الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الراتب الأوَل

امين يونس

2015 / 9 / 10
الادب والفن


لأنني تخرجتُ من المعهد الطبي ، في الدور الثاني وكانَ مُعّدَلي مُتواضِعاً ... فلقد كانتْ خيارات أماكن التعيين المُتاحة ، محدودة وكُلها بعيدة عن محل سُكناي في بغداد . وكانَ لي أن أختارَ بين الديوانية والناصرية ودهوك .. وبالطبُع ، فضلتُ دهوك . وفي رئاسة الصِحة هناك ، اُرسِلتُ الى مستشفى العُمادية ، حيث مَسقط رأسي .. ومدينتي الأصلية التي اُجبِرتُ على تركها وأنا طفل .
باشرتُ في مُنتصف تشرين الأول من عام 1975 .. وإشتغلتُ في الصيدليةِ ، وبدأتُ أتعلمُ أسماء الأدويةِ ، وكيفية لَف العبوات الورقية ، ووضع الحبوب والكبسولات فيها .. وكذلك فَك طلاسم خَط الأطباء . تعلمتُ بِسُرعة على يد المُضَمِد المُخضرَم " جرجيس " وهو من أهالي العُمادية ، و " حميد " معاون الصيدلي وهو شاب يكبرني من أهالي كركوك .
توثقتْ علاقتي مع " حميد " ، فلقد كانتْ أفكارنا مُتقارِبة .. وكانَ هو يُجيد لُعبة البلياردو ، حيثُ نذهب أحياناً بعد الدوام ، الى الكازينو .. وكانَ يُلاعب أفضل اللاعبين في العمادية ويتفوق عليهم .. بينما أنا جالسٌ أتفَرَج .. وبالطَبُع كُنتُ اُصابُ بالخيلاء ، لأن هذا الذي يغلبهم ، هو صديقي ! .
قبلَ مجيئي الى العُمادية .. كنتُ أشربُ البيرةَ خلال فترة دراستي في المعهد في جامعة السليمانية ، كُلما سنحتْ الفُرصة .. وسَبقَ وأن شربتُ العَرق المحلي الصُنع ، في سرسنك ، في فصول الصيف ، حين كُنا نأتي من بغداد للإصطياف .
لكن صديقي " حميد " ، هو الذي عّودني على الشُربِ رسمياً ، حيث كُنا نذهب الى نادي " فيليب " في العمادية ، ونشرب العرق عادةً .
.........................
كُنتُ شاباً مُندَفِعاً حينَ تعّينت ، ولم تكُنْ عندي مسؤوليات عائلية ، حيث كان الوضع المادي لعائلتي في بغداد ، جيداً إلى حدٍ ما ، وكنتُ أنا أصغر فردٍ في العائلة الكبيرة . كنتُ اُقيم مع عائلة إبن عمي في العُمادية .. أي كانتْ إقامَتي وطعامي ، مجاناً .. بالمُختَصَر ، كانَ راتبي الشهري في أول تعييني ، البالغ ( 42 ) ديناراً ، لي وحدي .. وكانَ بحساب ذلك الزمان ، راتباً مُحتَرَماً .
ولأسبابٍ بيروقراطية ، لم يكُن إسمي وارداً في قائمة رواتب مستشفى العمادية لشهر تشرين الثاني 1975 .. وإستلمتُ في أواخر كانون الأول ، راتبَين ونصف الراتب مرةً واحدة ، أي أكثر من مئة دينار .. وكانَ عندي بالأصل حوالي خمسين ديناراً اُخرى ، فأصبحتُ أمتلكُ مبلغاً كبيراً ، لاأعرفُ ماذا أفعلُ بهِ ! .
وحتى ، تُحبَك خيوط القَدَر ، فلقد تساقطتْ الثلوج بغزارة كبيرة ، وساءتْ أحوال الطريق الواصل الى دهوك ثم الموصل .. وبهذا فأن ذهابي الى أهلي في بغداد ، بِمُناسبة أعياد رأس السنة .. و " حميد " الى أهلهِ في كركوك .. باءتْ بالفَشل ، وأضطررنا للبقاء في العُمادية . ولأن " حميد " يعشق البوكر ، فلقد حجزَ لهُ مكاناً على مائدة القِمار ، في كازينو " فيليب " ، ليلة رأس السنة . وكنتُ اُرافِقه أحياناً وأجلسُ خلفهُ حين يلعب البوكر ، وكنتُ أغبطهُ لأنه يربح دائماً .
قلتُ لحميد : أريدُ أن ألعب أنا أيضاً في ليلة رأس السنة ! . قال : .. كلا يارجُل ، أنك لاتجيد اللعب .. ثٌم ان جميع الذين سيلعبون هُم من أهل العُمادية من ذوي الخبرة في لعب " التيمو " . أجبتهُ بإصرار : سوف ألعب مهما يكُن ! . قال : .. ياعزيزي لا أريدك أن تخسر .. أجلس بجانبي وإشرب وكُل كما يحلو لك وشّجعني . ركبتُ حمار العِناد ، قائلاً : سوف ألعب ! .
وبالفِعل .. كُنا ( 13 ) شخصاً ، جُلهم من أهالي العُمادية ، وهُم خليطٌ من موظفين وسُواق وأصحاب دكاكين ، يعرفهم حميد ، لأنهُ سبقَ لهُ اللعب معهم في مناسباتٍ اُخرى .
يبدأ اللعب عادةً ، ليلة رأس السنة ، في التاسعة مساءاً ، ويمتدُ " التايم " لغاية الثانية عشر وبضعة دقائِق .. وتُؤخَذ إستراحة ، ثُم يبدأ تايمٌ آخر ، في السنة الجديدة .. ويستمر الأمر حتى الصباح .. بل أحياناً حتى مساء اليوم التالي ! .
بالنسبةِ لي ، كُنتُ قد أجهزتُ على كُل المبلغ الذي معي ، قبلَ مُنتصف الليل .. بل وإستدنتُ خمسين ديناراً من " حميد " .. والتي لم تصمُد معي أكثر من ساعة . غادرتُ النادي في الواحدة والنِصف ن مُجرجِراً أذيالَ خسارة الراتب الأول ! .
عصر اليوم التالي أي 1/1/1976 ... جاءني " حميد " نافخاً أوداجهُ ، قائلاً : .. لقد ربحتُ أربعمئة دينار .. وأنتَ معفو من الخمسين التي أخذْتَها مِنّي .. وهاك مئة دينارٍ اُخرى ، ولا تفعل ذلك ثانيةً .. لاتلعب مع " اللواعيب " أيها العجمي ! .
..............
في شُباط من نفس العام ، إنتقلَ " حميد " الى محافظة كركوك . ولم أرهُ ثانيةً .
صديقي " حميد " الذي كّرسَ لدي عادة الشُرب .. وعّلمني البوكَر وقليلاً من البلياردو .. لكَ الذِكر الطيب ، أينما كُنت .. لم تكُنْ " صديق سوء " ، بل كنتُ أنا مُستعداً لهذهِ الأشياء أصلاً ! .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحيــة امنيـــــة اقتراح
كنعان شـــماس ( 2015 / 9 / 10 - 13:12 )
تحية ايها الامين الشجاع وتحية الى صديقك الصادق حميد وتحية لذلك الزمن الجميل او الذي تجمله كتاباتك المفيدة . استاذ امين يكتب في الحوار المتمدن اكثر من 28 الف كاتب وملايين القراء والمعلقين ... اتمنى او احلم لو يلزم كل واحد من الكتاب او المعلقين لو يلزم نفســه التزام ادبي او اخلاقي بالتبرع شهريا وبشكل ثابت بمبلغ ولو خمسة دولارات وعندك الحســـاب ؟؟؟ سيتحول الى موسسة ثقافية لها لها تاثيرات هائلة على التنويـــــر وتحقيق اهداف الحوار الانسانية . شخصيا قد الزمت نفس بالتبرع بمبلغ 10 يورو شهريا منذو بداية السنة اتمنى من الكتاب المشهورين مثلك واخرين المبادرة لمثل هذه الدعوة . سيتمكن الحوار من تخصيص مكافاة مجزيـــــة للكتاب المرموقين فليس من الانصاف ان يتحول كبار الكتاب الى شموع منيرة تحترق دون اي مقابل مادي تحية


2 - الفكرة
رائد الحواري ( 2015 / 9 / 11 - 06:56 )
فكرة جميلة، وشكل تقديمها رائع

اخر الافلام

.. اتكلم عربي.. إزاي أحفز ابنى لتعلم اللغة العربية لو في مدرسة


.. الفنان أحمد شاكر: كنت مديرا للمسرح القومى فكانت النتيجة .. إ




.. حب الفنان الفلسطيني كامل الباشا للسينما المصرية.. ورأيه في أ


.. فنان بولندي يتضامن مع فلسطين من أمام أحد معسكرات الاعتقال ال




.. عندما يلتقي الإبداع بالذكاء الاصطناعي: لوحات فنية تبهر الأنظ