الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شخصنةُ الخطابِ الشِّعريِّ، وإنسانيَّةُ النَّصِّ في تجربةِ بسَّام حجّار الشِّعريَّةِ

شريف رزق

2015 / 8 / 31
الادب والفن



تُعدُّ تجربَةُ الشَّاعرِ بسَّام حجَّار(1955- 2009) في طليعَةِ التَّجاربِ الشِّعريَّةِ التي جسَّدَتْ الحُضُورَ الإنسانيَّ والشَّخصَانيَّ في مشهدِ القصيدِ النَّثريِّ العربيِّ على نحوٍ لافتٍ؛ ويكشِفُ خطابُهُ الشِّعريُّ عن حُضُورٍ كثيفٍ للأنا الشِّعريَّةِ الفرديَّةِ البسيطَةِ، النَّازعَةِ إلى الوِحْدَةِ والتَّأمُّلِ والصَّمتِ، في نبرَةٍ شعريَّةٍ خافتةٍ، يلتحِمُ فيها الوعيُ واللاوعيُ، وثمَّةَ إصْغَاءٌ دائمٌ، ويبتعدُ الأداءُ الشِّعريُّ فيها عنْ الانْهِمَاكاتِ في تثويرِ لغَةِ الخِطابِ وهسترتِها، سعيًا إلى أداءٍ شِفاهيٍّ عَصْريٍّ بسيطٍ، يتحرَّرُ فيه الإنسانيُّ منْ طُغيانِ التَّجريْبِ اللغويِّ ومنْ هيمنَةِ الحُضُورِ المَجَازيِّ والأيدلوجيِّ والرَّسوليِّ على إنتاجِ شِعريَّةِ الخِطابِ، وتلتحِمُ في هذا الخِطابِ الحالاتُ الإنسانيَّةُ مع أشيائِهَا الحياتيَّةِ اليوميَّةِ، ونظرًا للتَّشديْدِ على تجربَةِ العُزلَةِ تبدو شِعريَّةُ الغُرْفَةِ على نَحْوٍ وَاضِحٍ، عَبْرَ مُعْجَمِهَا وأشْيَائِهَا.
إنَّ بسَّامَ بحقٍّ هو شاعرُ العُزلةِ بامتيازٍ، شاعرُ الغُرفةِ المُقفلةِ، والإصْغَاءِ إلى أعْماقِهِ، وإلى حِوَارَتِ الأشياءِ، شاعرُ الصَّمتِ والانتظارِ والاسْتبطاناتِ العَمِيقَةِ، والرُّؤى الرِّثائيَّةِ، والأسَى على المَصِيْرِ الإنسَانيِّ الدِّرامِيِّ، يتكشَّفُ في خِطابِهِ الشِّعريِّ - على نحْوٍ واضِحٍ – تذويتُ الخِطابِ الشِّعريِّ، وشَعْرَنَةُ الأشيَاءِ المُحيطَةِ بالذَّاتِ، في الحُجْرَةِ المُنْفَصِلةِ عنْ العَالمِ.
وتتأسَّسُ شِعريَّةُ خِطابِ بسَّام حجَّار على محاورِ مجموعَةٍ منْ الشِّعريَّاتِ المُتجانِسَةِ والمُتآزِرَةِ في عمليَّةِ إنتاجِ الخِطابِ، وتتمثَّلُ هذه الشِّعريَّاتِ فيما يلِي :

- شِعريَّةُ العُزْلةِ، والفَقْدِ، والنَّبرَةِ الخَافتَةِ :
تُسيطِرُ على عوالمِ التَّجربَةِ، على نحْوٍ واضِحٍ، أجْوَاءُ العُزلةِ، والفَقْدِ، والسُّكونِ،عَبْرَ مُعجمٍ تُهيمِنُ فيْه مُفرَدَاتُ: الغِيابِ، والفَقْدِ، والوحْدَةِ، والخسَارَةِ، والمَوْتِ، وتُهيمِنُ عليْه أجْوَاءُ الفنائيَّة، وعلى مِحْورِ الفَقْدِ نجدُ فقْدَ الأختِ والزَّوجَةِ والأبِ والصَّديقةِ، تحيا الذَّاتُ الوَحِيدةُ البسِيطَةُ موتًا، وتتأمَّلُ أحْوَالَهَا وأشْيَاءَهَا، وتتبدَّى عوالمُهَا في أحيانٍ عديدةٍ أطيافًا، ويأتِي التَّعبيرُ عنْ هَذِهِ التَّجربَةِ بنبرَةٍ داخليَّةٍ عميقةٍ تتدفَّقُ في تداعياتٍ محكومَةٍ، ومنْهَا قولُهُ:
" مَاعَدَا الهَوَاءَ
وصَخَبَ الشَّارعِ
كلُّ شيءٍ هُنا.
أنَا والسَّتائرُ والكُرسِيُّ والكئوسُ
حشدٌ منْ المُنصِتينَ
والآخرونَ غَادَرُوا
أوْ ذَهبُوا إلى المَغَاسِلِ
يمسحونَ البقايَا عنْ الخَزَفِ التُّرابيِّ
الَّذي يُشبِهُ وُجُوهَهُمْ
وريثمَا يعودونَ
كلُّ شيءٍ هُنَا.
الثِّيابُ المطويَّةُ في الخَزَانَةِ
والرَّاديو الَّذي يتحدَّثُ كالعَارِفينَ.
مَعَهُمْ أو وَحْدِي
مَعَ الكَرَاسِيِّ والسَّتائرِ والكُئوسِ
والثِّيابِ المُرتَّبةِ بإتقانٍ
والسَّريرِ الَّذي يبعدُ خُطوتينِ
أوْ مِيليْنِ
قبلَ أنْ أصِلَ إليْهِ." (1)
تتنقَّلُ الذَّاتُ الوحيدةُ، في عالمِهَا الخاصِّ، المُغلقِ عليْهَا، ولا تكفُّ عنْ اسْبطاناتِهَا، واسْتبصَاراتِها، واسْتيهاماتِها، وقد تُتابعُ، منْ وراءِ النَّافذةِ، بعضَ مَا يحدثُ في الخَارجِ، شَارِدةً، وغيرَ معنيَّةٍ برَصْدِهِ ولا التَّفاعُلِ مَعَهُ:
" لا أتوقَّفُ عنْ التِّجوالِ بينَ الغُرَفِ والرِّواقِ والمَطْبخِ، جِيئةً وذِهَابًا، ولا يستوقفُنِي في رِحْلتِي بينَ الجُدْرَانِ إلاَّ النَّافذةُ، لهُنيهاتٍ، أُسرِّحُ نظَرِي المُتعَبِ إلى أقْصَى مَا يصِلُ إليه قبلَ أنْ تغشَاهُ دوائرُ سَوْدَاءُ مُتداخلةٌ، وينتابُنِي دُوارٌ خفيفٌ؛ فأستأنِفُ السَّيرَ بينَ الغُرَفِ، ويظنُّ مَنْ يَرَاني أنَّ الضَّجَرَ وقَعْدَتِي في البيْتِ قد أنهكا بُرودَ أعْصَابي"(2)

- شِعريَّةُ الاعترافاتِ الاسْتبطانيَّةِ :
في عُزلةِ الغرفاتِ، تتكشَّفُ تداعياتُ الذَّاتِ بلا قيودٍ، وتجنَحُ النَّبرَةُ الشِّعريَّةُ ، في أحْيانٍ كثيرةٍ، إلى الاعْتِرَافِ المُتدفِّقِ من الأعْمَاقِ حُرًّا؛ تعترِفُ الذَّاتُ لذاتِهَا، والآخَرُونَ غائبونَ، حتَّى وإنْ بَدَوا في الخِطابِ كمُخَاطَبيْنَ، فالذَّاتُ في حقيقَةِ الأمْرِ هُنا أقْرَبُ إلى ذاتِهَا الأُخْرَى الحَمِيمَةِ :
" لمْ أقُلْ
إنَّ الثَّلاثيْنَ عُمْرٌ تافِهٌ،
أنَّ ضَجَرِي منْ الهُوَاةِ وأصْحَابِ المِهَنِ
يفوقُهُ ضَجَرِي مِنْكُمْ،
منْ السَّاعَةِ الَّتي تُرْهِقُ الحَائطَ بالدَّوَرَانِ،

لمْ أقُلْ كَلامًا عَرِيقًا
عنْ المُلوكِ والحُكْمِ
عنْ الشُّعَرَاءِ
والقادَةِ الَّذينَ يدخلونَ في الأعْمَارِ
ولا يَحْدُثُ أنْ تنشقَّ يابسَةٌ،

إنَّ الرَّجُلَ في الثَّلاثيْنَ
طيِّبٌ وتافِهٌ،
بَغْلٌ يتنزَّهُ بحملٍ منْ القشِّ والثِّيابِ
ويدخُلُ في الصُّدَاعِ
والنَّومِ الأبيضِ
والوَظِيفَةِ.

لمْ أقُلْ
إنَّ الشَّخصَ الَّذي يقِفُ في ثِيَابِي
مِثْلَ بابٍ أوْ حَارسٍ
لمْ يَدْفَعْ أعْوَامَهُ
لمْ ينكسِرْ حتَّى الثَّلاثيْنَ عَمْدًا
لمْ يغتسِلْ للمُناسَبَةِ
لمْ يشترِ مِعْطَفًا أوْ قُبَّعَةً
لمْ يفرِدْ ابتسَامَةً عريضَةً
وكفًّا لِمُصَافَحَةِ الوَافِدينَ "(3)

- شِعريَّةُ شَخْصَنَةِ الأشْيَاءِ:
ولأنَّ حَالاتِ الوِحْدَةِ والعُزْلةِ تُسيطِرُ على أجْوَاءِ التَّجربَةِ، تَحْضُرُ أشْيَاءُ الذَّاتِ المُحِيطَةِ بهَا بتفاصِيْلِهَا المَعِيْشَةِ، باعْتبارِهَا كائناتٍ لهَا حيواتٌ تتقاطَعُ مَعَ حياةِ الذَّاتِ الشَّاعِرَةِ الوَحِيدَةِ، وحينَ تبدو الذَّاتُ كالطَّيفِ تبدو حَيَوَاتُ الأشْيَاءِ ووَحْشَتهَا وشِعريَّتهَا :
" حِيْنَ تُغَادِرُهُ
تَتَقَارَبُ جُدْرَانُهُ
البَيْتُ الَّذي
- مُوْحِشًا-
يجِدُ رُوحَهُ في الزَّاويَةِ

لمْ يعُدْ يَرَاكَ الآنَ
البيتُ الَّذي يتجمَّعُ في المَدَاخِلِ المُقْفِرَةِ لرُوحِهِ
كأنَّهُ في صَمْتِ البَاقِيْنَ هُناكَ
يُطرِقُ ويُصْغِي لِصَدَىً
منْ خُطُوَاتِ البَارِحَةِ
منْ الضَّحِكِ أوْ الهَمْسِ في رُدُهَاتِ الجُلوسِ
والنَّومِ

في المَطْبَخِ
على الرُّفوفِ والمَائِدَةِ

في القُلوبِ النَّاصِعَةِ لزُجَاجَاتِ المِيَاهِ والكُونياكِ

كأنَّ البيتَ هُوَ الَّذي يُغَادِرُنا حِيْنَ نَرْحَلُ
تترجَّلُ البَرَاويزُ والرُّفوفُ عنْ جُدْرَانِهِ
وتُغَادِرُ الأوَانِي
والأثَاثُ
ويُغادِرُهُ اللونُ
فيمَا تظلُّ السَّتائِرُ مُسْدَلةً على سِرِّهِ
كالعَاشِقَاتِ "(4)

- شِعريَّةُ التَّشيُّؤِ، وشِعريَّةُ الظِّلالِ :
تتخِذُ علاقةُ الذَّاتِ الشَّاعِرَةِ هُنَا، بأشيائِهَا، شَكْلَ التَّماهِي في الأشْياءِ؛ فتحضُرُ الأشياءُ حُضورًا مَعِيْشِيًّا وَفِيْرًا، وتتحوَّلُ الذَّاتُ إلى أشْياءَ أو أجْزَاء في الأشياءِ، وفي شِعريَّةِ الظِّلالِ يُصْبِحُ الوجودُ مُجرَّدَ طيْفٍ أوْ وَعْيٍ ، وتُصْبِحُ الذَّاتُ ظِلاًّ لذاتِهَا الأُخْرَى ،وينفتحُ الأداءُ الشِّعريُّ هنا بشكلٍ واضِحٍ على طاقاتِ السَّردِ الشِّعريَّةِ، وعلى شِعريَّةِ الحِكايَةِ، كمَا في نصِّ: حِكايَة الرَّجُلِ الَّذي صَارَ ظِلاًّ؛ الَّذي مِنْهُ :
" مَا كُنْتُ مُنذُ البدايَةِ هَكَذَا، أقصِدُ لمْ يخلقْنِي اللهُ هَكَذَا، وَحِيدًا ومَتروكًا لِلْحَيْرَةِ إذْ لا أجِدُ مَنْ يَصْحَبُنِي وأكونُ ظِلَّهُ، ولكنْ ليتنِي أذْكُرُ بالدِّقةِ الَّتي تتوخُّونَ كيْفَ جَرَى لي ذَلكَ فأصْبَحْتُ مَا أنَا عليْهِ الآنَ ، أوْ مُنذُ بعض الوَقْتِ.
أجدُنِي لا أقْوَى على الحَرَكةِ، مُقيمًا سَويَّةَ البلاطِ لا أبْرَحُ . ومَا يدورُ عليَّ مِنْ مَوَاقيْتَ يُبدِّلُ منْ أحْوَالِي وهيئتِي، فلِي مَعَ تبدُّلاتِ الإضَاءَةِ بيْنَ مَوَاقيْتِ النَّهارِ والليْلِ قَِصَصٌ أعْجَبُ منْ أنْ تُرْوَى هُنَا، ولا يتَّسِعُ لهَا مُصَنَّفُ كامِلٌ منْ تُرَّهَاتِ بورخيسَ، فالصَّبَاحُ يجعلُنِي مُنْبَسِطًا على سَويَّةِ الأرْضِيَّةِ المُلَمَّعَةِ، والظَّهيرَةُ تُلْصِقُنِي بالأشْيَاءِ العَمُوديَّةِ الوَاقِفَةِ ولا تتعَبُ، ثم تتدرَّجُ بيَ الحَالُ إلى اسْتِطَالةٍ تُشوِّهُ قوامِي الطَّيفِيَّ حتَّى يَكْسِرُني الغُرُوبُ بانْعِكاسِهِ الشَّفقِيِّ إلى نِصْفينِ؛ نِصْفٍ منْ أسْفَلِ الرُّكبَةِ إلى القَدَمَيْنِ والنِّصفِ الآخَرِ منْ أسْفَلِ الرُّكبَةِ أيضًا إلى هَامَتِي، فأقِفُ بانْحِرَافٍ ظاهِرٍ على جِدَارِ ولا شَيءَ يَسْنِدُنِي، إلى أنْ يَحِلَّ الظَّلامُ فيُذِيبُنِي في كنَفِهِ كأنَّنِي قَطَرَاتُ حِبْرٍ أوْ مَاءٌ تمتصُّهُ مِمْحَاةٌ غَرِيبَةٌ لا قوَامَ لهَا، بلَى، مَا أخْطَأتُمْ الحُسْبَانَ؛ فمَا أتحدَّثُ إليكُمْ عنْهُ هُوَ الظِّلُ الَّذي صِرْتُهُ مُنذُ بَعْضِ الوَقْتِ؛ لِذَلكَ يَصْعُبُ أنْ يُبْصِرَنِي أحَدُكُمْ في الليْلِ أوْ في عتمَةِ المَكَانِ .. ذاتَ يَوْمٍ ألفيتُنِي وَحِيْدًا، كَانَ الوَقْتُ مَسَاءً والظُّلمَةُ حَالِكَةً فلا يُبْصِرُ صَاحِبِي إصْبَعَهُ حتَّى لو ألصَقَهَا بعينِهِ الحَاذِقَةِ، كَانَ مُسْتلقِيًا على الكَنَبَةِ في ثيابِهِ المُعْتادَةِ وكَانَ يجْهَشُ في البُكَاءِ، يَشْرَبُ كأسًا تِلْوَ الأُخْرَى، ويُشْعِلُ سِيكَارَةً تِلوَ الأُخْرَى، ويَجْهَشُ في البُكاَءِ، وكانَتْ الظُّلمَةُ قدْ أذابتْنِي في كَنَفِهَا وَامْتَصَّتنِي، لكنَّنِي، في هَيْئتِي السَّائلَةِ، كُنْتُ أُقْعِي عِنْدَ قدميْهِ لا أُغادِرُ، أُشْبِهُ صَاحِبِي في كلِّ شَيءٍ، أقصِدُ مَاعَدَا التَّشوُّه الَّذي يُسبِّبُهُ لي تبدُّلُ الضَّوءِ؛ فيُقزِّمُني أوْ يمُطُّني لكِي أبدوَ دَمِيمًا، أُشْبِهُ صَاحِبي إذًا في كلِّ شَيءٍ، ولكنَّني مَا سَلكْتُ نِعْمَةَ البُكاءِ أوْ عرفتُهَا منْ قبْلُ، وعلى الرَّغمِ منْ وَفَائِي لِصَاحِبي مَا تمكَّنْتُ يومًا منْ مُجَاراتِهِ أوْ إبْدَاءِ التَّعاطُفِ بدَمْعَةٍ أذْرِفُهَا حتَّى ظننْتُ يومًا أنَّني منْ الغِلْظَةِ والفَظَاظَةِ مَا يفوقُ الوَصْفَ، كانَ صَاحِبي يجْهَشُ في البُكاءِ، ثمَّ غَادَرَني، سَمِعْتُ دَويًّا أوْ رُبَّمَا جَلَبَةَ ارْتِطَامٍ هَائلةٍ، لَسْتُ أدْرِي ، وفي اليَوْمِ التَّالي وَجَدْتُنِي هُنَا وَحْدِي ، وفي اليَوْمِ الثَّالثِ أيضًا ، وفي الأيَّامِ الَّتي أعْقَبَتْ ذَلكَ اليَوْمَ ، بِتُّ وَحِيْدًا لا قُدْرَةَ لي على الحِرَاكِ منْ مَكَاني، زوجَةُ صَاحِبِي وابنتُهُ لا تُعِيْرَانِ انتباهًا إلى الدُّكنَةِ الطَّفيفَةِ الَّتي تُبَقِّعُ البَلاطَ ومَوْضِعًا وَاطِئًا منْ الجِدَارِ، وذاتَ يَوْمٍ، جَاءَتْ الزَّوجَةُ بالمِمْسَحَةِ وعِدَّةِ التَّنظيفِ، وحَاولَتْ أنْ تَمْسَحَنِي بكلِّ مَا أُوتيتَ منْ قوَّةٍ وعَصَبيَّةٍ ولمْ يُمْحَ منْ هَيْئتِي شَيءٌ، فحَسِبْتْ أنَّني مُجَرَّد بقعَةٍ منْ الرُّطوبَةِ تسرَّبَتْ منْ أسْفَلِ الحَائطِ إلى البَلاطِ، وكَفَّتْ عنْ المُحَاوَلةِ "(5)
وضِمْنَ الحُضُورِ في شِعريَّةِ الأشْيَاءِ، وتَرْكِ البَصَمَاتِ النَّابضَةِ المُلتحِمَةِ فيْهَا، تتأمَّلُ الذَّاتُ هذِهِ الأشْيَاءَ، وتسْتَشْعِرُ فناءَهَا وبقاءَ الأشْيَاءِ منْ بعدِها؛ تتأمَّلُ البَابَ وتُناجِيْهِ، مُناجَاةً تتكشَّفُ فيْهَا شِعريَّةُ الفَقْدِ:
" سَوْفَ تَحْيَا منْ بَعْدِي.
وسَوْفَ تسألُكَ الأيدِي، برِقَّةِ الأيدِي وأنَّاتِهَا، عنْ الرُّجُلِ الَّذي أغْوَتْهُ فَرَاشَةُ العُزْلاتِ، في الدَّاخِلِ، وأغْوَاهُ الصَّمتُ الَّذي هو عبارةُ الغِيَابِ، والتَّنفُّسُ الأعْمَقُ لرُوحِ الأمْكِنَةِ الشَّاغِرَةِ.
سَوْفَ تَحْيَا منْ بَعْدِي.
وسَوْفَ تَسْألُكَ عيونُ العَابرِيْنَ، برِقَّةِ العيونِ وحيرتِهَا، عنْ الرُّجُلِ الَّذي كانَ هُنَا لا يَزَالُ، قبْلَ أنْ تهتدِيَ إليْهِ أطْيَافُ العَابرِيْنَ وتَصْحَبُهْ، في مَوْكِبِ الصَّمتِ، إلى المَكَانِ البَعِيْدِ.
سَوْفَ تحيَا منْ بعدِي. والقُبَّعَةُ العَتيقَةُ، وفروها المُسِنُّ والمِعْطَفُ الَّذي لا يَزَالُ يكنزُ رَائِحَةَ الشِّتاءِ، لنْ تحْمِلَ عَصَاهُ بعْدَ اليَوْمِ ، ولا سُتْرَتَهُ المُتْعَبَةَ، وسَوْفَ تقِفُ في الرُّكنِ بيْنَ العَتَبَةِ وبَابِ الرُّدْهَةِ، ولنْ يأتِيَ زُوَّارُ الليْلِ، ولنْ يأتِيَ زُوَّارُ الصَّبَاحِ، ولنْ يَنْتبِهَ أحَدٌ إلى عِنَادِكَ البُنيِّ الدَّاكِنِ، إلى حُضُورِكَ النَّحيلِ الَّذي يُضَاعِفُ الشُّعورَ منْ حَوْلِكَ."(6)

- شِعريَّةُ الصَّمْتِ :
ثمَّةَ جُنوحٌ وَاضِحٌ إلى اسْتِثمَارِ شِعريَّةِ الصَّمتِ، بتعبيراتِهَا الدَّالةِ، وكَذَا شِعريَّةِ العَتمَةِ والسُّكونِ، وفي هذِهِ الشِّعريَّةِ يتبدَّى فِعْلُ الإصْغَاءِ والتَّأمُّلِ، ومعه تتبدَّى آليَّاتٌ شِعريَّةٌ بَصَرَيَّةٌ في إنتاجِ الدّلالاتِ الشِّعريَّةِ، ومنْهَا المَشْهَديَّةُ، وقد يُبنَى النَّصُّ فيْهَا على طريقَةِ بناءِ اللوحَةِ في فنِّ التَّصويْرِ، كمَا في هذا النَّصِّ:
" كانُوا سَاهِمِيْنَ
يُحدِّقونَ في الفَرَاغِ الَّذي أمَامَهُمْ
على العَتَبَةِ
تجلِسُ ظِلالٌ لَهُمْ
فِتْيَةٌ
كأنَّها أشْبَاحُ عُمْرٍ سَابقٍ."(7)
كما تتبدَّى تقنيَةُ الطَّبيعَةِ الصَّامِتَةِ؛ حَيْثُ تَتَجَاورُ الأشْيَاءِ، ومنْ عِلاقاتِهَا تتفجَّرُ شِعريَّةُ المَشْهَدِ:
" كُرْسِيُّ الخَيْزُرَانِ
مُسْتقِيْمُ الظَّهرِ
قُرْب اليَاسَمِينَةِ على الشُّرفَةِ
أوْ بجوارِ البَابِ في الصَّالةِ
على مَبْعَدَةٍ
منْ الجَالِسِيْنَ كُثرًا وغُُُُُُُُُُُيَّبًا."(8)

" حَقيبَةُ جِلْدٍ
فيْهَا أوْرَاقٌ وأقلامٌ
وحُبُوبُ سُكَّرِ النَّباتِ
وعُلْبَةُ دَوَاءٍ
ورَبْطَةُ عُنُقٍ
وصُورَةُ أشْخَاصٍ قُدَامَى
ليْسَ وَاحِدًا مِنْهُمْ."(9)
على مَحَاورِ هذِهِ الشِّعريَّاتِ، تتأسَّسُ شعريَّةُ بسَّام حجَّار، وتُؤسِّسُ خِطَابَهَا الشِّعريَّ الخاصَّ، بنبرتِها الشِّعريَّةِ الخاصَّةِ؛ الخفيضَةِ والكثيفَةِ، واستبطاناتِها أغْوَارَ الأعْمَاقِ، والتحامِها مَعَ تدفُّقِ مَوْجَاتِ البواطِنِ، ورَهَافتِهَا الإنسانيَّةِ، ووَفْرَةِ حُضُورِهَا الشَّخصَانيِّ، مُشَدِّدةً على شَخْصَنَةِ الخِطَابِ الشِّعريِّ، وعلى التَّركيزِ على مَا هُوَ خاصٌّ ومَعِيشٌ، وعلى تجربَةِ العُزْلَةِ والفَقْدِ، وعلى التشيؤ، وعلى اليوميِّ، وعلى الانفتاحِ على عَوَالِمِ السَّردِ وفنِّ التَّصويْرِ .
وفي النِّهايَةِ فإنَّ تجربَةَ بسَّامٍ الشِّعريَّة، ترجمَةٌ أمينةٌ لتجربتِهِ الحياتيَّةِ الإنسانيَّةِ؛ الَّتي ظلَّتْ تهجسُ بالمَوْتِ، وتعيشُ اقترابَهُ منْهَا، بانتزَاعِ أحبَّائِهِ، حتَّى أتاهُ في النِّهايَةِ، وهو جالسٌ في عُزلتِهِ ينتظِرُ، وقد فاضَ بهِ الضَّجَرُ والأسَى .


الهوامش
(1) بسَّام حجَّار - سَوف تبقى من بَعْدي - الطَّبعة الثَّانية - الهيئة العامَّة لقصور الثَّقافة - 2007 - ص ص : 38- 39 .
(2) بسَّام حجَّار - حكاية الرَّجُل الَّذي أحبَّ الكناري – دار الجديد - لبنان - 1996- ص 21 .
(3) بسَّام حجَّار – سَوف تبقى من بَعْدِي – سَابق - ص ص: 19-21 .
(4) السَّابق - ص ص: 91- 92 .
(5) السَّابق - ص ص: 211- 212 .
(6) السَّابق - ص ص: 234- 235 .
(7) السَّابق - ص: 69 .
(8) بسَّام حجَّار- بضعةُ أشياء – دار الجمل - كولونيا ، ألمانيا - ص: 60 .
(9) السَّابق - ص: 59 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت


.. عاجل.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة غداً




.. سكرين شوت | إنتاج العربية| الذكاء الاصطناعي يهدد التراث المو


.. في عيد ميلاد عادل إمام الـ 84 فيلم -زهايمر- يعود إلى دور الس




.. مفاجآت في محاكمة ترمب بقضية شراء صمت الممثلة السابقة ستورمي