الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شيلادزى

امين يونس

2015 / 9 / 5
الادب والفن


قرية " شيلا دزى " الكائنة في سهل الزاب الكبير ، تبعد حوالي 35 كم عن مركز مدينة العُمادية ... ويستطيع المرء الوصول إليها اليوم ، عبر الشارع المُبلَط ، بأقَل من أربعين دقيقة .. ولكن في كانون الثاني من عام 1976 ... حينَ ذهبنا ، أنا المُعاوِن الطُبي وبمعيتي المُضَمِد " حسين المراياتي " ، من مُستشفى العُمادية ، مُتوجهين الى قرية شيلادزى ، في إيفادٍ لِمُدة أربعة أيام ، فأننا إمتطينا حصانَين ، كان قد جلبهما ، مُختار القرية ، وحصانٌ آخَر ، إمتطاهُ هو مع حقيبةٍ تحتوي على العقاقير والأبُر والضمادات .
ولكي أكون أكثرَ دِقةً ، فأن شيلادزى الحالية ، الكائنة على طَرَفي الشارع ، هي المُجّمَع الجديد ، الذي أُنشأ في بداية الثمانينيات .. في حين ان القرية التي ذهبنا في إيفادٍ إليها في شتاء 1976 ، هي شيلادزى الأصلية القديمة .
لم أكنْ قد ركبتُ على ظهرِ حصان سابقاً .. وبعد ان ساعدني المُختار وبّينَ لي الطريقةَ المُثلى ، للجلوس على السِرج .. تحركتْ قافلتنا الصغيرة بإتجاه ديره لوك ، التي وصلنا إليها عصراً ، ونُمنا في منزل أحد معارف المُختار .
في بداية رحلتنا ، أتذكرُ ان المُختار ، ذكرَ لي شيئاً عن الإسلوب الصحيح ، لوضع القدمين أثناء سَير الحصان .. لكنني لم أستوعِب ماقال أو لم أفهمهُ .. فكانتْ ساقاي تتدليان على الطرفين ، وتهتزان مع حركة الحصان .. وفي الليل ، في ديره لوك الكائنة بين العمادية وشيلادزى ، بدأت ساقاي تُؤلمانني .. وعندما أخبرتُ المُختار ، قال : ألم أقُل لك يادكتور ، أن تضع قدمَيك في المكان المُخّصَص لهما ؟ .. ان الدكتور حسين ، يعرف ذلك جيداً ، أليسَ كذلك ؟ .. هّزَ حسين المراياتي رأسهُ مُوافقاً وهو يبتسمُ بِخُبث !.
طبعاً بالنسبةِ الى معظم أهالي القُرى ، ولا سيما في المناطِق الجبلية النائية ، فأن المعاون الطبي هو دكتور ، والمُضَمِد أيضاً دكتور ، بل وحتى العاملين في المُستشفى ، يُخاطَبون أحياناً بالدكتور ! .
في الصباح الباكِر .. بعد أن تناوَلنا فطوراً دسماً ، نهض المُختار قائلاً :
- يا دكتور .. لاحظتُ أنكَ كُنتَ مُتعَباً ليلة أمس ، ولم تُصّلي معنا صلاة العشاء .. هيا لنُصّلي صلاة الفجر .
قاطعهُ حسين المراياتي :
- دعهُ يامُختار .. فأن الدكتور لايُصّلي ! .
قالَ المُختار مُستغرِباً :
- كيف ذلك يادكتور ؟ ألستَ مُسلِماً ؟
- بلى أنا مُسلمٌ ياسيدي ... لكنني لا اُصّلي . أرجو أن تستعجلا قليلاً ، فلقد تأخرْنا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في آذار 1975 ، وبعد إتفاق الجزائر المشؤوم ، بين صدام حسين نائب رئيس الجمهورية آنذاك ، ومحمد رضا بهلوي شاه إيران ، بوساطة ورعاية الرئيس الجزائري هواري بومديَن .. إنهارتْ الحركة الكُردية بقيادة الملا مصطفى البارزاني ، بعد توقُف الدعم الإيراني مُباشرةً . وإنسحبتْ بعض قيادات البيشمركة وقسمٌ من مسؤولي الحزب الديمقراطي الكردستاني ، إلى إيران ، وغادرَ البارزاني نفسه الى الولايات المتحدة الأمريكية .. في حين إستسلمَ الآلاف من البيشمركة الى الحكومة العراقية ، وسّلموا أسلحتهم .
كانتْ نكسةً كبيرة ، من أبرز ملامحها / تَخّلي الحكومة الإيرانية عن الحركة الكردية ، بعد حصولها أي إيران على مكاسب كبيرة من ضمنها نصف شط العَرَب / عدم إهتمام الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفييتي ، بالقضية الكردية بصورةٍ جدية / إنكشاف ضُعف قيادة الحركة الكُردية وعدم إمتلاكها بدائل وخيارات معقولة ، وفُقدانها لروح الثورة والمُقاوَمة .
كُل ذلك أدى الى الإنهيار الدراماتيكي للحركة الكردية / وعَودة مِئات الآلاف من شعب كردستان ، إلى ما سُمِيَ ( الصَف الوطني ) ... أي بِمعنى أنهُم " كانوا " في الصَف غير الوطني ! .
بالنسبة الى مُحافظة دهوك ، فأن حكومة بغداد ، وإعتباراً من آذار 1974 ، لم تكُن تُسيطِر إلا على مركز مدينة دهوك فقط .. أما المناطق الشرقية الشمالية بإتجاه العمادية وبرواري بالا ، فكانتْ تحتَ سيطرة قوات البيشمركة وإدارة الثورة الكردية .
لكن بعد الإنهيار المُدوي في آذار 1975 ، شّدَدتْ الحكومة العراقية ، قبضتها ، على جميع مناطِق كردستان ، ومن ضمنها بالطَبع ، قضاء العُمادية المُترامي الأطراف . سارعت الحكومة ، بِفتح مَقرات حزب البعث العربي الإشتراكي ودوائر الأمن ، في جميع المُدن والقَصبات .
في الأشهُر الأولى بعد آذار 1975 .. وبعد صدور ( العفو العام ) عن المُلتحقين بالثورة الكردية ، تنفسَ الناس الصُعداء ، وتأملوا خَيراً في الحكومة العراقية ، التي وَعَدَتْ الكًرد ، بالأمان والإستقرار والرفاهية . لكن سُرعان ما كّشَر البعث الحاكم عن أنيابهِ وكشف تدريجياً عن نياتهِ الخبيثة . فقامَ بِ ( نفي ) العديد من الموظفين ، الى محافظات بعيدة . والأنكى من ذلك ، ان منظمات حزب البعث ، بدأتْ بالضغط على المواطنين ، للإنتماء للحزب .. مُستخدمين إسلوب الترغيب من جانب والترهيب من جانبٍ آخَر .
صاحبنا المُضمِد " حسين المراياتي " ، كانَ من أوائِل المنظَمين لحزب البعث ، بل والمتحمسين لتنفيذ ما هو مطلوبٌ منهُ ! .
ـــــــــــــــــــــــــــ
وصلنا قبل الظُهر الى شيلادزي ، في نهارٍ مُشمِس رائع .. بعد أن إجتَزنا مناطِق باهرة الجمال في السَهل بين سلسلتي جبالٍ يُغطيها الثلج ... بالنسبةِ لي ، كانتْ المّرة الأولى التي أرى فيها المنطقة .
وحيث ان المُختار كان يُجري ترميمات وتوسيعات في دارهِ .. فلقد أخَذّنا الى بيت أحد أقرباءهِ .. الذي بالغَ بالترحيب بنا .
خلعنا معاطِفنا السميكة ... وجلس الجميع : حسين المراياتي وصاحب الدار وولديهِ وإثنان آخران ، جلسة " التربيع " بِيُسرٍ وتلقائية .. ولأنني لاأستطيع أن أجلس بهذه الطريقة ، فلقد مددتُ رجلي ، وشعرتُ ببعض الحرج من ذلك ! . كنتُ حينها اُدّخِنُ بِشراهة ، وتكادُ السيجارة لاتُفارق شفتي .. فإحتسينا الشاي .. ودردشنا في إنتظار الغداء .
ــــــــــــــــــــــــــ
عند الظُهر ... قام الجميع لأداء الصلاة .. وبقيتُ جالساً وحدي ، فأحسستُ بشئٍ من الغُربة وسطهم . قالَ لي صاحب الدار مُبتسماً : لماذا لاتُصّلي يادكتور ، مثل زميلك حسين ؟ قلتُ لهُ ضاحِكاً : صّدقني ان حسين لايُصّلي في العُمادية ، لكنهُ يفعل ذلك هُنا كنوعٍ من النِفاق ! . ضحكَ الجميع ، إلا حسين .
بعد الغداء .. فتحنا صندوق " العُدّة " ووضعتُ السّماعة على طرفي رقبتي ، كما يفعل الأطباء الحقيقيين .. وقّربتُ جهاز قياس الضغط كي يكون في مُتناولي ( علماً أنه لم يمُر على تخرُجي من
المعهَد سوى أشهُر قليلة ، ولم تكُن عندي خبرة عملِية ، وكُل ما أعرفه هو قياس الضغط ودرجة الحرارة ، وكتابة راشيتات اُقّلِد فيها الطبيب . في الحقيقة ان حسين المراياتي بخِبرتهِ وعمله لسنوات في المستشفى ، كانَ يُجيد زرق الأُبَر وخياطة الجروح والتضميد .. لقد كانَ دكتوراً أكثرَ مني ) .. أما حسين ، فلقد طلبَ ماءاً مَغلِياً ، لكي يضع السرنج الزجاجي والنيدلات فيهِ ، لتعقيمها .. حيث لم تكُن الحُقن البلاستيكية ذات الإستعمال الواحد ، مُتوفرة حينها . توافدتْ جموع المُراجعين ، وإصطفوا خارج الدار ، حتى يحين دَورهم .
حسين كانَ أكبرَ مني بسنوات ، ومتزوج وله طفلَين .. وأنا الذي لم أبلغ الثانية والعشرين بعد ، فلقد كانتْ بثور حب الشباب تملأ وجهي .. وكنتُ أحاوِل إخفاء إرتباكي ، حين أفحَص فتاة جميلة ، بتقّمُص الجِدية والعبوس ! .
وّزعنا كمية جيدة من كبسولات المضادات الحيوية والأُبَر وحبوب الفيتامينات والباراسيتول ... الخ ، لغاية ساعةٍ مُتأخرة من العّصر .. وإنتهى يوم عملنا الأول . عند المغرب ، جاء شخصٌ أفندي ، قّدمهُ المُختار قائلاً : هذا الأستاذ محمود ، مُدير ومُعلم مدرستنا ، يُريد أن يُسلم عليكم . كان الأستاذ محمود شاباً دمث الأخلاق ، من منطقة العشائر السبعة قرب الموصل .. طلبَ مّنا أن نزورهُ غداً في المدرسة ، لكي نّطَلِع على مُستوى التلاميذ .
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
فرشوا لي ولحسين ، فِراشَين قرب بعضنا .. وعلى بُعد أقل من مترَين ، وضعوا فِراشَين مُتلاصِقَين .. وقال صاحب الدار : دكتور .. عندنا هذه الغُرفة فقط ، وهي في الحقيقة غُرفة إبني الذي تزوجَ قبلَ شَهر .. وسوف ينامان هُنا بعد أذنِكُم ! . أجابَ حسين : ليستْ هنالك مُشكلة .
بعد إطفاء الفانوس .. لم تكُد تمضي عشرين دقيقة ، وكُنا انا وحسين ما زُلنا مُستيقضين ... سمَعنا همساً مُحتجاً : .. إهدأي ياإمرأة ، فلم يناموا بَعد . إجابَتْهُ : بلى أنهم خمدوا منذ فترة .. ثًمَ ضاحكةً بخفوت : هَيا قُم وإلا أنا التي سأقوم ! .
نكزني حسين وهمسَ ضاحكاً : هل تسمع ياصاحبي ؟
لم ينجح الظلام ، في إخفاء التأوهات وأصوات الرعشات ، للعروسَين الجديدَين .. ولم يكُف حسين عن الضحك ، بل أنهُ قالَ بصوتٍ عالٍ ، بعد إنتهاءهما : هنيئاً لكما !! والآن كفى نُريد أن ننام . ضحكَ العروسان . .. أما أنا فلقد كانتْ تجربة غريبة ومُثيرة بالنسبة لي .
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
في اليوم التالي ، وبعد إنتهاءنا من تمشية الوجبة الأولى من المُراجعين ، قبل الظُهر ... أخذَنا المُختار ، الى المدرسة الطينية ، شأنها شأن كُل بيوت القرية .. وكان الأستاذ محمود في إنتظارِنا .. فرحبَ بنا وأدخَلنا الى الصف الرابع ، فوقف التلاميذ ، وأمرَهُم بالجلوس .. ثُم أخْبَرَنا ان الطالبات والطُلاب شُطار ... وقالَ : مَنْ سيقوم ويكتب على السبورةِ : أهلاً بالدكتور . فرفع الجميع أياديهم .. فأشارَ المُعلمُ الى طالبةٍ حَسنة الهندام ، فكتبتْ بخَطٍ جميل . فقالَ الأستاذ لنا ، مُبتسماً : حتى تتأكدوا من شطارة طُلابي .. إطلبوا منهم كتابة أي كلمة . فسارعَ حسين المراياتي ، وقال : أكتُبي : البعثُ طريقنا ! .. فكتبَتْ ، وقالَ المُعّلِم : صّفقوا لها .
فطلبتُ منها أن تكتُب : كُردستان .. ففعَلتْ .. وقلتُ للطُلاب : صّفقوا مرتَين وصفقتُ معهم ! .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وصلنا الى العُمادية ظُهراً ... وتوجهتُ الى منزل إبن عمي ، حيثُ كنتُ اُقيم عندهم . وفي عَصر نفس اليوم .. أخبرني إبن عَمي ، انهم طلبوا منهُ تبليغي ، بالحضور الى مقر منظمة حزب البعث ، في السادسة . ذهبتُ إلى هناك . رحَبَ بي رفيقٌ ما وقّدمَ لي سيجارة .. ثم قالَ لي : أنتَ موظفٌ جيد ، ومن عائلةٍ معروفة .. لكن من الآن وصاعداً .. نطلبُ منك ، عندما تذهب في إيفادات الى القُرى .. أن تهتم بعملك فقط ، ولا تتدخَل في السياسة .
تفاجأتُ وقلتُ : رجعتُ ظُهر اليوم من إيفادي الأول .. ولم أتحدث في السياسةِ مُطلَقاً .
قالَ بِثقة : بلى ياعزيزي .. لقد قلتَ للطلاب ان يكتبوا كلمة كردستان على السبورة ، وصّفقتَ مرتَين !! .
يا للهَول .. هل من المعقول ، ان زميلي وإبن مدينتي ، حسين المراياتي .. لم ينتظِر حتى صباح الغَد .. حتى يُبّلِغ رفاقهُ في المُنّظَمة ؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - أعدتني الى تلك القرى وتلك الوجوه
علي بداي ( 2015 / 9 / 5 - 15:29 )
هناك في -شيلادزي - حين كنت في صفوف البيشمركة بداية الثمانينيات صادفنا مرة عام 1981 معلماً آشورياً في بيت كان يضيفنا ، كانت مهمتنا أن نفضح سياسة البعث ضد الكرد والقوميات الأخرى لكننا تفاجأنا بالمعلم الأشوري يصفنا أمام اهل البيت وضيوفه بالخونة والمخربين ويشيد بصدام والبعث ..حتى أني قاربت أن أشهر بندقيتي...ياصديقي لا تعجب من حسين فلو لم يكن شعبنا يعج بأمثاله ما حكمنا الجعفري ومن لف لفه...
!


2 - السيد علي بداي
حسن علي ( 2015 / 9 / 5 - 21:14 )
لقد اثبت الزمن أن المعلم الاشوري كان صادقا. فسياسة البعث لم تكن ضد الشعب الكوردي بل ضد الخونة من الذين باعوا اوطانهم. وها نشهد اليوم صحة ما ذهب اليه ذالك المعلم. كيف تنظر الى من تعاون مع نظام صدام والبعثيين سواء من كنتم تسمونهم بالجحوش او أولئك اللذين استعانوا بجيش صدام عام 1996 ليحارب به المنافس الاخر للخيانة.فياليتكم كنتم بأمانة وصراحة ذلك المعلم الاشوري الصادق

اخر الافلام

.. اتكلم عربي.. إزاي أحفز ابنى لتعلم اللغة العربية لو في مدرسة


.. الفنان أحمد شاكر: كنت مديرا للمسرح القومى فكانت النتيجة .. إ




.. حب الفنان الفلسطيني كامل الباشا للسينما المصرية.. ورأيه في أ


.. فنان بولندي يتضامن مع فلسطين من أمام أحد معسكرات الاعتقال ال




.. عندما يلتقي الإبداع بالذكاء الاصطناعي: لوحات فنية تبهر الأنظ