الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صناعة و تسويق أنصاف الآلهة في الإعلام الأميركي

محمد فاضل رضوان

2005 / 10 / 17
الصحافة والاعلام


في منتصف عقد التسعينيات و فيما أطلق عليه آنذاك حدث محاكمة القرن بالولايات المتحدة الأميركية جرت المحاكمة الشهيرة للاعب كرة القدم الأميركية سمبسون الذي كان متهما بقتل زوجته و صديقها, أطوار هذه المحاكمة الماراطونية هيمنت على الخبر اليومي الأميركي لفترة طويلة انتهت بتبرئة سمبسون فيما كانت معظم أخبار العالم الأكثر تأثيرا في الداخل و الخارج تمر دون اكتراث من المتلقي الأميركي. أما الشهور السابقة من هذه السنة فقد شهدت حالة مشابهة تمثلت في المحاكمة الصاخبة لنجم موسيقى البوب الأميركي مايكل جاكسون بتهم مرتبطة بالتحرش الجنسي بأطفال تكفي للزج بالفتى الأمريكي المدلل لأزيد من عشرين سنة خلف القضبان , غير أن هيأة المحلفين و كما كان الشأن بالنسبة لسمبسون لم تقتنع برزنامة الأدلة التي اجتهد الادعاء العام الأمريكي في جمعها و توضيبها لتنتهي المحاكمة بتبرئة جاكسون حيث تم إسدال الستار عن إحدى أكثر المحاكمات تتبعا من قبل الإعلام الأمريكي .
التشابه في ظروف المحاكمتين ليس من حيث حكم البراءة الصادر في حق كل من سمبسون و جاكسون فقط بل من حيث المواكبة الإعلامية الهائلة لكل واحدة منهما و التي جعلتها تغطي على الكثير من القضايا و الأخبار الأكثر أهمية, قد تمكننا من استخلاص مجموعة من خصائص الإعلام الأمريكي بدءا بطبيعة القضايا الأكثر استفزازا لمشاعر و اهتمام المتلقي الإعلامي الأمريكي المتهم لدى المختصين بضعف استهلاكه للخبر عموما مرورا بقيمة الرموز الأكثر تأثيرا في صنع الخبر الأميركي و تسويقه وصولا إلى مدى استقلالية خيارات المتلقي الإعلامي الأميركي عن توجيهات صانعي القرار الرامية لتوجيه الرأي العام صوب وجهة بعينها.
نجوم هوليود: أمركة العالم:
يبدو أن الإنزال الأميركي الكثيف بشواطئ نورماندي في أقوى لحظات الحرب العالمية الثانية كان يتجاوز في عمقه المدى العسكري المرتبط بإعادة ترتيب الأوراق في توازنات أوروبا العسكرية كمنطلق لاستئصال النازية و بناء العالم الجديد الذي كان من الطبيعي أن يكون و أن يستمر محكوما بنتائج هذه الحرب, هكذا سيعيش العالم لحظة انبثاق قيادة إمبراطورية جديدة تتحدد معالمها وفق آليات و استراتيجيات مختلفة كل الاختلاف عما رسمته الإمبراطوريات الاستعمارية التقليدية في ذروة المد الإمبريالي. آليات يمكن الاقتراب من معالمها عبر قراءة هذه العبارة الصادرة عن أحد أهم رموز حركة عدم الانحياز في القرن العشرين رئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو الذي صرح معلقا على التغلغل الأميركي الجديد في مختلف بقاع العالم بأن أميركا تحاصرنا بهوليود من جهة و C.I.A من جهة أخرى.
لقد شكل الجانب الإعلامي إذن مدخلا أساسيا للاختراق الأميركي للعالم بالعمل على ضمان ترويج صورة أميركا و نمط العيش الأميركي بمختلف مظاهره الاستهلاكية هكذا أضحى الهامبورغر الأميركي و مشروب الكوكا كولا أكثر شعبية من أكثر الأطباق و المشروبات أصالة و تقليدية في مختلف بقاع المعمور إنها باختصار أضلاع الحلم الأميركي الذي غدا حلما عالميا ذو امتدادات اقتصادية محملة بنمط العيش الأميركي بمختلف تفاصيله اليومية تضمن الرواج العالمي الهائل للمنتجات الاستهلاكية الأميركية, و سياسية محملة بمختلف صور الحقوق و الحريات تضمن لأمريكا التفوق في نزالها مع الغريم السوفييتي العنيد المبشر بعالم أكثر عدالة. لقد عادت أميركا إلى الزوايا الأربع للعالم ليس بالضرورة على بوارج بحرية كما فعل الفرنسيون و البريطانيون من قبل و إنما من خلال نجوم هوليود الذين تحملوا مهمة أمركة العالم ثقافيا, اجتماعيا, اقتصاديا...لتولد مع مارلين مونرو و كلينتي ستوود صورة الرجل الأمريكي المتحضر الذي يحمل وزر تحرير العالم , كما ولدت مع المكدونالدز و الكوكا كولا صورة نمط العيش الأمريكي الأكثر عملية و معاصرة.
صناعة وتسويق أنصاف الآلهة:
كما كانت للخارج في أجندات الإعلام الأميركي استراتيجياته فقد كانت للداخل أيضا حساباته التي سعت إلى إعادة تشكيل مخيلة المتلقي الأميركي برموز جديدة أبطالها هذه المرة مغنو الروك و الراب الأمريكان و ممثلو سينما الإثارة الأميركية بشقيها الأساسيين الجنس و العنف و أبطال الرياضات الأمريكية من أمثال كرة القاعدة و كرة القدم الأمريكية إضافة إلى مصممي و عارضي الأزياء ... هؤلاء جميعا عمل الإعلام الأميركي على تحويلهم إلى ما يشبه صورة أنصاف الآلهة في الميثولوجيا القديمة الذين يستوجب التعامل معهم التوسل إلى كل طقوس التبجيل و التقديس التي قد تصل إلى أقصى درجات العبادة فبات مألوفا في أميركا أن يقضي الآلاف لياليهم في العراء أمام منزل أحد هؤلاء المشاهير تطلعا لإطلالة سريعة قد يجود بها على مريديه من إحدى شرفات منزله, كما ولدت موازاة مع هذا صناعة إعلامية هائلة تجد صورتها في إمبراطوريات كبرى مشكلة من آلاف المصورين و الصحفيين و المعلقين الذين يتغذون على فضائح الحياة الخاصة لأنصاف الآلهة الذين خلقوهم بأنفسهم, لقد أضحت الحياة الخاصة للنجوم الأمريكيين هوسا شعبيا بامتياز يجد امتداده في انفلات هذه الحياة عن الطابع العادي و الاعتيادي لعامة الناس بما يجعلها أكثر بعدا عن الواقع و أقرب إلى مجريات أفلام هوليود.
سمبسون, جاكسون و الآخرون: هم من يشغل أميركا:
في منتصف عقد التسعينيات كانت أخبار محاكمة نجم كرة القدم الأميركية سمبسون تغطي على كل الأخبار و التحولات السياسية التي كان يشهدها العالم و التي كانت أميركا في عمقها بفعل التدخلات العسكرية و الحروب العديدة التي خاضتها في مناطق مختلفة بالعالم كحرب الخليج الثانية و التدخل في الصومال إضافة إلى انفرادها بقيادة العالم بعد انهيار المعسكر الشرقي فيما عرف بالنظام الدولي الجديد, وحدهم صانعي القرار كانوا يتتبعون ما يجري و يشتغلون على أكثر القضايا السياسية حساسية و تعقيدا بعيدا عن ضغط الشارع المنشغل بتتبع بالمانشيطات الحمراء على أغلفة مجلات الإثارة و عناوين الاخبار الملتهبة حول القضية التي تضمنت كل عناصر الإثارة: الدم و الجنس و الشهرة و المال.هكذا لم يبد غريبا أن يقدم خبر إحدى التفاصيل السخيفة بقضية سمبسون ذات ليلة اميركية قبل خبر سقوط طائرة مروحية بحديقة البيت الأبيض بما يحمله هذا من إسقاطات تتعلق بالأمن الأمريكي في شموليته, كما لم يكن مستغربا أن تخترق التفاصيل الدقيقة لمحاكمة النجم الأسمر الوسيم خطابات المسؤولين الأمريكيين باعتبارها هما قوميا.
قد يكون الرد على هده الإشارات التي تحدد خصوصية الممارسة الإعلامية ببلاد العم سام هو ببساطة الحرية التي ينعم بها الإعلام الأميركي المستقل عن مراكز القوى المؤثرة في الحياة السياسية و هيمنة الطابع المقاولاتي الاستثماري عليه بما يعنيه دلك من تنافسية حادة حول الزبناء المفترضين و هو ما يمنح العاملين في هدا الحقل هامشا كبيرا من التصرف في ترتيب و تصنيف الأخبار ليس وفق أهميتها النظرية بل وفق ما يرغب فيه المتلقي الأميركي أي أننا بصدد عملية تسويق منتوج وفق هاجس العرض و الطلب, لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو ألا يشترك المتلقي الأميركي مع صانعي القرار في بلده في نفس الرغبة بأن تغطي أخبار النجوم السخيفة على مجريات الأمور الأكثر أهمية و تأثيرا في مختلف انحاء العالم؟
مثلما كانت قضية سمبسون في منتصف عقد التسعينيات فإن قضية مغني الروك مايكل جاكسون تحمل عناصر الإثارة المثالية التي ينشدها إعلام الإثارة الأميركي, إن الأمر يتعلق هده المرة بأحد أكبر الأساطير التي صنعها و اجتهد في تلميعها و تسويقها هدا الإعلام نفسه. مايكل جاكسون المغني الأسود سابقا و الأبيض حاليا بين حفلات الموسيقى الصاخبة و غرف عمليات التجميل التي بلغت ذروتها في تغييره لون جلده, ولدت أسطورة مايكل جاكسون, مريدوه يلاحقونه في كل مكان و جيش من الصحفيين يتغذى باستمرار على تفاصيل حياته الخاصة التي أضحت بفعل الإثارة المفتعلة أقرب إلى الخيال. من هنا يكون حدث وقوف الفتى الأميركي المدلل أمام هيئة محلفين بتهمة التحرش الجنسي بقاصرين حدث القرن الواحد و العشرين بأميركا, فلا أطلال برجي مركز التجارة العالمي المنهار ذات ثلاثاء أسود تزاحم إثارة المحاكمة المستحيلة و لا أنباء قادمة عن حدائق حيوانات بها بشر في قاعدة غوانتانامو الأميركية أضحت ذات قيمة و لا أنباء المستنقع الأميركي الجديد الذي يعصف بأرواح الجنود الأمريكيين و قبلهم المواطنين العراقيين أيضا بنفس الأهمية, وحدها محاكمة مايكل جاكسون تستفز المتلقي الأمريكي ووحده حضوره لقاعة المحكمة يجمع الأميركيين في الشارع أمام قاعة المحكمة طبعا ووحدهم صانعي السياسة الأميركية الداخلية و الخارجية يعملون على ضبط سياساتهم و استراتيجياتهم بعيدا عن ضغوط و تأثير الآخرين.
طالما كانت أميركا و مند اكتشافها العالم الجديد, إنها عالم متفرد تحكمت في بنائها و تطورها شروط و معطيات مختلفة كل الاختلاف عما نجده في مختلف زوايا العالم . إنها باختصار بلد هوليود و C.I.A, بلد الماكدونالدز و كوكا كولا و الأساطير المثيرة حول أنصاف الآلهة ذووا الحياة الخاصة المثيرة التي تشد إليها المتلقي الأميركي فتسهم بذلك في قيام صناعة إعلامية متخصصة . إنها بلد الإمبراطوريات الإعلامية الضخمة التي صنعت أسطورة أميركا في الداخل و الخارج.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماكرون يرحب بالتزام الصين -بالامتناع عن بيع أسلحة- لروسيا •


.. متجاهلا تحذيرات من -حمام دم-.. نتنياهو يخطو نحو اجتياح رفح ب




.. حماس توافق على المقترح المصري القطري لوقف إطلاق النار | #عاج


.. بعد رفح -وين نروح؟- كيف بدنا نعيش.. النازحون يتساءلون




.. فرحة عارمة في غزة بعد موافقة حماس على مقترح الهدنة | #عاجل