الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التظاهرات مؤشر لمرحلة (القوة) في المسار الديمقراطي - العراق.

احمد جمعة زبون
أستاذ أكاديمي وسياسي عراقي

(Ahmed Jumaa Al-bahadli)

2015 / 8 / 25
مواضيع وابحاث سياسية





يشير المفكر الاجتماعي (هيبوليت تين) ألماني الجنسية، إلى مرور أي حقبة ثورية أو حضارية بثلاثة حقب لا انفلات منها، وهي: بداية (مرحلة الوجود والتكوّن)، و وسط(مرحلة الشباب والقوة)، ونهاية(مرحلة الاندثار).

وفي ما لو راجعنا وبشكل عشوائي أو منتظم، مجمل الثورات الإنسانية أو التحولات الحضارية، فإننا سنجد أن هناك نوعا من التشابه الشديد بين سيرة الإنسان التكوينية في (البداية الوجودية، ثم الشباب والقوة، والموت أو الاندثار)، ولعلّ هذه هي مبادئ الفكرة الدرامية التي بينها (أرسطو) في أنظمة (الاستاطيقيا)، بل ويمكن القول كذلك بأن القرآن الكريم أشار إلى هذه القضية بشكل من التفصيل الذي يكشف عن فكرة تكوينية حتمية، في تسلسل وجود الموجود بالإمكان، إذ قال تعالى في سورة الحج: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ ۚ-;- وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ-;- أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ۖ-;- وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ-;- وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ-;- أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ-;- وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)).

وهذا يعني أن المسار التكويني لأي ظاهرة (أنطولوجية) يؤسس لها عن طريق الوعي الإنساني، فإنها تكتسب حضورا واقعيا من ذات الفطرة التكوينية التي جبل عليها الإنسان نفسه، ولا يمكن بأي حال من الأحوال الانسلاخ عن هذه الثلاثية (البداية – الوسط – النهاية)، فحضارات العالم القديم، كالسومرية، والأكدية وغيرهما، أو الفرعونية، والإغريقية، لكل منها بداية شروع ونقطة اندثار توسطتها فترة قوة و ازدهار، في خط الزمن المتوالي إكرونولوجياً، الذي يعبر عنه القرآن الكريم بتعبير دقيق وواضح للإشارة إلى هذا المسار التكويني: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ).

وفي غمار هذه التظاهرات الجماهيرية التي اعتقدها وبشكل جازم صورة من صور معالجة الواقع الذي أريد له سابقاً الانحراف عن موقع التصدي، عبر تشويه ابرز القادة السياسيين، أنا أعترف بأن هناك فساداً واضحا، وأعترف بأن هناك شخصيات سياسية وتنفيذية فاسدة، بل و يعترف العراقيون جميعاً بذلك، ولعل خروجهم لرفض الفساد ناتج عن درايتهم بتفشي الفساد نفسه، خصوصا وان الوقت قد مضى والمتصدي للمسؤولية من الشرفاء محجوبون بحجب السلامة الأمنية عن متابعة إحداث الشارع العراقي الذي تورم كثيرا بالتعاملات المالية المحرمة، ومع أن بعضهم كان يحاول المعالجة، إلا أن الإصلاح لا يكون من دون جماعة مصلحة، تمتلك شرطي التغيير وهما: التأثير وقوة الموقف.

ولذلك كنا في تيار الإصلاح الوطني، ننادي دائما بالإصلاحات، بل وجاء برنامجنا الانتخابي، متوافقا مع مشروع بناء الدولة، ليست الدولة بمفهومها الاقتصادي المضطرد في نموه، ولا الدولة القوية عسكرياً، ولا الدولة المتماسكة اجتماعيا لتنوع المذاهب والديانات والقوميات فحسب، وإنما ننشد للوصول إلى دولة الإنسان. بل وكانت لنا رؤية إصلاحية واضحة ومتجاوزة في خطها الزمني ما أعلن عنه من إصلاحات مؤخرا، فالترشيق الوزاري وإلغاء المحاصصة واعتماد القوانين المدنية وتفعيلها، وإلغاء تقاعد المسؤولين ومن خدم العراق تطوعا في مناصب توفرت لهم جراء الترشيح أو الانتخاب، وغير ذلك مما وجدناه يسهم في بناء العراق المعاصر، وهو مثبت في (البرنامج الانتخابي)، لانتخابات مجلس النواب عام 2014، إذ ذكرنا فيه مقترحات مقترحات للحلول السياسية والأمنية، فضلا عن الإصلاح الثقافي والإعلامي، ومشروع مكافحة الفساد، ومشروع الاقتصاد المتكامل، ومشاريع أخرى تعلقت بإصلاحات خدمية وزراعية وصحية وتربوية...

وما أخر تنفيذ الإصلاحات هو عدم توافر المصلحين في خط المواجهة قبالة الانتفاعيين والمفسدين، الذين لم يجن الشعب العراقي منهم إلا الأزمات المتوالية.

ومع أن أطروحاتنا الإصلاحية واضحة للعيان، بل وحاولنا التأكيد عليها وفي أكثر من مجال وفي أكثر من مناسبة، إلا أنها كأطروحات تمثل الحل لواقعنا المرير لم تلق من الآخرين الاهتمام، بل وحاول بعضهم الإساءة إليها واصفا إياها باليوتوبيا، أو الفنطازيا أو المثالية النظرية، ونحن نعتقد أن طريق الإصلاح طريق شائك، ليس لأنه يمثل مهمة الشروع في العمل فقط، وإنما هو يمثل الوقوف في وجه موج عارم ومهدد، خصوصا وأن:
"الناس... تحب الصالح... وتعادي المصلح...
فنبينا (ص) قبل البعثة أحبه قومه حتى لقبوه بالصادق الأمين لأنه صالح...
ولكن! لما بعثه الله تعالى صار مصلحًا فعادوه وقالوا: ساحر كذاب مجنون، لأن المصلح سيصطدم بصخرة أهوائهم حين يريد أن ينتشلهم من فسادها، ولذلك؛ نعتقد بأن مصلحاً واحداً أحب إلى الله من آلاف الصالحين.. لأن المصلح يحمي المجتمع ويبنيه.. والصالح يكتفي بحماية نفسه، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ-;- بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} .. ولم يقل: صالحون.

لذلك نرى أهمية التظاهرات في توحيدها للذهنية الجمعية، من أجل التصدي في طريق الإصلاح، ونحن نصطف معهم، ليس تجاذبا سياسيا يهدف لانتشال التظاهرات والمتظاهرين وإفراغ الوجود الجمعي من محتواه الإصلاحي، وإنما نصطف معهم لتأكيد خطابنا المشروط في حيزه التطبيقي بوحدة المصلحين وتوحيد كلمتهم، وكانت كلماتنا ومنذ البداية (أننا تيار الجماهير)، ولن نتخلى عن الجماهير، نعم كانت لنا ملاحظات كبيرة، عن استغلال الجماهير وإتباع أساليب التطميع والتجويع معهم في أوقات ليست انتخابية، وإتباع أسلوب البذل والبذخ في مواسم الانتخابات، وكنا نصرخ وبصوت عال: أن هذا فساد، وان هذا استعمال للمال الحكومي على انه مال سياسي، ولذلك في فرارة الذاكرة الجمعية، أن تيار الإصلاح الوطني من بين مجموعة من التيارات والأحزاب التي احترمت فكرة الانتخابات وحضاريتها، فما كنا نراهن على أصوات ملوثة بالهبات والعطايا، وما كنا نستحوذ على مناصب في مفاصل الحكومة، بل ويشهد البعيد قبل القريب بأن قائد التيار ومؤسسة دولة الدكتور الجعفري وطوال ثماني سنوات متوالية، كان عضوا في البرلمان الوطني العراقي، بعد أن كان رئيسا للوزراء، وقد أعطى أوضح الصور بذلك على نقاء الفكرة الإصلاحية، في سلمية تداول السلطة ديمقراطيا، وفي تأسيس مفهمة سياسية تؤكد حضور المصلح وإن كان نائباً وحيداً في البرلمان يمثل إرادة الإصلاح، والذاكرة الجمعية تشهد للرجل كذلك مواقفه الحاسمة تحت قبة البرلمان.

لذلك لم نجد أن هناك خطوطا عريضة لعدم تقبل التظاهرات، وتقبل مطالب المتظاهرين، خصوصا وأنها طالبت بتفعيل ملفي الخدمات والأمن، ولذلك نعدها محاولة جادة لدخول العراق في مرحلة الشباب أو القوة، بل وهي مؤشر على وعي الجماهير في تنامي وعيهم المتزايد، خصوصا وأنها لم تسلك طريق التسلح والتخريب والهدم، وإنما أعطت صورة واضحة على حضارية الفكرة الإصلاحية، وحضارية الفكرة القرآنية، التي تشير إلى ضرورة الإصلاح وأهمية وجود المصلحين. تحديداً وان التظاهر استمد وجوده من نقص حاد للحاجات الإنسانية الأساسية، (كالماء، والطاقة الكهربائية، والسكن، والمرتب الجيد)، وهذه الحاجات وان كانت دولا أخرى اقل بكثير من إمكانات العراق المعاصر قد وفرتها لمواطنيها كالأردن مثلاً، إلا أن الجهاز التنفيذي في العراق وبسبب انشغاله بتوالي الأزمات المفتعلة إقليميا، وبسبب سوء إدارة بعض المسؤولين في الحكومة العراقية، هو ما أخر الاهتمام بهذه الاحتياجات الأساسية، وساعد على تفشي الفساد. فضلا عن غياب سلطة القانون المستقل وغير المتأثر سياسيا.

لكننا وفي الوقت الذي نحارب فيه الأعداء والخونة والعصابات التكفيرية، يجب الانتباه إلى خطر هذه الفترة، فقد تستغل التظاهرات، ويحرف هذا الوجود الإصلاحي الجماهيري، ليصبح محطة من محطات خسارة المعركة، ونكون حينها قد ركبنا الموجة جميعا، وقد منحنا التطرف أجمل الفرص للاعتداء على مقدساتنا وعرضنا وتاريخنا الإسلامي المشرف، ولا يخفى على احد بان حجم المؤامرة الإقليمية لإفقاد العراق صورته الديمقراطية اخذ ينفذ على شكل أجندات متوالية، فحتى الأمس القريب خصصت أموالا طائلة لتحويل التظاهرات إلى ثورة، فقد جاءت نصوصهم لنسف المشوار السياسي والحراك الديمقراطي الذي قدم العراقيون من اجله سلسلة طويلة من الشهداء، والتضحيات، والصبر، إنهم يقولون وعلى لسان أحدهم : "على المتظاهرين العراقيين أن يتحوّلوا من منتفضين إلى ثوّار حقيقيين ، بتطويرهم آليات العمل والانتقال من طور الانتفاضة إلى طور الثورة ، فلا علاج للقضية العراقية إن لم يثر الشعب كله ثورة جامحة وقوية، يطاح فيها بكل رموز الفساد والقتل والاضطهاد . وعلى العراقيين أن يسقطوا باستيل بغداد الذي تمثله المنطقة الخضراء التي يعتبرها العراقيون اليوم مركز الظلم والقهر".

ومع أن هذا الكلام مخالف لما يتبناه المتظاهرين في ساحات التظاهر وفي مختلف المحافظات، إلا انه يكشف عن مخطط استراتيجي كبير لإزاحة الديمقراطية، ولا يتوهم أي احد أن العراق أجمل بلا ديمقراطية، أو أن العراق أجمل بعودة النظام الرئاسي، الذي عانى العراقيون منه كثيرا أيام حكم الطاغية المقبور صدام حسين لعنه الله، لذلك علينا أيها الأخوة والأحبة، أن ندرك جيدا موقعنا في دعم (الحكومة)، وأنا أقصد بهذا اللفظ الشخصيات الوطنية الشريفة الغيورة المخلصة، وأن نمضي في طريق الإصلاحات، ما دمنا أدركنا أن السلطة بيد الشعب العراقي المبارك. نعم هناك فساد، ونعم هناك مفسدين، لكن ليس الكل في منطق المعيار والميزان، ولا يعني اشتغال (س) من المصلحين، مع (ص) من الفاسدين، أنهم على سواء، بل وان معاناة المصلح هنا أشد، فالعقل يرفض مثل هذه الأحكام. ولذلك يقول الدكتور الجعفري: "واقع المصلح مفصول عن واقع الفاسد لكنه متداخل في مجالاته العملية ومدياته الزمنية، ما يولد معاناة شديدة لحملة الإصلاح".

ولذلك علينا إدراك الحالة الانتقالية في مؤشر الصحة الاجتماعي، وان نجعل من التظاهرات مؤشراً لمرحلة (القوة) في المسار الديموقراطي. حتى لا نضطر للعودة من جديد، هذا إن كان هناك، جديد، فما زالت خطورة التكفيريين والمجرمين، ومخططات البعثيين الحالمين بالعودة بمثابة عاصفة سوداء تبغي هتكنا جميعا.

د. أحمد جمعة البهادلي
بغداد - 24 / 8 / 2015








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صحة وقمر - قمر الطائي تبدع في تجهيز أكلة مقلقل اللحم السعودي


.. حفل زفاف لمؤثرة عراقية في القصر العباسي يثير الجدل بين العرا




.. نتنياهو و-الفخ الأميركي- في صفقة الهدنة..


.. نووي إيران إلى الواجهة.. فهل اقتربت من امتلاك القنبلة النووي




.. أسامة حمدان: الكرة الآن في ملعب نتنياهو أركان حكومته المتطرف