الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لماذا لا يجب تقسيم العراق؟

أحمد القاسمي
(Ahmed Alqassimi)

2015 / 9 / 1
مواضيع وابحاث سياسية



سيثير عنوان هذا المقال غضب واستهجان الذين يعتقدون أن استمرار وحدة العراق من البديهيات، إلا أن المسألة أكبر من مجرد إيمان مسبق. فوحدة العراق معرّضة لخطر حقيقي حاليا ولا يمكن مجابهة هذا الخطر بالتغاضي عن وجوده، بل بتبيان أن بقاء العراق بحدوده الحالية مسألة تصب في مصلحة كل الجماعات السكانية التي تشكل بمجموعها العراق الحديث. فالشعب العراقي ليس مسؤولا عن الأزمات التي ألمّت بالعراق طيلة العقود الماضية، كما سأسعى للتوضيح في هذا المقال. إن تجزئة العراق، إن حدثت، لن تكون مجرد إعادة رسم لحدود سياسية حديثة نشأت مع اتفاقية سايكس بيكو، بل إن تداعياتها ستكون مقدمة لحروب طائفية وفتنة ستستمر طويلا، ليس في العراق فقط، في بلدان أخرى قريبة في غرب آسيا والتي يُطلق عليها الغربيون، بتعجرف جغرافي، الشرق الأوسط.
رغم كل الانتقادات التي تُوجَّه لاتفاقية سايكس ـ بيكو، إلا أنها أدّت في الحالة العراقية إلى توحيد ثلاث ولايات عثمانية كانت مقسمة وضعيفة ودمجها في وحدة سياسية لبلد غني بموارده البشرية ورمزية تاريخه المجيد، سواء في عصور ما قبل التاريخ الميلادي أو العصور الإسلامية. البلد الذي نشأ عنها لديه منفذ بحري وفيه ثروة نفطية وزراعية، لأمة عراقية تمتاز بتنوع ثقافي وإثني كان يمكن أن يتحوّل إلى مصدر قوة وانفتاح وحداثة وقناعة سياسية مبكرة بضرورة اعتماد نظام الدولة المدنية الديمقراطية.
إن مرد كثير من الانتقادات الموجّهَة إلى سايكس بيكو هو كونها تجزيئية أخلّت بوعود قطعتها بريطانيا للشريف حسين بن علي أثناء الثورة العربية الكبرى ضد الأتراك العثمانيين. تلك الانتقادات وجيهة وفي محلها، إلا أنها تتغاضى عن أن الكيانات السياسية الجديدة التي ظهرت من خلال اتفاقية سايكس بيكو ـ وهي بالطبع مختلفة عن وعد بلفور الإجرامي ـ كبديل عن الاتفاق بين الشريف بن علي والبريطانيين لم ترسم كل خرائط البلدان الجديدة بعجالة واعتباطية. لقد ظهرت من خلالها بعض البلدان التي كانت تتوفر على كثير من شروط النجاح والاستمرار. رسم حدود البلدان بالنهاية لا يمكن أن يخلو من التعسّف، فلا يوجد بلد في العالم يمتلك حدودا طبيعية منذ الأزل. المعيار الأهم هو قدرة المكوّنات البشرية لبلد ما على الاستمرار بالالتزام بصيغة عقد اجتماعي يحفظ لها حقوقها وينظّم شؤونها ويوفر لها سبل عيش كريم.
إن الدولة العربية المزعومة في الشرق والتي تم الاتفاق عليها بين بريطانيا والشريف حسين ما كان لها أن تستمر، لأنها كانت ستصبح دولة شاسعة المساحة دون هوية واضحة ولا قدرة تنظيمية مناسبة. فإذا كانت البلدان "القطرية" الصغيرة ذاتها واجهت ولا زالت تواجه صعوبات جمّة في لم شمل مواطنيها وتوفير خدمات أساسية في قطاعات الصحة أو الكهرباء أو مياه الشرب الصالحة، رغم صغر مساحاتها الجغرافية نسبيا، فكيف يمكن تصور نجاح دولة سياسية عربية كانت ستشمل أغلب البلدان المشرقية اليوم. ومع ذلك فلا بد من التذكير بأن الوجه القبيح لاتفاقية سايكس بيكو كان تقسيم سوريا الطبيعية إلى عدة بلدان، ودعم البريطانيين اللاحق لتأسيس مملكة ما مؤسسة على ثقافة الكره والتكفير وتصديرهما، لكن تلك قصة أخرى.
تأسيس العراق الحديث لم يعنِ إقامة رابطة توحيدية تحت ظل دولة واحدة بين الولايات الثلاث فقط، بل إنه أتاح الفرصة لأول مرة لسكان تلك الولايات الثلاث للاختلاط فيما بينهم. لقد مثّل التأسيس قطعا مع حالة التواصل الاضطراري الذي كان مقتصراً على العلاقات الاقتصادية البدائية، ونهاية حياة الانعزال بين المكونات السكانية المختلفة، سواء بين المدن العراقية المختلفة أو فيما بين السكان داخل المدينة الواحدة. لقد كان تأسيسا ولد فيه شعور قومي جامع جديد في دولة حديثة أضعف تدريجيا وبشكل مضطرد الانتماءات العشائرية أو الطائفية أو الدينية أو الإثنية، وأحلّ محلها مفهوم المواطنة والولاء لدولة حديثة.
مقابل ذلك الكسب كان على أبناء تلك المناطق تحمّل خسارة تمثّلت بالضعف الذي دبّ في الصلات والامتدادات العشائرية للمكونات العراقية مع مكونات عشائرية أو إثنية شبيهة أصبحت خارج حدود العراق. فلقد أسهم تأسيس العراق للقضاء على العلاقات العشائرية والاقتصادية التي كانت تربط العشائر العربية في محافظات البصرة والعمارة والناصرية مع عربستان إيران، كما أدى للقضاء على العلاقات العشائرية والعلاقات الاقتصادية لسكان محافظتي الموصل والرمادي مع سكان منطقة البادية السورية. أما الأكراد فوجدوا أنفسهم يبتعدون عن أكراد تركيا الأتاتوركية ثقافيا ولغويا. حتى التركمان بدأوا بتعريف أنفسهم بكونهم عراقيين، ولم تعد تركيا بالنسبة لهم إلا ذكرى تاريخية أصبحت جزءا من الماضي التليد.
وهنا يطرح سؤال أسباب فشل الدولة العراقية الحديثة نفسه. وبالطبع لا يمكن لمقال صغير المساحة أن يطمح بإيراد إجابة وافية عن مثل هذا السؤال، إلا أن من المهم الإشارة إلى أن النخب السياسية التي تعاقبت على حكم العراق الحديث كانت السبب الرئيسي في إفشال مشروع بناء دولة حديثة توفّرت لها أسباب نجاح عديدة. فرغم تفشي الأمية والفقر وسيادة العقليات المتعصبة في العراق آنذاك، إلا أن المكونات السكانية العراقية تأقلمت وتحمست بسرعة لنموذج دولة مدنية، وذلك بعد انهيار مفهوم الأمة الإسلامية الذي كانت الدولة العثمانية تدعي تمثليه. فالدولة العثمانية لم تكن النموذج الذي افقتد العراقيون غيابه بعد تأسيس العراق الحديث، بل تم اعتبارها، عن حق، قوة أجنبية غازية مسؤولة عن بقاء العراق متخلفا. وكان الأمل كبيرا في أن يجلب تأسيس الدولة العراقية الحديثة معه وسائل أفضل لتحسين حياة السكان في ظل نظام حكم سياسي من طراز جديد. إن نظرة على المطالب الشعبية والحزبية المعارضة وعلى الصحافة في العراق بعد التأسيس ستوضح بجلاء أن خطابات تلك الحقبة كانت تطالب بالعدالة الاجتماعية وبالقضاء على الفقر والأمية وتوفير فرص العمل وإنهاء النفوذ البريطاني الذي ظلّ قائما في الخفاء.
لقد حقق الشعب العراقي اختراقات هائلة تجاوزت خلال فترة زمنية قصيرة كل الانغلاقات التي كانت موجودة قبل تأسيس الدولة العراقية الحديثة. فالزواجات المختلطة، سواء بين الشيعة والسنة أو الكرد والعرب أو بين العشائر المختلفة، وظهور الأحياء السكنية المختلطة في بغداد وكثير من المحافظات، والتي لم تكن موجودة قبل تأسيس العراق الحديث، لم تعد تثير استغراب أحد بعد عام 1921. لقد أصبحت الهوية العراقية أول ما يتبادر لأذهان العراقيين عندما يفكرون بهويتهم، وتراجعت أهمية الهويات الفرعية لدرجة أصبح الحديث عنها خلال بعض المراحل من المحرمات أو الأشياء التي ينبغي للمرء الترفع عن التطرّق إليها. مظاهر الإيمان بالدولة العراقية الحديثة والتماهي معها هذه لا تعني أن الهويات الفرعية الطائفية والإثنية والدينية لم تعد موجودة بعد تأسيس العراق، بل تعني أن هناك تغييرا ثقافيا كبيرا حصل في عقليات الناس وتصوراتهم لإيجاد أفضل الوسائل للتعامل معها. فقد اختفت عقليات الغلبة وحكم الأقوى والاستنجاد بالعشيرة والطائفة والإثنية تدرجيا وحلّت محلها مطالب تستند إلى العدالة وحق المواطن أو ضرورة إشراك ممثلين عن جميع العراقيين في الدولة العراقية بصورة عادلة. لا ضير في بلد ديمقراطي من المطالبة بزيادة تمثيل فئة ما أو أتباع ديانة ما أو اقتراح شكل ما للحكم يحافظ على خصوصية إثنية ما. مثل هذه المطالبات ما زالت موجودة حتى الآن في بلدان ديمقراطية عريقة مثل بريطانيا والولايات المتحدة وألمانيا.
إن الدعوات إلى تقسيم العراق إذاً تستند فقط إلى فشل النخبة السياسية الحالية، ولا تعني فشل تجربة العيش المشترك بين العراقيين. بالتأكيد لا يمكن إغفال دور الإرهاب الدولي ودور التنظيمات التكفيرية، وكذلك المليشيات التي تواجهها، في وضع وحدة العراق موضع التساؤل. إلا أن مسؤولية التصدي لتلك المنظمات التكفيرية وتجريدها من كل حججها لتبرير وجودها، ثم فرض احترام قانون حصر السلاح بيد الدولة عن طريق بناء جيش عراقي وطني قوي لإسقاط حجج المليشيات لحمل السلاح، هي من صميم واجبات الدولة الناجحة. بنية الدولة العراقية هي التي تحتاج إلى إصلاح، لتكون قادرة على مواجهة التحديات الإرهابية التي تواجه العراق.
إن قيم التسامح داخل مجتمع ما ليست خصالا "طبيعية فطرية"، بل هي نتاج لتربية ثقافية وتفهّم وإحساس عميق بالعدالة والتعاطف مع الآخرين وإدارك أن الاختلافات لا مفر منها في أي تجمع بشري. وليس من قبيل التغني بالشعارات القول إن الشعب العراقي يتصف بالتسامح. أن نوع التسامح الموجود في العراق هو نتاج لخبرة حياتية قديمة اعتاد معها الشعب العراقي على وجود آخرين مختلفين، لذا كان من السهل إقناعه بالتعددية واحترام الاختلاف والقبول بعقد اجتماعي جديد. وهنا كان ينبغي على الدولة العراقية أن تستثمر في هذه العقلية المتسامحة وترعاها لخلق هوية عراقية جامعة صلبة. إلا أن الحكومات العراقية المتعاقبة الطامحة إلى الاحتفاظ بالسلطة بأي ثمن لجأت بدلا من ذلك لإحياء الهويات الفرعية سواء بطريقة مستترة من خلال الاعتماد على الأقرباء والعشيرة أو أعضاء الحزب، كما جرى في عهدي عبد السلام عارف وصدام حسين، أو مباشرة كما جرى في نظام المحاصصة بعد عام 2003 الذي حوّل الانتخابات إلى بازار يعرض الوعود أو أي شيء يراه مفيدا لتحقيق مسعاه في الحصول على أصوات الناخبين.
لا شك أن تجارب العراق الحديث في بناء نظام دولة ناجح قد باءت بالفشل حتى الآن. لقد أثبتت تجربة المئة عام من عمر الدولة العراقية أن الاعتماد على القوى الأجنبية أو فرض أنظمة القمع، كما كانت قائمة في العهد الملكي بعد وفاة الملك فيصل الأول، أو العهد الجمهوري حتى إسقاط نظام صدام حسين، لن تخلق إلا استقرارا زائفا سيؤدي إلى انفجار لاحق بكل تأكيد. أما بث الفرقة بين أبناء الشعب الواحد وتصنيف المواطنين العراقيين بحسب انتماءاتهم الموروثة أو المبالغة في التركيز على دور الاختلافات الإثنية لتحقيق مطامح عائلية عشائرية، حتى لو أدى ذلك لرهن مصير مكوّن ما بيد إمبراطورية احتلال سابقة، فلن يعود بالنفع على أحد في النهاية، كما أنه لن يؤدي إلا إلى زرع الحقد في النفوس وتفكّيك عرى المجتمع العراقي وإلى التضحية المجانية بأرواح البشر وهدر موارد البلد وإمكانياته. التحدي الآن إذاً هو وضع أسس دولة جديدة مدنية ديمقراطية، ليس فقط لقناعة نظرية بجدواها، بل لأن فرص نجاحها الواقعية في العراق كبيرة. تجارب العراق في بناء الدولة المتحيزة نخبويا أو طائفيا أو إثنيا لم تجلب سوى الحروب العبثية ومشاريع فاشلة لاستعراض القوة آذت الإنسان العراقي ماديا، بأن سلبت حياته وممتلكاته، وشوّهت روحه. إننا اليوم حينما نتأمل نماذج الدولة العراقية التي اتبعناها حتى الآن نرى أن الجميع خرج خاسرا. لم يستفد أي مكون عراقي تم أو يتم الحكم باسمه، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، لكن العزاء هو أن أنظمة الحكم في العراق لم تكن نتيجة لاختيار الشعب العراقي ولم تمثّله حقا، بل أنها كانت مفروضة عليه على الدوام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تهدد بحرب واسعة في لبنان وحزب الله يصر على مواصلة ال


.. المنطقة الآمنة لنازحي رفح | #غرفة_الأخبار




.. وثيقة تكشف تفاصيل مقتل الناشطة الإيرانية نيكا شكارامي عام 20


.. تقرير إسباني: سحب الدبابة -أبرامز- من المعارك بسبب مخاوف من




.. السعودية تسعى للتوصل لاتفاقيات شراكة أمنية مع الولايات المتح