمع بين الدراسة والعمل ,لأنه المعيل الوحيد لأمه الأرملة شبه المقعدة من آثار مرض الروماتيزم , لقد كان المرحوم والده والذي توفي ولم يتجاوز العقد الخامس عمرا , غريب الأطوار , استحكم به الحزن واليأس , إلى الدرجة التي استطاع من خلالها التحكم بيوم موته ,وبالفعل , فقد أعلن هكذا بدون مقدمات بأنه سيموت خلال أسبوع , ولذلك فقد خصص مكانه في مقبرة العائلة, ولما انتهى من إعداد مستلزمات موته , فقد اسلم روحه في نهاية الأسبوع , سعيدا , فما العلاقة بين اسم الأستاذ سعيد ولده الوحيد ؟!. و حيث كان الأب نفسه وحيدا .
لم يكن من السهل نسيان ما حدث , ولكن حلول ساعة الافتراق , أعادت من جديد موسيقى الآلات النفخية البدائية , التي تزأر بلحن موسيقى حزين تتعطل فيه الحواس
من رهبته , وليجبرنا وقتما يشاء لتجريد سلاح النسيان , بل ويحتاج لتحريكه إلى قوة أوديسيوس لقتل أعداء الإنسانية برعاية ألاهية , وما أن نوشك على النسيان , حتى تتردد , في تكرار مرير , تحكي قصة أن نلتقي , ولكن بشرط أن نفترق.
قال سعيد محاولا التشبث بتلابيب الزمن الهارب :
- لا تنسى لقد وعتني بزيارة طويلة بعد أن تستقر ؟.
- لم تعد سعيد, الذي اعرفه , لم تعد كما كنت حالما بحياة أفضل !.
- نعم يا صديقي , هذه حقيقة .
- أين لفاحتك السوداء ؟
- لفاحة سوداء وفي الصيف يا رجل ؟
- هل تستطيع العيش بدون حجاب , ألم تقل لي أنك بدون اللفاحة السوداء التي تغطي نصف وجهك تشعر بالعري ؟ !.
- أتساءل يا صديقي إن كان الطوارق وهم أجدادي في العصور الغابرة , كانوا يتلثمون صيفا وشتاء ؟ !.
- نعم يا صديقي هذا صحيح , وسيظلون كذلك , هناك احتمالان يا صديقي ..
لم أكمل حين علق ساخرا : كأني بدأت العمل فور التخرج , ما هذا النشاط ؟!.
فهللت فرحا من سخريته .
- هل تعلم يا صديقي , كم كنت خائفا من فقدانك لروح السخرية ؟!.
الاحتمال الأول فلسفي ارادوي , فهم يتحجبون ليكونون مجرد رموز , من غير المهم معرفة تفاصيلها , فالرمز أبقى وأكثر خلودا , والثاني لأن الصحراء لم تخضر بعد , ولكي لا يجف المرء في الصحراء القاحلة ويبقى مخضرا , فلابد أن يتحجب ,وكل تلك الظروف مازالت قائمة ولم يتغير شيء .
قال سعيد مباهيا : إذن , أجدادي هم الذين اكتشفوا الزراعة الدفيئة , والبيوت البلاستيكية ؟
قلت لسعيد : هل تعلم يا سعيد ؟ لقد وعتك أن نلتقي , ولكن حدسي يقول لي بأننا سنلتقي أثناء العمل , طويلا , وفي بلد واحد ؟!.
فقال متهكما : قل لي هل أنت آشوري أم فرعوني ؟
فأجبته بنفس الأسلوب : أفريقيا هي هواي .. أفريقيا هي دواي ..
سنوات قليلة انقضت , كأيام معدودات , وكان لقاءنا بالجزائر , وفي نفس مكان العمل , بل وفي مسكن مجاور , ولم يكن وحيدا هذه المرة , فقد جاء بصحبة عائلته الصغيرة , وهو يشع حيوية , متفائلا بتحقيق حياة أفضل , ولكن لفاحته السوداء التي لم تعد تخفي نصف وجهه , أصبحت مسبلة بشكل متميز وأنيق .
- لم تطاردني يا سعيد ؟
- وراءك والزمن طويل , حتى لو غيرت العنوان .
- أي ريح طيبة أرسلتك إلينا ؟
- لقد جئت هاربا من هباب العمل , هل يعقل أن يعمل الإنسان من الصباح وحتى آخر الليل !. يسمونه عمل إضافي !.
دفعة تدخل , وتخرج أخرى , بحيث يحس الإنسان أن العمل هو آخر الدنيا , ونهاية العالم !. شيء غير معقول !..
- والآن , ما لذي تنوي فعله ؟
- كل عطلة عمل سأسافر فيها .., سوف أ لف حول العالم ..لا ابن بطوطة ولاما جيلان , ولاغيره ..
كانت سفرته الأولى نحو أسبانيا ,وحين عاد منها مسرورا , يحدثني عن جمال البلاد ورقيها , كلما التقينا , حتى أطلب منه الكف عن المبالغة في تصويرها , وحين قلت له : غدا إذا سافرت إلى ألمانيا , فماذا ستبقي لها في الوصف ؟ ! . فلم يقتنع , حين قال : عندما أسافر إلى ألمانيا فلكل حادث حديث .
كنا نجلس في المقهى على رصيف الشارع بجوار حديقة حين هبت عجاجة قوية , وقصفتنا بكمية معتبرة من الغبار , حتى لقد مضمضت فمي بالماء لأن الرمل صار ينطحن فوق أضراسي , بينما راح سعيد , يفرك عيونه من حرقة , ثم شرع يغسل نظارته الطبية .
ضحك قبل أن يعلق ساخرا :
- لقد نسيت أن أخبرك عن أهم جزء من سفرتي إلى أسبانيا .
قلت كفى يا سعيد , لم يبق شيء جميل الاوضعته في أسبانيا , لم يعد لديك ما يثير .
- إلا هذه المرة , واسمعني حتى الأخير , عندما كنت في مدريد , أثارني جمال حديقة , فقررت التجول فيها , لا يخفى عليك قولنا الماء والخضراء والوجه الحسن , ولكنني هذه المرة أضيف ما رأيته , وسمعته , أي الصوت الحسن , تخيل فرقة سيمفونية تعزف منفردة , والجميع يستمتع على البعد , بدون أي حشد حولها , وكأن الفرقة جزء من تماثيل الحديقة أو طيورها , ولم يقترب منها سوى مشجعين اثنين , أنا وجحش , كان الجحش يرعى مسرورا من العشب النقي كالسجاد , بل ويحرك ذيله مسرورا , من حين وآخر , وأنا مندهش فاغر فمي من هذا التواصل الوجداني والهارموني , لفرقة كأنها تعزف للسماء , وأعضاء الفرقة في ملابسهم الخاصة , وكأنهم من عالم آخر .
وصرخ بي مفتعلا الغضب : ألا تسألني يا أخي وماذا بعد ؟
فرددت عليه ببرود تام- : لقد أمرتني بالصمت , وأن لا أقاطعك , أم تراك همت مع الفرقة السيمفونية .
صاح بصوت تمثيلي - لا أنا لم احسد أحدا في حياتي , ولكني حسدت الجحش على المكان الذي يعيش فيه .
ضحكت حقا , وسألته وماذا بعد ؟
أجاب :- لقد تمنيت نفسي جحشا في أسبانيا .
ولكي يقطع الطريق علي قال , وسنرى ألمانيا التي تتحدث عنها بدون بلاغة , في العطلة القادمة .
فقلت له مستفزا - سنرى ماذا ستتمنى المرة القادمة ؟
قال واثقا - سوف أعجبك .
في العطلة الثانية , سافر حقا إلى ألنمسا, وهو يسأل بإلحاح , إن كنت أقبل شهادته عنها كما لو كانت محل ألمانيا , فأبديت موافقتي وحين عاد بعد شهر , كان قد تغير فيه شيء ما , ويهمني اكتشافه , فقد كان يركز حديثه هذه المرة عن الهجرة , لأنه سألني :مار أيك بالهجرة إلى أمريكا ؟
علقت خائفا - هكذا دفعة واحدة ؟!. مازال أمامك زيارة بريطانيا و...
قال باقتضاب - الاختصار مفيد وستكون سنتي الثالثة هذه حاسمة , سأهاجر إلى غير رجعة , وحين استقر هناك ستلحقني مرغما هذه المرة , وبدون نقاش ,
مفهوم ؟. وراح يهدد ويتوعد .
كنا في حانة , نشرب خمرا( معسكريا) , وهو خمر شهير مصنوع في مدينة معسكر الجزائرية , ومن أجود أنواع العنب , وقد سمينا الحانة (العاشق ) , لأن احد مرتاديها الدائمين على الكاونتر , والذي نصادفه في كل مرة , كان كهلا وأنيقا , فيه طول ونحافة , يشرب كثيرا , ولكنه محترم , ولا يخرج عن طوره , وبه حساسية وجدانية عالية , ولكي يصنع الجو الذي يبحث عنه , فهو يقوم باستمرار بتقديم ضيافة على حسابه , من أجل ماذا ؟ . من أجل أن لا نحتج على أغنية( الراي ) التي يؤديها الشاب حسني , بعد أن أدخل عليها موسيقى الجاز , لتمتزج التكنولوجيا الطازجة مع النفس القديمة المعتقة .
-( كاع النسا , اللي خلقهم ربي , مايجوش كيما انتي ..)
ودوما يسألني سعيد :- ترجم لو سمحت .
للمرة الأخيرة أترجم لك من العربي إلى العربية , كل النساء اللواتي خلقهن الله , لسن كما أنت ..
ويسال ببرود تام - لماذا ؟ , وحين أقول له تعال لنسأله .
يرد بنفس الطريقة - لا داع لذلك .
دخل إلى الحانة أحد المعوقين , سلم بأدب تام , وجلس على كرسي طاولة مجاورة, وفجأة انتفض سعيد منتشيا , وهو يقول - لقد تذكرت , فلا تقاطعني أبدا , لأنني سأحدثك عن أظرف موقف مر بي في النمسا.
قلت ساخرا - في أسبانيا تمنيت نفسك جحشا , وفي النمسا .. من يعلم ؟ فضولي هو في معرفة ماذا بعد الجحش ؟!.
- أثناء تجوالي في العاصمة ( فيينا ), وفي أكثر من ساحة , رأيت عددا من الأكشاك الزجاجية , على أسواق صغيرة , معروضة للإيجار , وأجورها معقولة للغاية , ولأنها تقع في أماكن جمهرة وازدحام , فمن المتوقع أن يكون مربحة جدا , وقلت في نفسي هذا أسرع طريق لمن يريد البحث عن الثروة .
دعيت إلى سهرة في بيت أحد أقاربي من جنسية نمساوية , وحين تعرفت إلى ضيفه , كان التعارف سارا للغاية , تخيل , زميل مهنتنا , أستاذ رياضيات , لقد كانت الجمل القليلة التي حفظتها عن الألمانية غير كافية للتفاهم المشترك , وكان قريبي مترجما يحب الإيجاز , ويكتفي بالخلاصة فقط , كان يهمني أن أعرف مشاكل ومشاغل أستاذ رياضيات من نفس مهنتنا , وكان قريب يلح بالرد :
انه يقول لك , لا توجد مشاكل , لماذا تلح عليه بالسؤال ؟!.
خطر ببالي أن أغير الطريقة , فرجوت قريبي أن يترجم له حرفيا ما يدور ببالي , فوعدني بذلك , وكان سؤالي على النحو التالي : اسأله كم راتبك الشهري , فأجاب , فوجدته يستطيع استئجار أربع محلات مما رايته من أكشاك زجاجية , مكتبة دخان , محل زهور , تحفيات , ساندويتش على السريع , مشروبات ساخنة وباردة , فلماذا لا يستأجر أحدها ليربح الكثير ؟!.
عندما أتم قريبي ترجمة نصيحتي المفصلة , فوجئت به يضحك بهستيريا عجيبة , انه لم يضحك أبدا , لم يتعود على ذلك , ولذا فانه لا يعرف حتى كيف يضحك !.
قلت ساخرا منه , لماذا لاتقول انك أنت الذي لا يعرف كيف يسأل ؟
كان يضحك بعصبية , ومن حين لآخر يقول :- كم هذا لطيف , لطيف للغاية ..
ولم يستقر , و يبدأ بالكلام الجاد , وكان قريبي قد أحس بأهمية ما أقوله من كلام ساخر , ولذلك راح يلتزم بالترجمة الحرفية , وحين تحدث الأستاذ قائلا : لو اعتبرنا ما تقوله مسالة طريفة فإليك البرهان , في الراتب الذي أتقاضاه شهريا امتيازات كثيرة ,تبدأ من المسكن والسيارة وبدل العطلة الأسبوعية , والقيافة , والمأكل والمشرب , والكتب , والأدوات .., فيما يشبه التأمين الشامل , وكل ذلك بهدف التفرغ للتعليم , لتكوين الطلبة تكوينا علميا يخدم الأمة النمساوية , ويحقق طموحاتها بحياة أفضل وأرقى , بينما تخلق الحكومة أعمالا حرة في تلك الأكشاك التي رأيتها , للمتسربين من المدرسة بسبب الفشل التعليمي , وبشكل خاص للمعوقين , لتحريك حوافز الربح المادي عندهم , والاستفادة من طاقاتهم البشرية , فهل يرضيك يا زميلي أن أنافس هؤلاء الناس على فرصهم في الحياة الأفضل ؟ !. المفروض شيء والمطلوب شيء آخر من خارج نص المسألة .
وتدخلت لئلا يصرخ بي قائلا : بالله عليك يا سعيد , قل لي بما ذا عقب قريبك النمساوي ؟.
قال كمن يشعر بالخيبة : تخيل أنه قال , لي مندهشا , يا سعيد هل تعلم ؟ لقد مضى على وجودي بالنمسا عشرون عاما , وللمرة الأولى أفهم مثل هذه الظاهرة ؟!.
ضحكت , فراح يصطنع الغضب قائلا : أنت تضحك علي , فقلت :لا أبدا , لقد أضحكني قريبك !.
سال : كيف ذلك ؟
قلت : لأنه كان هو الآخر يفكر بنفس طريقتك , ولاعذر له في ذلك .
فضحك , بل صار يضحك من حين لآخر, وليورطني في حمى الضحك.
قال: لقد قال لي معجبا بكل جدية واحترام , أنت شخص غير عادي , فمن أين تأتي بهذه الأفكار الجهنمية ؟!.
وحتى لانزعج الآخرين في حانة العاشق , خرجنا نحاول التماسك , لنكمل الضحك في الهواء الطلق , لأن الضحك سيطول ويطول ولا ندري متى ستتوقف هذه الانفعالات ؟.
حين سألته عن حكاية الهجرة , أجاب بكل يسر : لن أكون هناك أستاذا , بل سأكون مهنيا , وهي هجرة مزدوجة من التدريس , ومن حياة البؤس والشقاء .
قلت: أجنبي معوق ؟!. , رد : لايهم , بل لم لاتقول مثقف وطني ؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية


.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي




.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب


.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?




.. قصة غريبة عن أغنية أنساك لأم كلثوم.. لحنها محمد فوزي ولا بلي