الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


معالم فن التشكيلية ( بسمة نمري )

جمان حلاّوي

2015 / 8 / 22
الادب والفن


معالم فن التشكيلية ( بسمة نمري )

جُمان حِلاّوي

عرفت من خلال متابعاتي لتاريخ الأدب ومدارس الفنون أن سمات الأديب أو الفنان لا يمكن تأطيرها بمدرسة ما ليتبعها ويحوك أدبه أو فنه من خلالها وحسب شروطها وبنودها بل أن نمط المدارس هي التابع لإبداع الإنسان المتفرّد بوعيه التخيلي . فالبحور الشعرية لم يضعها أصحاب المعلقات زمن ما قبل الإسلام بل أنهم كتبوا شعرا ً ونظموه حسب رهافة إحساسهم الفطري بالنغمات وترتيلها ، ثم جاء الخليل بن احمد الفراهيدي بعدهم بمائتي سنه أو أكثر (100 هـ170 هـ - 718م 786م) ليؤسس علم العروض بعد أن وضع شعرهم أمامه وقام باستخراج البحور منه مؤسسا ً بالتالي مدرسة العروض . والأمر ينطبق على الفن وبالتحديد الفنون التشكيلية إذ لم يتبع سلفادور دالي مدرسة كان اسمها السوريالية أو أن يتبع بيكاسو مدرسة التكعيبية ، قام الفنانان بالتعبير عن دواخلهما من خلال رهافة حسهما الفني فرسما وقاما بتشكيل لوحات غاية في الغرابة المتناسقة الأخاذة بمعانيها وجمال حضورها . ثم جاء من بعدهم مؤرخي الفن وارتأوا تصنيف فنهما وكما ذكرت بمدرستين لكل منها ميزاتها وعوالمها ومدلولاتها الفكرية والفلسفية والنفسية متعلقة بحركة المجتمعات وصراعها كلوحة جيرنيكا وآنسات افنيون لبيكاسو اللتان تعبران عن حقبة من الصراع كلوحة جيرنيكا التي تمثل قرية جيرنيكا الاسبانية التي ضربتها الطائرات النازية بالقنابل كأول حالة ضرب بالقنابل لمدينة عام 1937 إبان قيام الجمهورية الاسبانية الفتية وطرد الملك فرانكو الذي تحالف مع هتلر لقمع الثوار الجمهوريين . أو حالة مجتمع كلوحة آنسات افنيون التي تمثل حقيقة دواخل عاهرات منطقة افنيون الفرنسية بتلك الوجوه النسائية المتعبة ذات الملامح الغرائبية المستوحاة من الفن الأفريقي .

وبالنتيجة يمكن التوصل إلى أن الفكر الإنساني ومنذ انسلاخ الإنسان من أجداده النياندرتال أضحى لا حدود لإبداعه ولا فضاءات محددة لوعيه وإدراكه الخلاّق يمكن السيطرة عليها ابتداءً من رسومه الخلاّبة على جدران الكهوف المليئة رموزا ً محاكاة مع الواقع في رمي الأسود والثيران بالرماح لاصطيادها أو منحوتات الأم في الحقبة الامومية ( المطريركية ) في تشكيلها بأثداء ضخمة جدا ً دون رأس أو أقدام . انه تشكيل حذق وذكي لإبراز عنصر الأمومة من خلال الأثداء المدرارة للحليب واهب الحياة .

لهذه الأسباب يمكن التوصل إلى أنه من الخطأ الفادح أن نقول أن ّ الشاعر الفلاني كان يتبع المدرسة الفلانية في الشعر وكذا الفنان . المدارس وضعت لتبويب المنهج الأكاديمي لدراسة الآداب والفنون وليس العكس. ولهذا السبب تنوعت المدارس وتشعبت وتصادمت في أحايين أخرى فهي تتبع النشاط الفكري للإبداع وان هذا الأخير لا يمكن حبسه في قفص التبويب والإحاطة .

إن الفرق مابين مفهوم العلم وبين الأدب والفن أنّ الأخيرتين لا تخضع لقوانين صارمة حدّية . نعم هما يستخدمان مادة الوجود بذاتها لكنهما يشكلان أطرا ً وعوالم َ مليئة بالرموز والخيال كان أولها الثور المجنح في أروقة قصور الأشوريين فهو منحوت لكائن خرافي شكّله الفنان الآشوري بعقله الذكي مستوحيا ً أجزاءه من الطبيعة المحيطة كجناحي النسر وجسد الثور ورأس إنسان . هذا السمو والتعمّق في الإبداع لا يمكن مقارنته بالعلم التجريبي الذي يحاور المادة والطبيعة وتوازناتها وإتباع أسلوب المنطق في النتائج التي تحتسب قبل أوانها . ذلك المنطق الذي لا يمكن تحديد الأدب أو الفن من خلاله ، لذلك حيكت القصص والخرافات والأساطير التي تقلب القوانين رأسا ً على عقب في صور شعرية غاية في الجمال كالإلياذة الشعرية لهوميروس أو ألف ليلة وليلة المليئة بالحوادث غير المنطقية التي تخلق صورا ً خيالية مُلآى بالشاعرية والأناقة والجمال .

عند البحث في فن التشكيلية الأردنية السيدة ( بسمة نمري ) نتوصل إلى نتائج مفادها أن السيدة النمري لم تّخضِع فنها إلى إيقونات المدارس وضوابطها وشروطها وأهدافها كما صنفها المصنفون ، إنها تخلق عوالمها من خلال إحساسها المرهف بالمحيط المضطرب متداخلا ً مع ثقافتها ورؤاها لما وراء الواقع المنظور لتنتج بل create لوحات عبارة عن وجوه بلا ملامح سوى الأساسيات : عينين ، انف ، فم . أما الملامح فتتبع لون الواحد المتفرّد للوحة . إن ذكاء التشكيلية بسمة نمري في التعبير عن ملامح الوجود و انفعالاتها يبرز من خلال: لون اللوحة .. هناك اللوحة الزرقاء وهناك اللوحة الحمراء وهناك اللوحة الصفراء . إن تدرج اللون الواحد داخل إطار اللوحة يدفع الناظر للتفكير والتأمل بتفاصيل ما يعانيه الوجه من حزن أو حتى فرح وبهجة. العيون في لوحات التشكيلية بسمة في الغالب مغمضة أو مفتوحة لكن بلا حياة أو لمعان، والأنوف طويلة دون ارنبتين وكأن لا هواء هناك لتتنفسه . وهناك الأكف التي استخدمتها التشكيلية بسمة للتعبير عن منحيين أولهما هو لتوازن اللوحة ضمن تشكيلين بيضويين هما الوجه والكف ، وثانيهما هو إشعار الناظر بالارتجاف وبالتالي خلق حالة البؤس لديه من خلال تدرج اللون مابين الأصابع المتهالكة . وكانت شخصيات لوحاتها منفردة دائما ً وهي تنظر إلينا باستمرار ؛ بل تلاحقنا بتلك النظرات التي لاحياه فيها أو التماع ، وجاءت إحدى لوحاتها وهي لامرأة عارية جالسة برز نهديها بائسين كانت تحاكي لوحة آنسات افنيون هي الوحيدة التي أرى فيها الجسد كاملا ً ربما متعمدة لإبراز بؤس ثديي الموديل الذي يحاكي بؤس الوجه الخزفي أو كان العكس صحيحا ً . ان كل ذلك أراه يصب في مفهوم واحد أرادت التشكيلية بسمة تجسيده فوق القماش لتخلق بالتالي مدرستها الخاصة بها

جاءت خطوط اللوحات بسيطة ذات حافات سميكة ، و لا أعلم إن كانت الفنانة كانت تتقصّد ذلك أم لا إذ كانت وكأنها تضع مكوناتها البشرية داخل أقفاص من خطوط
سميكة ( اسمك من خطوط التفاصيل الأخرى ) أو لتعزلها عن واقع محيطها . وكان ما يحدد كل ذلك هو اللون المتفرّد مع تدرجاته في كل لوحة فتعطيها سماتها التي لايمكن بالتالي تكرارها لجعل كل لوحة عبارة عن كيان ووجود وحضور يمثّل جملة متكاملة من المعاني والتفاصيل التي تحاك داخل ذهن الناظر والتي لا تحتاج بالتالي إلى ملاحق أو مقدمات .

ما أردت قوله أن الفنانة التشكيلية السيدة بسمة نمري لم تتبع مدرسة ما لترسم ضمن ضوابطها بل خلقت اسلوبها الخاص ؛ إنها تحوّل إحساسها الممزوج بثقافتها ونظرتها الثاقبة الذكية لمحيط متغير باضطراب إلى لوحة فنية مغايرة لكل ماسبقها من فنون متأكدة من أصالة فنها ورسومها أن تشدّ الناظر إليها ، بل تسمّره في مكانه ليتمعن بها لا أن ينظر إليها وهو يمر منتقلا ً إلى اللوحة الأخرى .

أنا ومع الأسف لم أتعرف مسبقا ً بالفنانة التشكيلية بسمة نمري ، و لم اعرف فنها وأتذوق جماله إلا عن قريب ، ورأيت فيه فنا ً خالصا ً يحمل سمات تعبيرية تذكرني بال جريكو وجويا الاسبانيين مع الفارق في موضوع اللوحات ومضامينها ، لكني أتكلم هنا عن نقل نفسية ودواخل الموديل المراد رسمه وتحويله إلى عمل فني على القماش الأبيض معطياً ذلك الأثر النفسي على ملامح الوجه والتكوين داخل اللوحة بضربات الفرشاة لتوحي بكل عوالم المعاناة ، أو ما تحمله نفسية الموديل .


جمان حلاّوي

21/ 8 / 2015
[email protected]









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا


.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب




.. طنجة المغربية تحتضن اليوم العالمي لموسيقى الجاز


.. فرح يوسف مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير خرج بشكل عالمى وقدم




.. أول حكم ضد ترمب بقضية الممثلة الإباحية بالمحكمة الجنائية في