الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جهاديو أوروبا: الهجرة إلى يوتوبيا!

علاء الفزاع

2015 / 8 / 19
الارهاب, الحرب والسلام




قبل أقل من عام دخلت في نقاش مع أحد مسؤولي قسم الدراسات في مؤسسة بحثية أوروبية عريقة حول أسباب توجه شباب أوروبيين للقتال في سوريا والعراق. كان الرجل مقتنعاً تماماً أن الدراسات التي أجريت وقفت على جميع الأسباب المحتملة لذلك، ووضعت سلسلة محكمة من الحلول، ولم يبق إلا التركيز على إعادة تأهيل الجهاديين العائدين، مشيراً بثقة يحسد عليها إلى "التجربة الدانماركية" في هذا الصدد، وهي عبارة عن برنامج لإعادة التأهيل. كان ذلك قبل عدة شهور فقط من هجوم كوبنهاغن الذي استهدف ندوة شارك فيها الرسام السويدي لارس فيلكس صاحب الرسوم المسيئة للرسول الكريم عام 2007. وكان كذلك قبل هجوم شارلي إبدو، وكلا الهجومين بأيد إرهابية محلية، أي أنها غير عائدة من جبهات القتال. وكان ذلك أيضاً قبل أن تكشف الإحصائيات أن معدل تدفق الجهاديين من أوروبا إلى سوريا والعراق لم يتراجع، بل على العكس تصاعد.

يمثّل هذا المسؤول الأوروبي بطريقة ما أوجه قصور التعامل الأوروبي عموماً مع ظاهرة الإرهابيين، وعجزه عن فهم الظاهرة وتشخيص أسبابها، والأخطر من ذلك التركيز على نتائج الظاهرة على أوروبا، وعدم الالتفات بشكل كاف إلى ما يتركه هؤلاء الأوروبيون من أثر على الدول التي يسافرون إليها، ولا ما مارسوه من فظائع بحق السكان في سوريا والعراق، بل إنه لا توجد جهود حقيقية أو إجراءات للتأكد مما إذا كان هؤلاء ارتكبوا جرائم جنائية أو جرائم حرب.

ولكن عودة إلى المسألة. يقال دائماً أن الجهاديين الأوروبيين يستجيبون لمحاولات تجنيدهم لأسباب عدة من بينها التعاطف مع المظلومين، وخصوصاً في الحالة السورية. كما يقال دائماً أن من يتم استقطابهم هم ممن ليس لديهم شيء يخسرونه. ويلجأ كثيرون ممن يكتبون عن المسألة إلى الاستعانة بصورة نمطية لشخص محبط، فاشل في دراسته وبلا عمل، وغير قادر على الاندماج في المجتمع الغربي الذي يعيش فيه. لكن تقريراً لصحيفة التايمز يقول أن نسبة كبيرة من الجهاديين البريطانيين الذين التحقوا بداعش هم من المتعلمين والناجحين والنشطاء في مجالات سياسية.

وما يزيد من صعوبة الخروج باستنتاجات قطعية حول هذه الظاهرة هو أنها حديثة نسبياً، فحسب الإحصاءات كان عدد الجهاديين الأوروبيين في سوريا بدايات عام 2012 لا يتجاوز 400، ربما كان معظمهم من المقاتلين السابقين في أفغانستان. لكن العدد تصاعد بصورة صاروخية إلى حد أنه لا يوجد رصد دقيق حتى اليوم، فحسب المركز الوطني الأمريكي لمكافحة الإرهاب يوجد 20000 مقاتل غير سوري مع داعش، من بينهم 3 آلاف شخص يحملون جنسيات غربية، وبينهم 550 امرأة، وذلك حتى شهر أبريل الماضي. لكن مسؤولاً في الاتحاد الأوروبي قدر عدد المقاتلين في سوريا من حملة جنسيات الاتحاد الأوروبي بما يتراوح ما بين 5000-6000 شخص، وذلك حتى الربع الأول من العام الحالي.

فلماذا إذاً بدأت أعداد معتبرة من المسلمين الأوروبيين في التوجه إلى سوريا للمشاركة في القتال؟ ولماذا أصبحت أعمارهم أقل؟ ولماذا تشارك نساء أوروبيات وللمرة الأولى في تاريخ الجماعات الجهادية بمثل هذه الأعداد الكبيرة؟ وما يزال السؤال الكلاسيكي مطروحاً: كيف يترك شخص يعيش في دول الرفاه والحضارة كل ذلك ليتوجه إلى تنظيم بربري ويشارك معه في جرائمه؟

ينبغي التحذير هنا أن ظاهرة داعش ظاهرة مركّبة، بمعنى أنه لا يوجد تفسير واحد لما يجري فيها، وبنطبق ذلك على مجال التجنيد. ويمكن القول أن استقطابهم للعناصر يأتي على شكل جداول صغيرة تتجمع تدريجياً لتكون نهراً كبيراً، أي أن هناك أسباباً مختلفة تدفع الأسخاص لترك بلادهم وعائلاتهم والتوجه إلى سوريا.

في البداية كان الأئمة الجهاديون في أوروبا يتحدثون في المساجد عن الظلم الذي يتعرض له السوريون على يد النظام، ولكن حديثهم كان عاماً، فمن ناحية هم يتقنون اللعب على حدود القانون حتى لا يتهموا بالترويج لجماعات إرهابية، ومن ناحية ثانية لم يكن هناك وضوح في الخارطة الجهادية في سوريا، حيث كانت جبهة النصرة وتنظيمات جهادية أخرى خرجت من رحم القاعدة أو تستلهم القاعدة. وكانت تلك التنظيمات تمارس التجنيد الحذر، ولا تقبل من هب ودب، لأسباب أمنية. والأئمة الأوروبيون مسألة يطول الحديث فيها، ولكن يمكن إيراد مثال عن إمام كان يعمل موظفاً رسمياً لدى الحكومة الألمانية وظيفته أن يزور السجناء المسلمين، وقد تبين أنه يوجههم لفهم راديكالي للإسلام، ونتج عن ذلك أن اثنين من مريديه توجهوا إلى سوريا فور خروجهم من السجن. نفى الإمام أن يكون وجههم تجاه جماعات مصنفة على أنها إرهابية، ولكن من الواضح أنه كان ينضج الظروف لحالة عامة، ولم يكن على المتأثرين به سوى التوجه إلى سوريا عبر تركيا والبحث عمن يقبلهم هناك.

وهنا بالضبط كان أحد مفاتيح تفوق داعش على النصرة، بعد أن ظهرت الأولى في شرق سوريا ودعا البغدادي الجولاني للبيعة فرفض الأخير. كان في ذهن قادة داعش مخطط متكامل، ولم يكونوا يبالون بالاختراقات الأمنية لأنهم يريدون التوسع بسرعة والسيطرة على الأرض، لا التصرف ضمن منطق حرب العصابات. وهكذا فتحت داعش أذرعها لاستقبال كل من لم تقبلهم النصرة والتنظيمات الأخرى. وقد روى الكثير من الجهاديين الأوروبيين الأوائل كيف امتنعت النصرة عن قبولهم في صفوفها فانتقلوا إلى داعش التي رحبت بهم. وفي وقت لاحق وجهت داعش جهداً لا بأس به لاستقطاب الشباب الغربي مباشرة وعبر أئمة يعملون في مساجد أوروبا، وهو ما أدى لاحقاً إلى اعتقالات وتحقيقات نفذتها الأجهزة الأمنية في أوروبا بحق عدد من أئمة ومسؤولي المساجد. واليوم تعد داعش الأكثر استقطاباً لمن يأتون من أوروبا (وغيرها كذلك) بداعي الجهاد.

ولكن داعي ظلم النظام للشعب السوري ليس الوحيد ولا الأكبر لنجاح التجنيد في أوروبا، فهناك أسباب أخرى، بعضها اجتماعي وبعضها نفسي. ومن أقوى تلك الأسباب ما يعرف بمشاكل الاندماج، أي الصعوبات التي تواجه العربي والمسلم في أوروبا أثناء محاولته التكيف مع قيم وقوانين وظروف المجتمعات الأوروبية، وما يرافق ذلك من تبدّ للعنصرية ضد المسلمين والعرب في بعض المحطات. في العموم تعيش نسبة لا بأس بها من العرب في ضواح ومناطق ذات طابع فقير ومزدحم وذي بطالة مرتفعة مقارنة مع مناطق أخرى يعيش فيها المواطن الأوروبي العادي. وبالفعل تشهد تلك المناطق ارتفاعاً في مستويات الجريمة والمخدرات والتطرف ويخرج منها قسم لا بأس به ممن يتوجهون إلى داعش. ولعل هذا البعد من المسألة نال الكثير من التغطية والتحليل، حيث أن الكثير من الشبان بسبب هذه الأوضاع يجدون أن من المناسب أن يتوجهوا إلى "دار الخلافة" حيث فرصة جديدة لحياة جديدة وإمكانات جديدة.

لكن للمسألة أبعاد أخرى. ولعل جزءاً من الإجابة يكمن في الفيديو الذي ظهر فيه أوائل البريطانيين والاستراليين الملتحقين بداعش، وكان عنوانه "لا حياة بدون جهاد"، وذلك قبل أكثر من عام. أحد البريطانيين الذين ظهروا في الفيديو وجه رسالة باللغة الانجليزية لأقرانه، مشيراً إلى أنه كان يحس ما يحسونه من "إحباط". وبالفعل فإن من مميزات المجتمعات الغربية أن تجد فيها نسبة مرتفعة ممن يعانون من الإحباط والضغوط النفسية الناتجة عن الإيقاع السريع جداً للحياة، وعن الحاجة المستمرة لاتخاذ قرارات صعبة.

أما أحدث ما كشفت عنه الدراسات والتحليلات فهو الإحباط الجنسي لنسبة من شبان وشابات الجاليات المسلمة في أوروبا، فهم من ناحية يرون العلاقات المنفتحة تماماً بين أقرانهم، ومن ناحية أخرى يعانون إما من ضغط أهاليهم أو من ضغط القيم الشرقية المزروعة فيهم، أو من كليهما.

وتشير دراسات أكاديمية أخرى إلى أن بعض من يتوجهون للقتال إنما يدفعهم لذلك رغبتهم في الخروج من المجتمعات الأوروبية التي يرونها "مجتمعات كفر" يرفضونها ويرفضون قيمها ويرغبون في إيذائها بأي شكل.

أما أحد أطرف التفسيرات فقد سمعته شخصياً من متخصص في الجماعات الإسلامية وهو عربي يعيش في السويد، حيث قال أن بعض الأوروبيين ممن يدخلون الإسلام حديثاً يريدون تعويض الزمن والتكفير عما يعتبرونه حياة سابقة آثمة، فيكون أسرع الطرق بالنسبة إليهم هو البحث عن الموت عبر "الجهاد"، أي الحصول على الشهادة التي تضمن دخولاً سريعاً إلى الجنة.

لكل هذه الفئات، ولغيرها، تقدّم داعش عرضاً حزمة متكاملة: من يعانون من سجل إجرامي وعدم احترام المجتمع لهم يمكنهم البدء من جديد وتكوين شخصيات وذوات لها احترام وحيثية ومكانة في مكان جديد لا يعرف فيه أحد ماضيهم الذي يخجلون منه. من يعانون من الاندماج ومشاكله ومن البطالة والفقر لديهم الفرصة للثروة ولتحقيق الذات وللوصول إلى مراتب رفيعة في كيان يبحث عن الكفاءات ويوظفها بذكاء وكفاءة عاليتين. ومن يريدون الابتعاد عن الضغط والإحباط والتوتر والقرارات المتتابعة يمكنهم القدوم إلى أرض فيها "يقين" وفيها هدوء، ولا تحتاج سوى لاتباع التعليمات والقتال، دون الحاجة إلى التفكير الطويل والمرهق. أما من يعانون من الإحباط الجنسي فداعش لديها طيف كامل من الحلول التي لا تسبب صراعاً نفسياً مثل ذلك الذي يعيشه كثير من المسلمين في أوروبا.

كل ذلك يأتي ضمن حزمة واحدة تضمن الخروج من المجتمعات الأوروبية المرفوضة وتضمن وجود قضية "عادلة" تبرّر حتى لعشّاق الأكشن والعنف أن يمارسوه ضمن سياق أخلاقي "مقبول" يسمح حتى بقطع رقاب الناس أو حرقهم أحياء أو تفجير رؤوسهم أو حتى تقطيعهم أحياء. لا غرابة إذاً في أن التدفق ما زال مستمراً، ولا غرابة إذاً في أن من يسعون إلى تلك الحزمة مستعدون لتقديم حياتهم في سبيلها، ولا غرابة إذاً في ارتفاع أعداد من هم مستعدون لتنفيذ عمليات انتحارية حسب حاجات التنظيم العسكرية.

يوتوبيا في الحقيقة تختلف من شخص إلى آخر. كل يرى يوتوبياه من منظور حاجاته وقناعاته ومثله العليا. يوتوبيا هي المكان المتخيّل الذي يقدم لنا ما نعجز عن تحقيقه في الواقع. عبقرية داعش التنظيمية وخطرها الكبير أنها قادرة على تقديم خطاب مخصص لكل فئة، يناسبها ويضرب على أوتارها ويلعب على نقاط ضعفها وحاجاتها ويستغلها لصالحه، حيث يرسم لها طرقاً وهمية إلى يوتوبياها، ولكن كل تلك الطرق تؤدي إلى داعش!



*كاتب أردني مقيم في السويد








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل ينتزع الحراك الطلابي عبر العالم -إرادة سياسية- لوقف الحرب


.. دمر المنازل واقتلع ما بطريقه.. فيديو يُظهر إعصارًا هائلًا يض




.. عين بوتين على خاركيف وسومي .. فكيف انهارت الجبهة الشرقية لأو


.. إسرائيل.. تسريبات عن خطة نتنياهو بشأن مستقبل القطاع |#غرفة_ا




.. قطر.. البنتاغون ينقل مسيرات ومقاتلات إلى قاعدة العديد |#غرفة