الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


آيدلوجيات وأستراتيجيات

عماد حياوي المبارك
(Emad Hayawi)

2015 / 9 / 13
مواضيع وابحاث سياسية


((آيدلوجيات وأستراتيجيات))
... يخطأ من يُصوّر زمن السبعينات والثمانينات بالعراق، بأنه كان زمن خير، بالعكس فهو أمتداد لسياسة الجماجمُ والدمُ.

في بداية السبعينات، كنت طالب بصف أول متوسط، وكان نظام البعث بالعراق قد بدأ بحملة محمومة لتوسيع قاعدته (الجماهيرية) بلا هوادة، جنّد لها آلاف مؤلفة من (الرفاق).
وبالرغم من أنهم كانوا ينادون بكسب النوع وليس الكم، لكنهم لم يستثنوا كائناً من كان، يبحثون في الأسواق والأحياء السكنية والمصانع والجيش، كل مكان مسموح التحرك فيه والاصطياد منه، لكن المدارس والجامعات كانت هي الافضل وتوفر بيئة خصبة وغنية ويافعة لتحركاتهم، التعليمات تقول أن كل نصير يتمكن من كسب عشرة مؤيدين جُدد يترفّع لدرجة نصير متقدم...
كانت ساحة المدرسة خلال الاستراحة التي بين الدروس (الفرصة) تشهد غارات الرفاق علينا لدرجة كرَهنا أن ينتهي الدرس أو أن نحضر للمدرسة مبكراً وأصبحنا كذلك نستعجل (الفلتان) بعد الدوام.

في تلك الفترة كنتُ قد تعلمتُ بدرس اللغة الانكليزية معنى كلمة (آيديا) أي فكرة، لكني لم أستطع الربط بينها وبين كلمة (آيدلوجية) التي يستخدمها القاصي من الرفاق والداني، يستخدمونها في التلفزيون وحين يخطب المدير في تحية العلم ويتداولها أنصاف المثقفين وأرباعهم.
أخذت كلمتي هذه لأخي الراحل (طارق) الذي كان حينها شاباً ضعف سنين عمري وطلبتُ أن يشرحها لي، قال أنها مستوحاة من (الآيديا) وتعني خطة أو منهج أو برنامج عمل... حسب مدلوها بالجملة.
(آيدلوجية) الحكومة الداخلية هي خطتها في بناء المجتمع وتطوّره، و(الآيدلوجية) الخارجية هي سياستها بين الدول، و(آيدلوجية) مصنع أو شركة هي الخطة التي يضعها مجلس ادارته لتسيير أعماله ولرفع وزيادة حجم ونوعية وتحسين منتوجه...
وطبعاً فقد أخذتْ هذه الكلمة موقعها لدى خطابات الرفاق حين يشرحون (آيدلوجية) الحزب أي (أستراتيجيته) دون ان يعوا معناها الحرفي، فأرتبطت هذه الكلمة بتلك الفترة بخطاب حزب البعث لكثرة ما تتردد، وكم كانت هذه اللغة في تلك الايام، صعبة علينا ونحن صبيان أو شباب علينا أن نقرر إما أن نخوض غمار السياسة ومخاطر ممارسة العمل بمعارضة سياسة الدولة والأتخراط بحزب آخر لتصبح كاللعب بالنار أو أن نتجنب (لغوة) السياسة ونترك مجاهلها ودهاليزها ونطمح فقط للتزود بالعلم كي يتركنا (أهل السياسة) بعيداً، وكان لأحدنا كي يأخذ جانب الحياد أن يُمارس نضالاً بحد ذاته بين فريقين وفكرين ومدرستين لهما أناس متنافسين شديدي االبأس.

كان أحد أعضاء (لجنة النشاط المدرسي في المتوسطة) طالب مجتهد ومؤدب إسمه (بهاء الدين)، حينما تقرّب مني يوماً، كنت على وعي ودراية من هدفه المنشود، فسايرته ولم أعتذر ولا أبرر أو أتهرب كما فعلت مع من سبقه.
بدأ يشرح لي مستقبل العراق والامة العربية على يد حزب البعث، واُفق مستقبل الزراعة والصناعة والتعليم والصحة لو انظممنا نحن الطلبة وطبقتنا المتعلمة، بدمائنا الشابة وطبقنا... (آيدلوجية) الحزب.
فسألته كي أختبره ـ بأعتبار أنه أقترح أن يصبح مسئولي وبأشرافه وعلى يده (سأتسلق) ناصية الحزب بسرعة ـ أن يوضح لي ماذا تعني كلمة (آيدلوجية)؟
لف ودار وقفز وحاول لكنه اخيراً سكت وقال... (ما أدري!)، بعدها صار يكتفي المسكين بتحيتي من بعيد.
× × ×

كان أحد بيوت أعمامي يقع بمدينة الحرية، وأبن عمي أكبر من عمري بقليل، حيث وُلدَ بثورة تموز بالضبط، فأذهب بالباص 81 كي أزوره، بمنتصف سوق الحرية بمكان مكتوب علية (نهاية منطقة) يتوقف الباص عدة دقائق قبلما يعرج على حي نواب الضباط، عندها قام أحدهم بفتح مقهى صغير لِمن يريد أن يرتشف استكان شاي، وبينما كنت أترقب زبائنه حيث يصبون الشاي على عجل في الصحن كي يبرد، كنت أرى من نافذة الباص بيت شعر كـُتب ببوية سوداء على واجهة المقهى، أقرأه مكرهاً لأنه يشغل مساحة كبيرة...
بعثٌ تُشيده الجماجمُ والدمُ تتهدمُ الدُنيا ولا يَتهدّمُ*
كنت أستاء منه جداً، فبيت شعر واحد يجعل الواحد منا يتردد كثيراً إن لم يرفض بشكل قطعي أن ينخرط في هكذا حزب، فبرغم أن بيت الشعر هذا يجمع بين أحلى معاني الكلمات كالتشييد والدنيا والبعث، لكنه يحوي أسوئها كالتهديم والجماجم والدم، ولا أجد فيه مديح وأطراء بقدر ما يحوي من لغة تهديد ووعيد، وكنتُ اقول في قرارة نفسي، كيف أن شيء يُبنى على العنف والقتل يمكنني الانظمام إليه؟
هكذا أصبح بيت الشعر هذا، يمثل عندي أحد أسباب قوية دفعتني بأن (أقفل ما أصير بعثي)!

وإن كان هذا الأمر قد وضع (قفلاً) بالحاجز بيني وبين هكذا حزب، فالأمر الاخر الذي (أضاع مفتاح القفل نهائياً) أن صدر بتلك الأيام كُتيب رهيب أسمه (التقرير السياسي للمؤتمر القطري الثامن للحزب)، لم يكن مضمونه مضمون كتيب بحق، وإنما أنا واثق بأن حتى من كتبه لم يفهمه، كان من حسن حظي أني لم اُجبر على قراءته، لكنني اطـّلعتُ عليه وبرغم اني بذلت جهداً وعصرت مخي المتفتح وقتها، إلا انني لا ولم ولن أدرك أو أربط بين فقراته أو أن أفهم ولا حتى جملة واحدة منه!
يتطرق الكتيب لفلسفة الحزب ومستقبل الامة وصراعاتها، ويناقش أهدافهم لو طُـُبـّقت على أرض العرب من بغداد إلى تطوان. لعل منكم من قرأه وفهم شيء لست ادري، فلربما هي مشكلة في فهمي، لكني ادركت حينها أن بأمكاني أن أدرس نظريات حديثة في درس سيطرة عمليات أو رياضيات متقدمة وكيمياء عضوية وفلك، لكني لم أفهم ولا صفحة منه رغم أني حاولتُ، فحدود عقلي وسعة إدراكي وربما (غبائي) وقفا بيني وبين فهمه، فالعقل لا يفهم ولا يحفظ إلا ما يروق له!

((... إن أفق التعامل مع أستراتيجيات الموقف في حالة الخضوع للإرادة المعاكسة ينبع من عدم فهم الطبيعة الخاصة لخاصية المكوّن الذي من الطبيعي أن تُطبع سماته بأطباع من يمكنه أن يتطبع بطابع تطلعات الأمة العربية الواحدة وأهدافها برسالتها الخالدة))!
يُذكرني التقرير بكلام أحد اسادة المسئولين الذين تملأ اصابعهم محابس الفضة ذي الاحجار (متنوعة التأثير) والذي يستحرم مصافحة سيدة ويحكم اليوم في العراق على رأس تجمع سياسي كبير!
× × ×

احياناً الدماغ (يأبى) ان يسجل معلومة، تحليل او تفسير أو مرادف لأمرٍ ما، وكانت لي مشكلة بعدم استيعاب أي رفيق أعلى منزلة حزبية من الآخر، عضو شعبة وعضو مكتب وعضو فرقة وعضو فرع. وحالي كحال الكثيرين اللذين ليس استطاعتهم ترتيب الرتب العسكرية، فلو سألناهم ترتيب رتب عقيد ورائد ونقيب ومقدم، سيضحكون كثيراً ثم يقولون... (والله ما أعرف!).
ومع أن أجوبتهم قد تكون مُبَررة لعدم مواكبتهم الجيش، لكن مشكلتي في أن أحفظ أي منزلة حزبية أعلى من الآخرى بقي صعب عليّ برغم أني عاصرتُ مختلف الرفاق وزاملتُ البعض منهم...
والله العظيم أصدقكم القول أنني حتى اليوم لا أعرف، وقد وضعني ذلك في حرج، فحين كان أحد الأصحاب يفتخر بأنه توسط لدى عضو شعبة، أو أنه زار عضو فرقة، لا أستطع تقدير الأمر أو قيمة ما فعل، فأكتفي بالسكوت وعلامات إعجاب ترفع حاجبي للسماء!

ألم يعاني أحدنا يوماً أنه لا يميز بين أسمَي أخوين أو أختين برغم أنه يلتقيهم بأستمرار، ومهما يركز لكن عقله يرفض خزن أي معلومة تميزهم.
كان بيت الجيران الواسع المقابل لبيتنا مباشرة، يسكن فيه أخوين هما حسن وحسين وعائليتهما، لحسن سبع أبناء منهم اربع أولاد بعمر الشباب، ولحسين أربعة منهم ولدين، وكان الأولاد الستة أصدقائي وعِشرة عمر معهم، لكني ـ ولحد يومنا هذا ـ لا أقدر أن أميّز أياً منهم ابن حسن أو ابن حسين!
وفي يوم كنت أقف معهم عند عتبة الدار، أرادت أمي مني أن أنده لها أحد أولاد حسين...
ـ يمّة صيحلي من يمك على واحد من ولد عمك حسين.
لفني الحرج وناديت على كل أسماء الواقفين بجانبي!
× × ×

في فترة تأميم النفط عام 72 تداول الناس البسطاء كلمة (تأميم) لكثرة تكرارها، وهي كلمة على لهجتهم وثقافتهم دخيلة، فلم يحدث ان تداولتها ربة بيت بسيطة أو شيخ أو مُزارع، وبعد ذلك بسنوات حين صدر قانون التأمين الالزامي على السيارات في (أستراتيجية) الدولة لمسك نظام متطور بالبلد، وقع نفس الاشخاص بمشكلة برغم أن فترة التطبيل للتأميم قد مرت، فكلمة (تأميم) بقيت عالقة بعقولهم، ليتداولها الشارع من جديد دون وعي، لكن هذه المرة على السيارات، فتجد أن سائق (البيكب) يخبرك بسعادة وهو يحمل بوليصة تأمين سيارته قائلاً... (اليوم أممت سيارتي)!
× × ×

حكى لي أخي الراحل (طارق) أنه وفي فترة منتصف الثمانينات، كانت حملة مسعورة على موظفي الدولة في (أستراتيجية) للانخراط بالجيش الشعبي، فأختلق (الزلم) كافة الوسائل للتهرب من هذه المحرقة اللعينة بسبب مخاطر الانخراط في قواطع الجيش الشعبي التي يمقتها الإيرانيون بشدة ويتعاملون مع المتطوعين على أنهم جميعاً بعثيين، وكان الأستاذ الجامعي أو المدير أو المهندس والطبيب، يجد نفسه في يوم وليلة وقد وضعوه بين (بيرية وبسطال) وبأمرة رفيق حزبي أقل منه مكانة وثقافة وتعليم.

أستفاد أخي الراحل (طارق) بوقتها من تقاريره الطبية ليبقى جانباً، في وقت كان حزبيي مناطق بغداد يتنافسون لتجنيد أكبر عدد من الرجال وبكافة الوسائل والأساليب وبممارسة كل الضغوط المتاحة، يتَرَجون من ذلك كلمة (عفية) حينما ينجحون بمسعاهم، فهَجر من هجر بيته، وهرب من هرب بينما ترك آخرون حتى الوظيفة...
في تلك الاثناء، زار أخي لمحله ببغداد الجديدة زبون، ومن خلال تعارفهم تبين أنه أحد الرفاق المسئولين عن تجميع أحد قواطع العمل الشعبي، شرح طارق له تفهمه للواجب الوطني في الانخراط بأحد القواطع، لكن أطلعه على تقاريره وقال إن عجز القلب انما يحتاج لهدوء وسكينة وراحة وفحص وعلاج مستمر.
تعاطف الرفيق معه وأقسم يمين (حلف) أن يجلب له كتاب إعفاء، فأصطحب معه صور لتقارير (طارق) ومضى. نسي (طارق) الأمر كلياً، لكن وفي غضون أسبوعين، أوفى الرفيق بوعده وأرسل له بيد معتمد كتاب يحمل إعفاءه، ليخرج مُحملاً بهدية ذهبية للرفيق وخمسين ديناراً لأم (الجهال).

كانت قيمة هذا الأعفاء أكبر بكثير من قطعة ذهب وكم ورقة نقدية، خصوصاً وهو يحمل إمضاء بالحبر الأخضر لأحد السادة المسئولين الكبار!
صوّر (طارق) منه عشرون نسخة، وزعها في المحل والسيارة وفي مسكنه وفي جيب كل بنطرون سواء كان يستخدمه أم لا، وكما متوقع فقد تحرك الرفاق لإستكمال أحد القواطع، فهجم على بيته بليلة مظلمة...
ـ يلـّة طارق وصل سراك، إلبس هدومك بسرعة وتعال بلا نقاش!
كان لا يزل الليل أمامه طويل وعليه الانتظار داخل غرفة بالمنظمة الحزبية ـ الشعبة أم الفرقة لست أدري ـ وهو يتوسل بالرفاق ان يُخلوا سبيله لأنه معفى، حتى جاء الصباح وحضر الرفيق عضو (ما أعرف شنو) فأخبروه أنهم ومن بين ما أصطادوه كان المدعو (طارق)!
في غرفة واسعة مُدفئة ومضاءة أخبره (طارق): سيدي الرفيق آني عندي اعفاء.
ـ يا زمال أعفاك؟
وهنا أعطاه (أبو زياد) النسخة الاصلية مذيلة بالحبر الأخضر...
ـ ها، إي، يلـّة اطلع ما أريد اشوفك.
ثم دمدم السيد الرفيق: لو بس أعرف إنتم الصبّة شلون توْصلون للكبار؟

... وبينما أكمل (طارق) حكايته، عبر لي عن السعادة التي أحسها بتلك اللحظة حين رضي الرفيق عضو الشعبة بكتاب الرفيق عضو الفرقة، عندها أسمعته تعليقي ورأسي يهتز عمودياً...
ـ إضرب (أبو زياد) أمورك كانت ماشية بين السادة الرفاق، بس مَ إفتهمت هو عضو الشعبة أعلى لو عضو الفرقة؟

عماد حياوي المبارك

× هذا البيت للشاعر (مثنى حمدان العزاوي) الذي واكب وهو الشاب المنتمي لحزب البعث، حالة عدم الأستقرار بالعراق بعد الثورة على النظام الملكي، وبرغم كونه شاعر من الدرجة الرابعة لكنه كُني بشاعر (الأستشهاد) بعد أن قُتل في أنقلاب 8 شباط الدموي عام 63 وهو بعمر 25 عاماً.
جُمع وطبع له ديوان بأسم (لن تراني الضفاف).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصادر: ورقة السداسية العربية تتضمن خريطة طريق لإقامة الدولة 


.. -الصدع- داخل حلف الناتو.. أي هزات ارتدادية على الحرب الأوكرا




.. لأول مرة منذ اندلاع الحرب.. الاحتلال الإسرائيلي يفتح معبر إي


.. قوات الاحتلال الإسرائيلي تقتحم مناطق عدة في الضفة الغربية




.. مراسل الجزيرة: صدور أموار بفض مخيم الاعتصام في حرم جامعة كال