الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل أعجبك الوطن يا أبي؟!

فيروز شحرور
(Fairouz Shahrour)

2015 / 9 / 8
القضية الفلسطينية


لا زلتُ أردد أنني تعرفت على الوطن عبر صور مجزرة صبرا وشاتيلا وذلك في السفارة الفلسطينية في تونس حينما كان أبي يأخذني معه، حيث أفتقد لرائحة الكنب الجلدي ورائحة مكيف التبريد. كانت السفارة بالنسبة لي أمرًا معقدًا وذات مغزى، حيث أنني خارجها آخذ معي ما في داخلها، خصوصًا حينما يتراكم في رأسي الصور التي أراها على طول الممر من صور الشهداء لصور القادة والرموز الوطنية للعلم الفلسطيني للكتيبيات التي توثق المجازر! المجازر ومنظر الدماء والأشلاء وصور المعتقلين ومن هُشمت أعظام ركبهم بسبب سياسية تكسير العظام، كل ذلك لم يكن سهلاً، حيث كانت الأسئلة أكبر والأجوبة أكبر وأكبر وتُختصر بكلمة "لأننا فلسطينيون ولنا وطن"، حسنًا أين الوطن؟! لم لا نرحل هناك؟! كيف أتوا إلى وطننا؟! هل هربنا بسبب الضرب والقتل؟! ومع ذلك كان غالبًا أبي حريصًا على اصطحابي معه أينما ذهب، على الرغم من حجم الأسئلة التي لم أجد لها أجوبة، وبلاهتي أمام ما يحصل وما أرى، وكان يزيد الطين بلة حينما يريدنا أن نتعامل مع ما نراه وما نتعايشه على أنه جزء من هويتنا، العذاب جزء من الهوية! التناقض مع البيئة الخارجية جزء من الهوية! الوضع الطارئ هوية! وبالرغم من أن أبي وضعني في مدرسة عربية لا تونسية لأعايش الاختلاف مع الجنسيات الأخرى على أنه طبيعي، إلا أنني لم أجد مجالاً لأُعرف اختلافي فيه غير صور صبرا وشاتيلا وكوني طارئة! إن هذا التوتر الهويّاتي والمنفى، هو من خلق صورة مشتهاة للوطن وصورة متخيلة عما يجري، خصوصًا في المرات التي سنحت لنا الفرصة لزيارة الوطن عند عائلة والدتي والقصص التي كنت أسمعها منهم، وقد كانت لمة العائلة هي من أكثر الأمور التي دفعتنا للتقرب من فكرة الوطن والاعتقاد بأن الوطن هو نكهة العائلة، بالذات أختي الصغيرة والتي كانت دومًا ثائرة وتريد أطفالاً وعائلة كبيرة تلعب معهم، عائلة وحياة تختلف عن غربة المنفى.
بعد اتفاقية أوسلو عام 1994، تحديدًا عام 2001 قرر أبي العودة إلى الوطن-هكذا بكل بساطة- الوطن الذي لم يولد فيه لا هو ولا أنا، الوطن الذي رأيته على شكل زيارات أكثر منه، عاد فجأة من عمله حيث كان يعمل دبلوماسيًا في السفارة الفلسطينية، ولم نكن كعائلة مهيئين للعودة، فأمي على وشك الانتهاء من ورشة دهان البيت ونحن على أبواب المدراس، والآن على أبواب قرار لمرحلة جديدة!
نخزته سوسة الوطنية التي من أجلها ضحى بأشياء كثيرة قبل وضحى لأجلها تلك اللحظة، وسيستمر للنهاية كما يبدو.. كان يومًا بكائيًا حيث لم أستطع تركيب صورة الوطن وصورة الحياة فيه، كان شعورًا مبعثرًا وقراراً لم يكن في الحسبان، أذكر أنني حينما استلمت شهادتي، سألنا بعضنا نحن الطلبة كعادة كل نهاية فصل: رح نشوفك على السنة الجديدة؟! وكان الجواب نعم. لكننا رحلنا فجأة دون أن يكون بمقدوري حتى أن أعود لتلك اللحظة وأقول لها بكل بساطة: سنرحل! ولم أودع أحدًا، بدت تلك اللحظة من أشنع اللحظات التي مرت علي، كان بإمكاني ربما أن أحتفظ بذكريات مكتوبة منهم في دفتري، أو أدون أرقام هواتفهم أو أي شيء آخر.. لكنني فقدت كل شيء! ولم أستطع حتى هذه اللحظة الاستغناء عن عادة التعود والحسرة على كل ما لي! ورحلنا..!
أكاد أجزم أن أبي صُعق من الوطن أكثر منا، أكثر من أختي التي حملت كرسيها واختبئت تحت بيت الدرج خوفًا من صواريخ الاستعمار في الانتفاضة الثانية والتي بدأت بعد عودتنا بخمسة عشر يومًا -حيث كنا لم نستقر بعد- كأن الوطن يعوضنا عما لم نكابده! وأكثر من أختي الصغرى التي ثارت فيما مضى بما فيه الكفاية لتحصل على عائلة في الوطن، ثم نضجت باكرًا لتصاب بحالة أكثر ثورة لتعود إلى المنفى..! صعق من المشروع الوطني ومن الهيكل العام لما سنصبو إليه، صعق من الاستخفاف بالوطنيين، صعق وصعقنا جيمعًا بحسرات البعض على أيام الإدارة المدنية والسهرات في تل أبيب، من الإنحطاط الأخلاقي والقيمي الذي قالت لنا أمي عنه بأنكم: لن تجدوه في فلسطين، فلسطين بلد العزة والكرامة! أية كرامة؟! الكرامة التي استقبلتنا مستهزأة ممن عاد، الكرامة التي همشت الوطني على حساب المتسلق، الكرامة التي قسّمت الوطن كفتات خبز، الكرامة بتشويه مما ظل من وطننا وهي إنسانيتنا، تحطيم الإنسان في الإنسان، عن أية كرامة نتحدث؟!
كان درسًا قاسيًا ذاك الذي ورثناه، ذاك الصمت أمام الأسئلة الكبيرة، والتي جعلتني دومًا أوجه تلك النظرات إلى أبي، فأين وأين وأين..؟! أين الوطن الذي كنت أستشعره قريبًا في السفارة الفلسطينية، أين اختلافي الذي ضاع هنا، والذي شعرته مثل الغبار حينما ولجت الجامعة، ووجدتني محاطة ببضع طلبة يطالبونني بالقول لاجئة لا عائدة، رغمًا أن العودة أجمل نتيجة للجوء! وشعرت أنه لا وطن في الوطن، لقد جعلنا ذلك الدرس القاسي نرتّد إلى المنفى وإلى صورة الوطن الشهية فيه، فليس بإمكاني تخيل الوطن أبعد عن صورته التي تعرفت فيه عليها في المنفى، ولم يجعلنا الألم إلا تمسكًا فيه، فالوطن لا يختلف والكرامة لا تتبدل إلا من خلال ما نفعله، واليقين بأن المنفى في الوطن أشد وطأة من المنفى خارجه. إن هذا العالم ينقصه الحب لا أكثر ولا أقل، ينقصه الصدق ليصبح أجمل.. لا تنقصه خبرات مهنية ولا أدوات خارجية ولا أوهام ولا فلسفة المثقفين والسياسيين التي ضجّت جمالية العالم، ينقصه تلك السوسة التي قتلت كل شيء إلا الضمير، سوسة الوطن التي تنخر في الجسد مقولة: الموت ولا العار، وكما قال إبراهيم نصر الله في أناشيد الصباح:
سنةٌ.. واثنتان.. ثلاثونَ.. والبحرُ يأتي أليكْ
سنةٌ.. واثنتان.. ثلاثونَ.. والقيدُ أفق يديك
سنةٌ.. واثنتان.. ثلاثونَ.. كل المنافي عليك
سنةٌ.. واثنتان.. ثلاثونَ.. ماذا تبقى لديك؟
ما زلت تضحكُ، ترفع كفيك للفجر، تحلمُ!

فيروز شحرور
كاتبة وشاعرة فلسطينية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الغوطة السورية .. قصة بحث عن العدالة لم تنته بعد ! • فرانس 2


.. ترشح 14 شخصية للانتخابات الرئاسية المرتقبة في إيران نهاية ال




.. الكويت.. أمر أميري بتزكية الشيخ صباح خالد الحمد المبارك الصب


.. حماس ترحب بمقترح بايدن لإنهاء الحرب.. وحكومة نتنياهو تشترط|




.. الجبهة اللبنانية الإسرائيلية.. مزيد من التصعيد أو اتفاق دبلو