الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الملك والرعية

فؤاد وجاني

2015 / 9 / 7
مواضيع وابحاث سياسية


يولد الناس أحرارا متساوين في الحقوق والفرص، وما تلبث الأعراف والنظم القائمة أن تفرق بينهم على أساس حاكم ومحكوم وغني وفقير وذي جاه وذي اتضاع. وبناء على ما هو قائم يتعرض الفقير المحكوم المتضع للقمع والمنع والتضييق. وكان لا بد للحاكم المتعالي من أساس تخضع له العامة ، وليس هناك أفضل من استثمار مفهوميْ الخوف والموت واللجوء إلى الغيبيات لسن التفوق على الناس والتنزه عن المساواة، فيلجأ إلى استغلال الدين وشرعنة مكانته طبقا لحق إلهي غير قابل للنقد والرفض .
ولتحقيق البغية وتثبيتها في النفوس قبل العقول، يتخذ الحاكم المنزه مرجعا، وينتسب إما صحة أو زعما إلى رمز ديني كنبي حامل لرسالة سماوية منقذة للبشر ، مجيبة عن الحيرة الأبدية المجهولة لما يقع بعد الموت. وبموجب تلك الصلة النقية الطاهرة من كل شائبة ومَخزاة بأمر سماوي، يحظى الحاكم بالقداسة وينأى بنفسه عن الرجس، فهو ليس ككل البشر ،و نسبه يرجع لعِرق سامي.
أنثربولوجيا، لو حل شخص عادي بقبيلة فطرية وسط أدغال أفريقيا أو الأمازون ثم ادعى حيلة بعض المكرمات والبركات عبْر وسيط يجيد لغتهم ويفهم ثقافاتهم ورآها الأهالي رؤيا العين هناك ثم أعلن أن قدرته الخارقة ليست بشرية ولا طبيعية بل تمكين من خالق ما لبايعوه ونصبوه ملكا. وقد لا يكون فعله معجزة بل علماً لم يَتوصل إليه أهالي تلك القبائل لبعدهم عن العالم وتوغلهم في الغاب كإيقاد النار من الغاز مثلا.
تاريخيا، في الماضي القصيّ وقبل ما يزيد عن ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد لم يكن هنالك ملوك، ولم تكن هنالك بالتالي حروب ولم يظهر استعباد للناس. عنَّ مفهوم الملك في عهد الفراعنة بمنطقة النوبة على امتداد نهر النيل من شمال السودان إلى جنوب مصر حيث شرَع الناس يكرمون ملوكهم الأموات.
دينيا، كل النصوص المقدسة تبغض الملكية، القرآن يعتبرها إفسادا في الأرض ، ناسبا الملك لله وحده لا شريك له. في سورة النمل في الآية 34 تصريح بذلك: ( قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون(، ويضيف في الآية الثانية من الفرقان: ) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا(، وفي سورة الكهف في الآية 79 يصف طبع الملوك واغتصابهم لحقوق وملكيات الفقراء المعوزين: ) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا(.
الإنجيل يصف الملوك بالمستعبدين في سفر صموئيل الأول 8 . ففي عهد النبي صموئيل، طلب اليهود منه أن يعين ملكا نظرا لفساد ابنيه وميولهما إلى أخذ الرشوة. حذر صموئيل الشعب اليهودي أن الملك سيأخذ ثرواتهم، ويستعبدهم وبناتهم، ويجعل منهم خماسين يحرثون له ويصنعون مراكبه وعدته، ويُعشر أغنامهم، لكن الشعب أبى سماع صوت صموئيل، وصمموا على فكرة الحصول على ملك، فوجدوا في طالوت مأربهم: )وَقَالَ هذَا يَكُونُ قَضَاءُ الْمَلِكِ الَّذِي يَمْلِكُ عَلَيْكُمْ: يَأْخُذُ بَنِيكُمْ وَيَجْعَلُهُمْ لِنَفْسِهِ، لِمَرَاكِبِهِ وَفُرْسَانِهِ، فَيَرْكُضُونَ أَمَامَ مَرَاكِبِهِ، وَيَجْعَلُ لِنَفْسِهِ رُؤَسَاءَ أُلُوفٍ وَرُؤَسَاءَ خَمَاسِينَ، فَيَحْرُثُونَ حرَاثَتَهُ وَيَحْصُدُونَ حَصَادَهُ، وَيَعْمَلُونَ عُدَّةَ حَرْبِهِ وَأَدَوَاتِ مَرَاكِبِهِ، وَيَأْخُذُ بَنَاتِكُمْ عَطَّارَاتٍ وَطَبَّاخَاتٍ وَخَبَّازَاتٍ، وَيَأْخُذُ حُقُولَكُمْ وَكُرُومَكُمْ وَزَيْتُونَكُمْ، أَجْوَدَهَا وَيُعْطِيهَا لِعَبِيدِهِ، وَيُعَشِّرُ زُرُوعَكُمْ وَكُرُومَكُمْ، وَيُعْطِي لِخِصْيَانِهِ وَعَبِيدِهِ، وَيَأْخُذُ عَبِيدَكُمْ وَجَوَارِيَكُمْ وَشُبَّانَكُمُ الْحِسَانَ وَحَمِيرَكُمْ وَيَسْتَعْمِلُهُمْ لِشُغْلِهِ، وَيُعَشِّرُ غَنَمَكُمْ وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لَهُ عَبِيدًا(.
وأما الطبيبعة فتستنكر وجود الملك، وتعارض تنزيه إنسان عن آخرين ، فكونه إنسانا يقتضي معاملته كالآخرين مادام يتناسل ويمرض ويموت وله حاجة في الطعام والشراب والملبس والذهاب إلى الخلاء. وجود شخص منزه يدفع آخرين للحذو حذوه والتمثل بصفاته، فتكون لهم النزاهة حصنا منيعا من الحساب والعقاب مهما أخطأوا وأجرموا وسلبوا الشعب.
بين الحيوانات والحشرات والطير والأسماك لا نجد ملكا، بل قائدا بناء على وظيفته العملية بدل انتسابه لفصيلة خاصة. لكل مستعمرة من النمل مثلا قائدة ، مهمتها وضع البيض بينما تقوم الشغالات بتوفير الزاد لشعب النمل. وفي مملكة النحل، تختص القائدة بإنتاج ألف وخمسمائة إلى غاية ألفين بيضة في اليوم وبإفراز الغدد الضرورية لجذب العاملات وحفظ الدولة. فالنحلات يقمن بخدمة قائدتهم لأنها تضمن نسلهم وبقاءهم ولا تسلبهم شيئا.
اجتماعيا، نظام المُلك يعني التمييز الطبقي بين فئتين. الأولى سلطوية مقربة منه، والثانية محكومة هي الشعب. الأولى تقرر وتحكم، وتتمتع بالامتيازات المادية وبالنفوذ ، الأبواب في وجهها مفتوحة، والقضاء أمامها صاغر، هي فوق القانون، وكلمتها مسموعة دون مسوغ دستوري. والثانية عاجزة تابعة، تجري عليها الأحكام والقرارات، وتخضع لقوانين غير عادلة يضعها الملك ومشرعوه، لا نفوذ لها على الإطلاق، وصوتها في الانتخابات مجرد استقراء للآراء، هي رقم في سجل الدولة، تدفع الضرائب والمكوس والغرامات ليترف الملك وثلته، ولا تحصل حتى على خدمات التطبيب والتعليم والأمن مجانا، كرامتها مهدورة، وحقوقها مسلوبة، وعليها واجبات الانصياع والطاعة لأوامر الملك وتطبيق مقتضيات خطبه. ونظام الملك يخلق ضربا من ضروب الاتكال والركون في قطاعات الدولة المختلفة، ويئد الطموح الإنساني الطبيعي المشروع للوصول الى السلطة.
اقتصاديا، الملكيات مكلفة جدا للشعب، فممتلكات الملك الثابتة والمنقولة من أموال الشعب، تُنتزع من أفواه الفقراء والمحتاجين ومن مرافق الدولة وخدماتها وبنياتها انتزاعا لتُخصص لفرد واحد وعائلته وخدمه وحشمه وحراسه. تنقلاته ومواكبه تستنزف طاقة الدولة ومواردها المادية والبشرية العاملة. وللملك والقريبين منه أياد طويلة في التملك والتجارة والاستحواذ على ممتلكات الدولة والفوز بالمناقصات المطروحة عبر شركات مجهولة دون اتباع مساطير التنافسية.
سياسيا، وجود الملك يقتضي غياب سلطة الشعب ولو مُثّل الأخير بأحزاب، فالمُلك والديموقراطية لا يجتمعان، فإما أن تخضع الديموقراطية لأهواء المَلك وتطلعات طبقته، أو لا تكون هنالك ديموقراطية ألبتة. هي ديموقراطية الصور كتلك المعلقة في جدار كل إدارة لترمز إلى القائد الفعلي والسياسي الأول المدبر لشؤون الدولة. في الديموقراطية نجد دستور الشعب ، وفي الملكية شعب الدستور. ودستور الملكية عتيق عادة ، مُمجد لتراث أجداد الملك واستمرار لدربهم، أما دستور الشعب فمجدد آنيّ متغير حسب متطلبات الشعب الحالي وتطلعاته.
ختاما، سَأَلَ ملكٌ حكيما عَن الْإِخْلَاص فَقَالَ الحكيم ثَلَاث:" أعدل فِي الْقَضِيَّة، واقسم بِالسَّوِيَّةِ، واعدد نَفسك وَاحِدًا من الرّعية". الحكمة تفترض أن يكون قائد البلاد حكيما مخلصا يسترشد العاقلين، عادلا لا تأخذه في الحق صلة المقربين الفاسدين، وطنيا نظيفا متواضعا لا يراعي مصلحة سوى الشعب والوطن ، فماذا لو كان القائد وارثا للملك وغير مخلص وغير حكيم؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صورة مفجعة لفلسطينية في غزة تفوز بجائزة -أفضل صورة صحافية عا


.. وسط تفاؤل مصري.. هل تبصر هدنة غزة النور؟




.. خطوط رفح -الحمراء- تضع بايدن والديمقراطيين على صفيح ساخن


.. تفاؤل في إسرائيل بـ-محادثات الفرصة الأخيرة- للوصول إلى هدنة




.. أكاديمي يمني يتحدث عن وجود السوريين في أوروبا.. إليك ما قاله