الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الطيور

احمد مصارع

2005 / 10 / 19
الادب والفن


( 1 )
الله هو الذي جعل جدي يراني واقفاً في الطابق الأول لشجرة التوت العملاقة , ألانني كنت صغيراً أرى هذه الشجرة كما لو كانت بستاناً ؟ ! فهي كالبناء المكون من عدة طبقات ، كانت جذوعها الفرعاء ملعباً رحباً لعدد كبير من الأطفال ، أرجوكم ، لا تتخيلونا كالقرود نتقافز على أكتافها فالصعود عليها سهل مهل .
كان جدي ينظر إليَّ عابساً ومرة أخرى إلى العصفور الصغير بين يدي .
- أترك الطائر ... حرام . صمت قليلاً ثم قال :
- انزل على مهلك ... تعال إلي َّ سأعطيك نصف ليرة .
واللهِ لم يكن هناك قصد ، أنها صدفة ، صدقوني لم أستعمل العصفور كرهينة لابتز جدي بهذا المبلغ الكبير ، فمن عادة جدي أن يعطيني من حين لآخر فرنكاً أو أثنين ، وهو لوحده ، بكامل وعيه أبداً لم أساومه ، لقد قرر أن يعطيني نصف ليرة ، أي عشر فرنكات دفعة واحدة .
لا أعرف الحيلة ، إنَّ هذا حدث قبل أيام المدرسة فكيف لي أن أعرف نقطة الضعف عند جدي ، نعم، صحيح لقد رأيت جدي أكثر من مرة يشتري من الأطفال الكبار حرية الطيور ، بمبالغ زهيدة ولكن ليس بنصف ليرة .
النصف ليرة أي الثروة الصغيرة كانت تكفي فقط لشراء عدة سندوتشات ، وكمية من الحلويات ومشاهدة مجموعة من أفلام السينما لعدة مرات ، فقط ، فماذا يعني ذلك ؟
لاشيء فأنتم تعلمون بأنَّ جدي غني ويمتلك أراض واسعة وعدد كبير من البيوت .
ولم يكن يعطيني أحد تلك البيوت ليكون لي وحدي ، كنت سأبيعه لأعيش في بحبوحة .
كما كان يفعل أولاده وأحفاده الكبار ، فلماذا لم أكبر في الوقت المناسب ؟ ! وتقولون إن َّ الحظ لا يلعب دوراً كبيراً .
كان الحظ كتلك اللحظات حين أرغمه الله أن يراني ويخاف عليَّ وعلى الطير .
وتعلمون مثلي بأن المرور على غرفة جدي محنة ، فالدخول إليها والخروج يمر عبر بوابتين مقوستين ومتخمتين بالظل ... المسجد والمكتبة العامرة بمخطوطات كثيرة مذهبة والمصاطب العالية ذوات الفرش المنجدة ، كأسرة للنوم ، ومشاجب معلق عليها بدلات جوخ إنكليزي مخططه ، عدد من البواكير وعدد من الطواقي العصملية الأسطوانية الخمرية اللون .
لم أرغمه على رؤيتي ، لوحده لمحني ، لوحده تذكر دينه والمبلغ الذي وعدني به اجفلتني صيحته الآمرة .
- تعال ولاك .
وقفت أمامه ذليلاً وعيني مسمرتين على الطربوش الأحمر ، كنت كالتنبل أمام السلطان عبد الحميد ، وبأطراف أصابعه المحدبة من الروماتيزم ، أخرج نصف ليرة دفعها إلى يدي دفعاً ودون أن يبتسم أو تنفرج أساريره ، كعادته حين يمنح لأحدنا مبلغاً صغيراً ، إلا أنه أعطاني مبلغاً من المال أكثر مما استحق ! ؟
وحين يكبر جدي للصلاة تكون الفرصة مؤاتية لمن يريد الهرب ، لأنه ينسى كل من حوله ، فمن نال حاجته ليس مثل من يقعد منتظراً انتهاء صلاته ليشرح له مشكلته ، لأن ما بعد الصلاة ، الدعاء ... متى يكمل ؟ ومتى يلتفت باسماً نحو الواقع ؟ ! .. من الأفضل لك أن تذهب لمشاهدة فيلم ثم العودة إليه ، لكن بعض أحفاده أو أولاده يضطرون لانتظاره ، لا أفهم لماذا كانوا يضيعون أوقاتهم في الانتظار ، دون أن يحملوا معهم أي قفص يحوي طيراً أسيراً .
من غير شك ، كنت محظوظاً حين وجدت العصفور الصغير ، الذي لم يكن يقدر على الطيران أمسكته برفق ، خفت عليه من القطط التي تملأ حارة جدي فصعدت على الشجرة لأضعه في مكان آمن .
لقد فرحت حين فزت بالجائزة ولكن سعادتي كانت أكبر حين أنقذت العصفور الصغير من الهلاك لأن خوفي على الطيور كان موهبة وليس صنعة .
أمرني جدي بالدوام عند الكتاب شيخ عباس , مقرئ القرآن , وكأنني بذلك قد تلقيت جائزة متبوعة بعقوبة , وقد مرت أيام ضيافتي الأولى بسلام , فلم تلامس جلدي خيزرانته الطويلة , وكنت قد شهدت مجموعة من الأطفال ,وبمساعدة من هم أكبر منهم , تشد أرجلهم بحبل , وعندما تلسعهم سوط الخيزرانة , يشرعون بإطلاق توسلات و وعود كاذبة :
- والله هذه آخر مرة شيخ عباس , شيخي , والله في المرة القادمة ..
كنت قد حفظت سور التعويذ والفاتحة , وحين اختبر حفظي ,وجدني مضطربا وخائفا , وعيوني لا تفارق الخيزرانة التي تهتز في يده , مهددة ولا تستقر , وتكرر المشهد , فلم يعد لي عذر عنده , فأنذرني متوعدا هذه المرة :
- لوكان فيلم سينما , أو صيد طيور , لكنت الآن تتكلم مثل البلبل , أما في حفظ سور قصيرة من القرآن العظيم فلا, وغدا إن لم تأتي حافظا , وزاد ني سورة أخرى , فستجلد مثل الآخرين .
لالن أجلد أبدا , ولن أصطاد أي عصفور , كما لن أمر بالقرب من مضافة جدي, أما السينما فقد زاد شوقي إليها , فكل ممنوع مرغوب , ففي السينما ضحك ولعب , إثارة وتشويق , لقد لجأت سياسيا الى جدي الآخر فهو لا يلبس طربوشا أحمرا , كما أنه يبدو ضاحكا باستمرار , وحين لا يعرفني أحد الحراس ويمسك بي وأنا أندس وسط الداخلين ,أقول له واثقا:
-هذه سينما جدي , وحين يراني جدي أسيرا عند الحارس يهتف ضاحكا : يا وال كم مرة شاهدت الفيلم ؟!.
لقد تعلمت الكذب من خيزرانة الكتاب - والله هذه هي المرة الثانية .

**********
الجزائـــــر
( 2 )
كان اليوم الجمعة ، وهدير السيارات لا يكاد يسمع ، بينما شرعت الزهور تتنفس الصعداء ولتطلق باقات من الفتنة ، لتدعوا الغيارى والحساد ليغازلوا جمالها .
للخفوت سحره الآسر ، وفي الصباح ظلال الأشجار الزاهية الاخضرار، وجذوعها المصبوغة بالأبيض ، وأسراب الحمائم البيضاء وزرقة البحر الفسيح ، تجولت كثيراً في حديقة معهد المعلمين حيث أعمل وأسكن في عامي الأول .
سيارة بي جو أوبوجو .. بين الطائر والجوهرة ، مصقولة لماعة حمراء قطعت الحاجز تلألأ ضؤها وأبرق صوتها بدعوة .
- أهلاً بالإمام .
- لست أنا ، ليس في الأمر وراثة , أبى هو إمام المسجد الأقصى .
- أهلاً بفلسطين من النهر إلى البحر .
- هيا معي , لا تضيع الوقت .
- أين ؟
- إلى الصيد . صيد الطيور .
- لا أحب اصطياد الطيور ، غيرِّ المشروع لو سمحت وأنا جاهز .
قال مستغرباً وألقى بوجهي تهمة :
- كأنك تحرم هكذا لوحدك ، ما أحله الله ليس نظرية .
كان يخز رني بنظرة زاجرة ، ولذلك أسرعت مدافعاً .
- لا . لا والله فقط تخيل معي الهدهد مذبوحاً . الهدهد الرمز ، بل روح الأمة تنسفه طلقه ، ما الذي سيحصل عندئذ ٍ . ! !
- هيا . دع عنك الأفكار الغريبة والغربية، لست سوى مدرس رياضيات . أنا مدرس اللغة العربية والشريعة يا صديقي .
قلت له متوسلاً :
- ألن تغضب مني إن أسمعتك رأياً .... مجرد رأي
قله .... خلصني
قلت ببلاهة :
- سبحان الله الذي أحل الطيور وحرم الخنازير .
رماني بنظرة استهجان وقال :
- غريب .... أليست هذه هي الهرطقة أو الزندقة ؟ بل هذا هو الإلحاد بعينه ، حقاً من تمنطق فقد تزندق ...
أحببته ببرود تام :
- لا يا سيدي ، أنا لم أقل شيئاً يمس العناية الإلهية . إلا إن كل شيء يتم باسم الله .
إنَّ للطيور قدسية ... ولست أقصد القدس .
وألحَّ عليَّ بالصعود .
- أعدك أن لا أصطاد سوى الطيور الكبيرة فلحومها لذيذة للغاية ، تذكر ذلك !؟.
اضطررت للذهاب معه لأنه ببساطة أعادني إلى الوراء , فحين كنت ببغداد فقد خرجت ذات مرة , برفقة بعض الأصدقاء , في نزهة ولاصطياد طيور الدراج , والدراجة الجميلة من حجم الدجاجة , ولكنها تطير لمسافات بعيدة ,دون أن ترتفع عن الأرض عاليا , ولها صيحة جذلانة مؤنسة , ولحمها له نكهة طيبة عند شوائه .
انطلقت بنا السيارة نحو الأحراش والبساتين وهناك تعلقت عيوننا على ذرى الأشجار الوافرة الظلال، والمشرئبة عالياً على القمم والوديان ، نحن أبناء للطبيعة لولا الروح العدوانية التي يقصفها صديقي ببندقيته ، كنا نقابل سحر الغابة وموشحات الطيور بهلاهل وزغاريد للموت ، هوس عرس دموي ، ترمى الرؤوس النازفة ويلقى بالأجساد المحمومة في الجعبة وحدث ما كنت أكره أن يحدث
- انظر ما فعلت ! هذا عصفور صغير وهذا الهدهد .... أين العهد الذي قطعته على نفسك ؟
أطلق ضحكة هاربة من أنياب الخطيئة ...
- أقسم أن هذا حدث بالخطأ ... سبحان من لا يخطئ يا صديقي .
حين حملت الهدهد كانت عيناه غائرتان ترتعشان من الألم تموج روحه ونضطرب بشدة بين أصابعي، لاحظ ذهولي وانقضَّ على يدي . انتزع الطائر ، فصل رأسه عن جسمه بسرعة ووقف واثقاً يلقي على درساً في كيفية الإجهاز على الطير حتى نخلصه من الألم والنزيف .
قائلاً – يجب أن لا يتعذب الطائر والسرعة مطلوبة ..
ثم قال مشفقاً علي :
- إنها مسألة تعويد .. هل تخشى رؤية الدماء ؟
قوي قلبك .. في المرة القادمة ستكون أشجع من اليوم .تذكر العشاء اللذيذ ورائحة اللحم المشوي .
حين عدت من الحفلة الصغيرة وآويت إلى فراشي ، تمنيت لو أن تلك الليلة قد حذفت كما تقطع صفحة من كتاب ، لم أتمكن من النوم وكلما أوشكت أن أغفو يبدأ الدم ينزف من صدري دم حقيقي كما نزف الهدهد ، وكانت المسافة بين ضوء شمس النهار وظلمة الليل صارت أطول من ليالي الشتاء , لقد بدا الليل حقاً كأنه مكبل بأمراس متينة ولا يستطيع أحد الفرار منه .
السماء الجرداء ... السماء المتشوقة إلى خفق أجنحة الطيور السماء الجرداء وهي كالصحراء بدون ماء فإلى أين هاجرت الطيور ؟ حتى سفائن الغيم الأبيض لم تعد تمخرُ في عبابها ، ولا موكب فرح تسلى بالنظر إلينا مغرورة من فوق ، وقوافل الجمال التي تهفهف كالأشجار لم يعد يرها أحد تتهادى عبر كثبان الرمال في الصحراء .
إلا السراب وحده السراب ، تهزهز السراب يرقص خليعاً ، هناك عند خط الأفق البعيد تكبر حلقات مرايا الوهم وتستفيض العيون بالدموع وكان الهدهد ينزف من صدره الدم ، ثورة تلو ثورة .
مطلبي عسير والمسعف شحيح نادر , لقد الوقت كان فجرا .
قال سائق السيارة وهو يتمطى من النعاس : – إلى أين أيها الأخ .
قلت – إلى الولي الصالح سيدي عبد الرحمن .
حين دلفت في بهو القبة الخضراء ورأيت الأستار الخضر وشممت البخور وانتشيت في هدوء المكان صرت أقبض شيئاً فشيئاً على خيوط روحي النازفة كالهدهد .
أمام شيخ جليل تلألأ كالفضة ، تحدثت بصوت خافت ، لم أكد انهي حكايتي حتى تهلل وجهه بالابتسام ، أمرني بالاقتراب منه ، وضع يده على صدري فتوقف النزيف .
- لاشيء يا ولدي بإذن الله ،لقد كان زوارك من أولياء الله الصالحين , لقد أنذروك من خطر الدماء التي تسفح من غير داع ، لقد دخلتم إلى أماكن محروسة وهتكتم أستار صمتها ، وبعنف أسلتم الدماء على أرضها وإن في روحك أثراً عميقا ولا أظن أنك ستعود لفعل ذلك أبدا , وهو خير لك , ووحدك المسئول عما تفعل , على بركة الله . ؟
-والله لا أعود لهذا أبداً ، والطائر الحر لا يليق به الأسر, بل وقلت في سري لو جاءني هذه المرة ابن إمام الحرمين الشريفين








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ا?صابة الفنان جلال الذكي في حادث سير


.. العربية ويكند |انطلاق النسخة الأولى من مهرجان نيويورك لأفلام




.. مهرجان كان السينمائي - عن الفيلم -ألماس خام- للمخرجة الفرنسي


.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية




.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي