الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ناجي العلي.. الفكرة لا تموت بكاتم الصوت

أحمد صلاح هاشم

2015 / 8 / 30
الادب والفن


حول من سنتكلم؟!

إذا أردنا وجهًا يختزل فلسطين؛ فأي وجه سيكون فائزًا؟! هل غسان كنفاني الروائي الصحفي والوطني بالتأكيد.. أم فدوى طوقان الشاعرة المؤنثة، والأنثى الشاعرة، أم إدوارد سعيد المثير للجدل حياةً ومماتا.. (صحيح.. من كان يعرف أنه فلسطيني؟!) أم نتكلم عن ناجي العلي؟! لا شك أن الحديث عن ناجي العلي (بين كل هؤلاء العظماء) سيخرج من هذا المضمار منتصرا.. فالرجل الذي كانت حياته ثورة لوحات، وانتفاضة رسوم، وبث الفكرة في جسد اللوحة الميت، صاحب الطبيعة التي تترفع عن الانكفاء وتستنهض حمة رفض التطبيع مع العدو المحتل، هو الرجل نفسه الذي انتهت حياته على نحو مأساوي.. وسبّب مشكلة دبلوماسية بين سلطات الاحتلال والدولة الأولى التي باركت مولد إسرائيل؛ بريطانيا! هذا الرجل هو نفسه الذي صنع عالمين مختلفين؛ حنظلة وفاطمة، شخصيتان من عقله إلى قلمه إلى ورقته إلى العالم كله، مات، فانزويا معه يؤنسانه في ابتعاده القريب.

من أين نبدأ؟
حسنا، أظننا لن نبدأ من البداية، فهي نمطية إلى حد اللامبالاة.. طفل وُلد في قرية السيد المسيح نحو عام 1937، انطبعت السهول الفلسطينية، وغابات الزيتون، رائحة القهوة الصباحية، في عينيه منذ الصغر، وحين بلغ العشر سنوات، حدثت النكبة الكبرى، وكان من نصيبه التهجير إلى مخيم عين الحلوة، حيث قُبض عليه في هذه السن لنشاطات ضد الاحتلال.. حتى في المعتقل لم يترك الرسم على حيطانه.. وما لبث أن خرج حتى أكمل تعليمه، ونال شهادة ميكانيكا السيارات من طرابلس، ثم اتجه إلى الرسوم الكاريكاتيرية.. إلى هنا والأمر طبيعي.. سيكون من الأفضل لو بدأنا من النهاية!

من النهاية نبدأ

في 22 يوليو عام 1987كان ناجي العلي يسير بسيارته يداعب فكرة كاريكاتير جديد، أو مقالة إعصارية، حين اعترض طريقه مسلح، أصابه تحت عينه بطلقة من مسدس (كاتم للصوت)، دخل على أثرها غيبوبة لم يُفِق منها حتى وفاته في 29 أغسطس 1987.. ربما كان من تداعيات هذا الحادث أن أمَرَت رئيسة الوزراء الإسرائيلية آنذاك مارغريت ثاتشر (المرأة الحديدية)، بإغلاق مقر الموساد في بريطانيا!
هو ناجي سليم حسين العلي،كان ضيفا على حياة أودعته سجونها ومعتقلاتها.. أبو خالد صاحب الـ40 ألف رسمة في 18 ألف يوم هي الأيام التي أنفقها سريعا على هذه الأرض.. "حسبة بسيطة" سنعرف منها أنه لم يودِّع يوما من حياته الثرية إلا وفيه رسمتان وأكثر! غزارة إنتاجية لا تعادلها سوى مشاعر الثورة والرفض للتطبيع والتمرد على سلطة الاحتلال الغاشم. إن غزارة الإنتاج هذه كانت مع تدفقها واندفاعها ذات مقاييس فنيَّة وجمالية عظيمة، مما حدا بالاتحاد العالمي لناشري الصحف إلى عده واحدًا من أعظم رسامي الكاريكاتير منذ نهاية القرن الثامن عشر. وفي تقرير لصحيفة "ساهي" اليابانية ذات الصيت الشهير والمصداقية العالية، جعلت ناجي العلي، على رأس أشهر عشرة رسّامين للكاريكاتير في العالم.

ميلاد حنظلة
لم يكن يرسم ليبني تاريخا له.. ولم يُعطِ الريشةَ من روحه لأجل أجرٍ يناله، فماكان هذا يقلقه. لكنه كان يرسم ليعيش في رسومه، ليصرخ داخل أطره، ويبكي حال أمته في برودة أوراق الرسم وصقيع الألوان التي حولها إلى جمرات غضب، جمرات أنجبت (حنظلة) الابن الشرعي لواقع فلسطين المتأزم ذلك الفتى صاحب الملابس المرقَّعة واليدين المتشابكتين خلف ظهره، فيما يشبه وضع "صفا" في الجيوش النظامية، بائس.. كأن البؤس كان أولا وهو ثانٍ، وحين سُئل ناجي عن يدي حنظلة لماذا متشابكتان.. رد بأن هذه الشخصية قد ابتكرها بعد النصر على إسرائيل 1973، وعبَّر فيها عن حال شريحة كبرى من الرافضين لأي شكل من أشكال التطبيع مع إسرائيل؛ فحين كان يصرخ أمل دنقل في مصر (لا تصالح)، كان ناجي العلي من فلسطين يُجاوِبُه بحنظلة.. باثًّا فيه جميع الصور التي ترفض المصالحة حتى تحقق حلم العودة..كان هذا حُلمَه، ولكن القَدَر لم يُعِرْه فرصة ليشهد أحلامه وقد تراصت وخرجت من لونيها الأبيض والأسود إلى تلاوين بعدد رمال شاطئ فلسطين.
كان حنظلة هو الرسمة التي اختارها ناجي العلي شاهدة على جميع رسومه تقريبا. في جانب من الصورة يقف حنظلة يواجهنا بظَهْرِه، كأنه رافض النظر إلينا.. صاحب العشر سنوات إذن يترفع عن النظر في وجوه مطالعيه (بالمناسبة حين سئُل ناجي العلي عن سن حنظلة، أجاب سيظل صاحب العشر سنوات خرج من فلسطين وعنده عشر سنوات وحين يعود إلى فلسطين سيظل ذا عشر سنوات، فقوانين الطبيعة لا تنطبق عليه، مثلما الخروج من الوطن استثناء). يبدو أن حنظلة إلى جانب كونه صورةً للعربي الرافض، أصبح انعكاس الصورة العلي نفسه، الذي خرج هو الآخر من فلسطين طفلا لا يعرف من معاني الوطن سوى ما خلَّفه من ركام، ومن صورة الأهل سوى عيون والدته ووالده الدامعة! ترى هل سماه حنظلة ليعبر عن رسوخه في هذه الأرض (التسمية العربية القديمة)، إلى جانب ما توحي به من تصلُّبٍ، وعدم استعداد للمفاوضة، ورفض الجلوس إلى مائدة حوار حتى تحقيق العودة كاملة ودون مساومة.
ربما هو فنان الكاريكاتير الوحيد الذي قام فيلم باسمه..كان بقلم نادية موسى، وتمثيل المبدع نور الشريف، رصد الفيلم أبعادًا سياسية شملت هجمات عصابات الهاجاناة اليهودية في القرى العربية والاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني، ثم الرمز لأطفال الحجارة.. وكأن حياة ناجي العلي تأبى الانعتاق من قيود الأزمة العربية، حتى في فيلمه الذي صُنِع لأجله فقط!

فاطمة حواء العلي

جاءت فاطمة لتؤنس وحشة حنظلة، حواء آدم الذي انكفأ وحيدا، واهبا نفسه لقضيته، جاءت هي لتكون القضية نفسها، ليرمز بها لوطن معروق أسير ذاته أولا والمحتل ثانيا، غير أن فاطمة كانت تتبادل الأماكن مع نفسها؛ فتارة تكون فلسطين، وتارة تصير عين الحلوة، وأخرى تعبِّر عن لبنان، ومرةً الوطن العربي كاملا، كانت هي المرأة التي تتسع لكل شيء، وتفضي إلى أي شيء.كانت فاطمة تختار الظهور والمواجهة بعينيها الحزينتين الساهرتين الذابلتين،كبقية شمعة في مصباح قديم، وشعرها أسود فاحم ناعم إن هي أرسلته، وإلا فإن حجابها هو الحجاب الفلسطيني التقليدي، ينساب على كتفيها ويغطي جيبها، تُرضع صغيرا أو تحمل كعكا للأسرى المحررين، أو تسكن مرآة، تجادل حنظلة، تتشبث بتلابيب مغترب، تدعو الأمة، حيث لا أمة!
وإذا أردنا أن نخطو خطوة أبعد، ونسمع من ناجي العلي نفسه حقيقة الصراع الذي ينشده، الصراع الذي خطه فيكل نقطة وكل رسمة وكل صورة وكل مناشدة، فإنه من الأجدى في هذه الحال أن نتركه هو نفسه يعبر عنه: "هكذا أفهم الصراع: أن نصلب قاماتنا كالرماح ولا نتعب". هو صراع الصبر والإصرار والصمود، الصمود الحقيقي، أو على حد تعبيره: "أن نكون أو لا نكون.. التحدي قائم والمسؤولية تاريخية".
عجيبة هي الريشة التي زلزلت أقدام الاحتلال، أعجب منها حامل هذه الريشة، الذي رفض أن يختبئ حين كانت رسائل التهديد تنهال عليه تترى.

هل مات؟

لم تنهِ رصاصة الغدر الإسرائيلية حلم العودة، ولا صرخة فاطمة، ولم تأخذ روح ناجي العلي، لقد أخذ روحه قبل الرصاصة الصراع الفلسطيني - الفلسطيني، وتهميش قامة مثل قامة ناجي العلي.. جُلّ ما أسكتته الرصاصة هو صوت حنظلة الهادر، ونست أو تناست أن واقعنا به مليون حنظلة، وأن ناجي العلي ليس فنانا كاريكاتيريا، أو مبدعا أملى عليه حبه للوطن المخاطرة بحياته ذاتها، وهو (فوق كل ذلك) ليس الوطني المنخلع من نفسه المتماهي مع بيئته وحلمه.. ناجي العلي فكرة.. والفكرة لا تموت بكاتم الصوت!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي