الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الغريق (قصة قصيرة)

رستم أوسي

2015 / 9 / 5
الادب والفن


كان جالساً في الحانة مع صديقته الألمانية حين صوّت جوّاله منبِّهاً إلى وصول رسالة جديدة. أغرق يده في جيب بنطاله بهدوء و هو يتبسّم لرفيقته ، و تمهّل في إخراج الجوال مراعاةً لأهمية حديثها. و بينما كانت الفتاة في طريقها إلى الحمام انحنى نضال على الجوّال بفضول يعاين الرسالة ؛ كانت صورةً واردة عبر "الواتس آب" من عبد الوهاب ، صديقه في أدرنة بتركيا و الذي يتحضر للقدوم إلى أوروبا عن طريق البحر ، تبعها عبارة ؛ ( هل تعرف أحداً في هذه الصورة؟ ). تداخلت الشخوص أمام بصره بادئ الأمر ، و كأنها صور لذات الشخص في وضعيات مختلفة ، لكن سرعان ما شدّ عينيه المنظرُ المفزع للطفل الغريق في الأسفل. تأمّل مليّاً الصبي الذي ينقلب على بطنه على الشاطئ تاركاً الموج يلعق جبينه. كبّر صورته عازلاً إياه و مقصياً الهيئات المتفرقة التي جمِعت مع لقطة الطفل في ذات الصورة. عرف تلك اللقطة ؛ كانت صورة لطفل سوري غريق غزت مواقع التواصل الاجتماعي خلال الساعات الأخيرة. حاذت خيالَ الولد صورتان متفرقتان لطفلين آخرين كانا قد قضيا غرقاً أيضاً على سواحل تركيا البارحة. في الوسط كتِبت عبارة تقول شيئاً ما عن تجار البشر ، و يقصد بهم سماسرة القوارب المتجهة إلى أوروبا الذين تسببوا بمقتل الكثيرين دون محاسبة تذكر ، علتها ثلاث صور لثلاثة شبّان في مقتبل العمر. فكّر نضال مليّاً في الغاية من سؤال عبد الوهاب فراح يكبر الصورة و يزيحها يميناً و شمالاً ، أعلى و أسفل ، متفرساً أوجه الشبان الثلاث. لم ينصرف عن الأمر حتى بعد تعرّفه إلى أحدهم ، و كأنه معنيّ بمعرفة الجميع.
لم يعرْها بالاً و هي تترنح بجانبه معاودة الجلوس على الكرسي العالي قبالة النادل. كان كاسف الوجه ذابل السحنة ، يتأمّل بمرارة صورة الشاب في الثياب الأنيقة و الذي بدا في أواخر العشرينات من عمره. نبرت الفتاة مستفهمة ، فرمقها بشكل خاطف ثم نظر إلى الكأس أمامه. عبّ ما فيها و طلب كأساً جديدة. أمسك بالجوال بكلتا يديه و شرع يكتب بأصابع مرتعشة ؛ ( قصي مات؟ غرق! عبد الوهاب أجبني! أين أنت؟). لم يجب الأخير. وضع الهاتف جانباً. و التفت إلى الفتاة ؛ ((صديقي. زميلي في الجامعة ، مات غرقاً البارحة.))
((ماذا! اهدأ قليلاً. أنا آسفة! اهدأ. كيف حصل هذا!))
((كان يحاول المجيء إلى أوروبا. لم أسمع عنه شيئاً منذ ثلاث سنوات باستثناء أنه كان يقيم في تركيا و يعمل هناك. و اليوم رأيت صورته بين الضحايا. غرق يا رباه! غرَق! لو أنه قضى برصاصة في سورية لقلنا أنه مات مثل الكثيرين بسبب الحرب. لكن أن يموت في عرض البحر! لا أصدق.)) اختنق نضال بصوته.
كأس مثلثة الشكل من الويسكي و الكولا انزلقت على الطاولة لتركن أمامه ، وسط جو محمّل بانفعالات من الدهشة و الحزن. التفت إليها في انكسار و في تلك اللحظة خطفت يدَه بكلتا يديها محاولةً تخفيف لوعته. راحت تحدثه عمّا قرأته في الصحف اليوم و تفاءلت بأن العالم سيتحرك لفعل شيء ما من أجل السوريين بعد الحوادث الأخيرة. ضحكة غريبة أطلّت من عينيه القاتمتين ، كما لو أنّ به مساً ، و سرعان ما اضمحلت. بدا مضطرباً و هو يريها الصورة. ((الأطفال يا الله! الأطفال! انظري. هنا ، هذه الطفلة. بطنها منتفخة!.. هذا هو صديقي. شاركني السكن في المدينة الجامعية لسنة كاملة. ربما التقِطت هذه الصورة قبل موته بأيام قليلة. انظري. عيناه. و كأنهما تنشدان الوداع. يا إلهي!.))
((يجب أن تتحلى بالأمل. اهدأ يا حبيبي. كل شيء سيصبح أفضل.))
تفوه بشيء غير مفهوم ، و حين سألته عمّا قال أجاب بأنه يفضل الصمت مبرراً بأنّ ما تعلّمه إلى الآن من مفردات اللغة الألمانية غيرُ كافٍ للبوح بكل ما بداخله.
و بغتةً ، بعد أن بدأت سمات نضال تميل إلى الهدوء ، صرّ الهاتف على الطاولة الخشب المستطيلة الشكل ، ليسارع نضال إلى قراءة الرسالة التي تقول : (لا ، للأسف هو مايزال حياً يرزق).
عاد بسرعة إلى الصورة و قرأ ، بعناية ، العبارة التي كتبت تحت صورة قصي ، شريكه السابق في السكن ، فوجدها كالآتي : (نعم لفضح تجار البشر المجرمين.).
صعِق نضال. لفحت الحرارة رأسه. يتأمل عيني قصي مرةً أخيرة قبل أن يحذف الصورة و يدسّ الجهاز في جيبه. اشتفّ قليلاً من الكأس ثم أخذ يتلفّت فيما حوله في برود. وجد المكان مزدحماً ، خافت الإضاءة و أصغر من ذي قبل ، و شعر بالموسيقا أكثر صخباً و أفقر معنىً. عندها التفت إلى صديقته ، التي بدت عليها علامات الاستغراب ، و قال لها ((لا شيء. دعينا نخرج من هنا و حسب.)).


ألمانيا 2015.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عاجل.. الفنان محمد عبده يعلن إصابته بمرض السرطان في رسالة صو


.. انتظرونا غداً..في كلمة أخيرة والفنانة ياسمين علي والفنان صدق




.. جولة في عاصمة الثقافة الأوروبية لعام 2024 | يوروماكس


.. المخرج كريم السبكي- جمعتني كمياء بالمو?لف وسام صبري في فيلم




.. صباح العربية | بمشاركة نجوم عالميين.. زرقاء اليمامة: أول أوب