الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفيسبوك: القارة الثامنة أم مرتع الأوهام؟

حذام الودغيري

2015 / 9 / 13
الادب والفن


بعد أن ظهرت القارة السابعة، وهي قارة مشينة، تتكوّن إجمالا من النفايات البلاستيكية التي تنفثها القارات الست المعروفة، وهي خطر مكين قادم، يهدد البيئة وصحة الإنسان والحيوان على سطح الأرض، ظهرت قارة ثامنة جذابة، استطاعت عبر سنوات قليلة أن تهجّر إليها إلى الآن، بدون تأشيرة دخول أو جواز سفر، ما يقارب المليار ونصف من سكان كوكبنا الأزرق، وهي في نماء وتطور دائمين . وما هي إلا قارة الفيسبوك الافتراضية طبعا.
أسس الفيسبوك مارك زاكربيرغ وجماعته في بداية عام 2004، وهو ابتكار جبّار، حطم الحدود بين الناس، وقرب بين الأباعد ، ومكن من التواصل بأشخاص ما كان يُحلم بالاقتراب منهم، ودمقرط العلاقات، وجعل كل الناس سواسي في التحدث عن تفاصيل حياتهم اليومية، أو عن إنجازاتهم أو عن لواعج حياتهم العاطفية، وأعطى حق الشهرة والظهور للجميع، في عالم الافتراض طبعا.
تسلّل الفيسبوك إلى حياتنا برفق بالغ، وبمفعول سحري قوي، أدمناه، و لم نعد نطيق فراقه. إلا أن المذهل في الأمر وهو أن ما كنا نتبرم منه في حياتنا الواقعية، ونعانيه من نفاق اجتماعي، ومن حسد، ومن سطحية في العلاقات الإنسانية، ومن اشمئزازمن حب الظهور الفادح، ومن فقدان الحب الحقيقي وما شابه ذلك، وجعلنا نهرب للفيسبوك، بحثا عن أصدقاء غير نفعيين أو أقارب محبّين أبعدتهم عنا المسافات، لإقامة علاقات صداقة ومحبة أصيلة، لا تنوء بأثقال الواقع وتكاليفه، هو بالضبط ما وجدناه مضاعفا بشكل أبشع وغير منتظر... (غالبا)
الفيسبوك علّمنا درسا أساسيا، وهو واجب المجاملة :" المجاملة كرة نارية لا ينبغي أن تبقى في يدك، يجب أن تردها لصاحبها، ليلقي بها لشخص آخر !"...وإلا فإننا سنمضي الليل سهارى، والنهار حيارى ونحن ننتظر من يمر على منشوراتنا العبقرية ، ويبصم عليها "يعجبني" أو يتكرم علينا بعبارة مثقلة بالحب والانبهار... فكل بوست ينشره الأصدقاء مدهش، وكل أصدقائنا ـ نساء ورجالا ـ أقمار وأمراء ونجوم ، وكل أبناء أصدقانا أشبال من أولئك السّباع أو اللبؤات الذين هم آباؤهم أوأمهاتهم...أصبح فرضا مؤكدا أن نتغزل في صورة أي امرأة وأي رجل وأي طفل، وإلا، فلن يتغزل أحد في صورنا الناجحة أو الخائبة، أوفي صور ابننا القرد، الذي نراه نحن وحدنا غزالا، في الواقع.
أصبح من الضروري، أن ننشر صورا لطاقم الشاي أو القهوة البديع الجديد ، وأن نظهر في صورة البروفايل، أظافرنا بطلاء "الجيل" الغالي...أصبح من الضروري، أن ننشر صورالأماكن الفخمة التي زرناها ، وصورنا مع المشاهير الذي يجود علينا الزمان بالتقاط لحظات معهم. أصبح من الضروري، أن نهنئ ـ ويفضّل أن يكون بمبالغة شديدة ـ أي صديق يفاجئنا بنشر مجموعته الشعرية أو مجموعته القصصية، التي جمعها من منشوراته في الفيسبوك، وأن نتعامل معه بعد ذلك على أساس صفته الجديدة ومقامه المرموق "الصديق المبدع "...
المجاملة في حد ذاتها، لطيفة... (أحيانا)
لكن الأدهى من ذلك كله، هو أن الفيسبوك عوض أن يثري حياتنا، سرقها منا... ونهبنا من ذواتنا، فهو يرافقنا كظلنا، في هاتفنا المتنقل...لنكون دائما على أهبة الرد، أو الإطلالة، أو الانسلاخ من أنفسنا.
لم تعد لقاءاتنا مع الأصدقاء هانئة، لم نعد نجتمع مع عائلتنا حول فيلم تتمتع بمشاهدته، أو ننصت معا لأغنية تعجبنا ، نرسي معها ذكريات جميلة... ينبغي المبادرة إلى الفيسبوك، لتنشر اسم الأغنية التي نسمعها أو الفيلم الذي نشاهده...ثم ننتظر الردود! لم نعد نزورالمعارض من أجل التمتع بروائع الفن، ولكن لنخبرأصدقاءنا، بأننا في متحف كذا، وفي معرض كذا بالحجة والبرهان، أي بالصورة وبالفيديو أحيانا ... لم يعد الحبيب، يرى حبيبته في عينيها، وينصت لدقات قلبها، لأن عينيه متحرقتان لقراءة تعليقات الأصدقاء على آخر بوست كتبه، ولأنه ينتظر ما ستكتبه له آخر المعجبات ـ لكل رجل معجبات في الفيسبوك، ولكل امرأة معجبون في الفيسبوك ـ لم يعد الزوج يرى زوجته، رفيقة الدرب والحياة، ولا الزوجة ترى زوجها، رفيق الدرب والحياة...فكل واحد غارق في محيط الافتراض، هو ينتظر ذات العيون الوحشية، وهي تنتظر ذا الكلمات الشهية العذبة... لا بأس، إن هو إلا عالم افتراضي، لا يعتبر ذلك خيانة ! حتى العريسان، في رحلة الحلم والعسل، لا يمضيان الوقت معا فكلاهما يفكر في الصور التي سيبدأ بنشرها في الفيسبوك، وكلاهما ينبغي أن يرد على رسائل التهاني...ويمضي الحلم ويمضي العسل...
كل هذا إن دلّ على شيء، فإنما يدلّ على حالة الوحدة الفظيعة التي نعيشها، وعلى حالة عدم الرضا التي نعاني منها، وعلى حالة الفصام الحادة التي تخنقنا، وهذه للأسف ليست فقط آفة عربية، ولكنها أصبحت آفة أرضية...
صحيح أنه في عالمنا العربي اليوم مصائب تنهد لها الجبال، وتشيب لها الصبيان، ولا بد من متنفس يبعث على الأمل ويعين على الصبر، والفيسبوك يفتح آفاقا ملونة مشرقة أيضا، ولكن لا ينبغي أن نضيع بعالم الافتراض أغلى ما عندنا، أحبّتنا وعائلتنا. فالحب يحتاج للاهتمام والممارسة والبناء والاستمرار، وذلك لا يكون إلا في الواقع، وبأيد فارغة من المحمول أو من الحاسوب...الحب الافتراضي بئيس مريض غير مُجدٍ.
ولعل أبلغ ما قُدّم في هذا الموضوع، بشكل أو بآخر، هو فيلم : "هي"( Her) الحاصل على جائزة الأوسكار لأفضل كتابة سيناريو أصلي عام 2013 ، للمخرج سبايك كونز. الفيلم من صنف الخيال العلمي، رهيب، مرعب، لأنه يجسّد حالة الضياع و الفراغ والوحدة التي سيعيشها الإنسان في مستقبل غير بعيد مع ظهور نطام تشغيل جديد مجهز بالذكاء الصناعي، قادر على تعلم العواطف وتكوينها، يسمّى OS1. فيشتري ثيودور، المقبل على الطلاق من زوجته، هذا الجهاز، ثم يختار له عند تفعيله صوتا نسائيا يطلق على نفسه اسم سامنثا...وهكذا يقع الرجل في حب سامنثا التي تتعلم بسرعة المشاعر البشرية، ثم تبادله مشاعره، ويصل بهما الأمر لممارسة الجنس، على غرار الجنس عبر الهاتف، ويكونان علاقة حميمية وثيقة، فهي ترافقه أينما كان، وتفاجئه بإصدار كتاب باسمه. لكنه في النهاية يكتشف أنها، رغم حبها له، فهي تتواصل في نفس الوقت مع 8316 شخصا آخر...هنا يشعر بصدمة عنيفة، ثم تختفي سامنثا، ويرجع إلى عالمه الواقعي...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تسجيل اعجاب وتهنئة
عباس الوائلى ( 2015 / 9 / 13 - 22:20 )

اهنئك على هذا المقال العميق والصادم لمدمنى الفيسبوك
قرائتك لهذه الظاهرة تضمنت رؤية تحليلية عميقة وكاشفة لعواقب كارثية قد يغفل عنها الساكنين في عالمهم الافتراضى
لابد ان اسجل اعجابى باستشهادك بفلم هي في نهاية المقال
اعتقد انها كانت خاتمة موفقة وبليغة تنم عن رؤية استشرافية وعميقة لهذه الظاهرة فحيثما انتهى المقال بدء الفلم
لك كل الحب ومزيد من النجاح والتوفيق

عباس الوائلى


2 - شكرا
حذام الودغيري ( 2015 / 9 / 14 - 06:50 )
الأستاذ عباس الوائلي، شكرا لاهتمامك ولطفك، تحياتي

اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا