الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القرد 04

رياض محمد رياض

2015 / 9 / 14
الادب والفن


4

" صافي ، يا صافي ."
" نعم يا وائل ."
" أين هي رابطة العنق المرقطة ؟ "
" في الدرج السفلي يا حبيبي ."
" لا أجد شيئاً ."
صوت أدراج تفتح وتغلق ، صافي تضع الأطباق على منضدة السفرة و في خفة و رشاقة تدلف إلى غرفة النوم ، زوجها وائل أمام المرآة يصفف شعره ، تبحث صافي عن رابطة العنق في الأدراج السفلية من الدولاب ثم أخيراً :
" ها هي يا حبيبي ."
" لماذا كل مرة هذه الرابطة بالذات تختفي بعيداً عن باقي الرابطات في الدرج ؟ "
" إن هذا أمر جدير بالبحث فيه ، الفطور جاهز ."
منهمكاً في عقد الرابطة :
" هل الصغير مستيقظ ؟ "
" إنه في الحمام ، ثم هو لا يحب أن تناديه بالصغير ."
" إذن بما أناديه ؟! ، الكبير ، الكبير جداً أم بالعجوز ؟ "
" ناديه باسمه .. شريف "
تصلح له من وضع الرابطة وتساعده في ارتداء سترة البذة ثم تمضي مبتسمة ، يسعد وائل جداً بزوجته لكن ابنه شريف ، لا يدري ماذا حدث جعل العلاقة بينهما علاقة جافة ، كلما يجتمعان يجد نفسه لا إرادياً يحاول توجيهه و إرشاده ، يأمره بفعل شيء ما أو ينهاه عن فعل شيء ما ، و بالتالي الولد لا يبدي سوى التذمر ، التذمر الدائم و لا شيء سواه ، وائل لا يريد أن تصير العلاقة بينه وبين فتاه الوحيد علاقة مرشد وموجه فقط يريدها علاقة أب حنون رءوم علاقة صداقة لكن عينا ابنه تصده تمنعه من التواصل لابد أنه فرق السن إذن ، فقط سيحاول إضفاء بعض المودة على علاقتهما سيضيف بعض الزيوت على تروس حركة الوصال بينهما ، سيبتسم له .
بوجه باسم يجلس وائل متخذاً موضعه من المنضدة ليتناول الفطور ، صافي أمامه شعرها المتهدل على عينها اليسرى يزيدها فتنة في الصباح الباكر و تقول :
" ألن تعود اليوم مبكراً ؟ "
ينظر إليها مترقباً :
" لماذا ؟ "
" لأننا سنذهب - أنا و شريف - إلى ماما و كنت أود أن تأتي لتأخذنا بالسيارة ."
" متى ستذهبان ؟ "
" تقصد متى تعودان ، ؟ فطلبي لك في العودة وليس الذهاب ، ففي المساء الدنيا تصبح أكثر توحشاً والظلام يضفي الكثير من الرعب على الأشياء ."
يمد يده تجاه يدها ويربت على كفها في حنان :
" لا تقلقي يا حبيبتي ، و لا تفكري كثيراً في الأحلام التي تراودك ليلاً ."
" أحلام !! إنها كوابيس يا وائل ، كوابيس ."
يحاول وائل الخروج من هذا الحوار ، ينادي على ابنه في ضيق مصطنع :
" هيا يا شريف ستتأخر على المدرسة ."
" لا تنسى يا وائل ، أرجوك ، لن نعود إلا معك ."
" لا تقلقي ، لا تقلقي ."
مسح فاه وقام ليذهب إلى عمله ، شريف هو الآخر يتناول فطوره ويرحل إلى مدرسته و يصبح البيت خواء ، كانت تشعر صافي بالضجر حين يذهب الجميع وتبقى وحدها ، هذا فيما مضى ، أما الآن وحين يذهب الجميع تشعر صافي بالرعب وليس الضجر .
التلفاز لم يعد يبث شيئاً شيقاً و لن تطهو اليوم شيئاً ، فاليوم كله سيقضى عند الأم ، إذن ماذا تصنع الآن ؟ ، كانت وهي صغيرة تجلس في حجرتها في أوقات فراغها تتخيل ألعاباً شيقة . تتخيل الفراش وكأنه بحر زاخر ، محيط مهيب ، هنا عند الوسادة في الجانب الأيسر تكمن جزيرة القراصنة ، و هناك عند نهاية الفراش ، عند موضع القدمين البوارج الحربية تطلق ذخيرتها على .. على .. لا تدري على أي شيء لكنها تدري جيداً كم كانت سعيدة حين تنظر من خلال باب الغرفة لترى الأريكة وكأنها قارب بصارية يرفرف عليها شراع أبيض جميل يقوده الفارس النبيل الذي سينقذها من القراصنة ويعبر بها بين حطام السفن ، و يداريها عن أعين الحيتان و يذود عنها ضد وحوش البحر سيقاتل من أجلها وبكل شراسة كل قروش المحيط .
لقد كانت حياة جميلة في الصغر ، كانت تنظر إلى الموجودات حولها في غرفتها و كأنها أشياء جميلة سعيدة ، أما الآن فهي ترى كل شيء يكرهها ، هذه الساعة التي تدق في الصالة بصوت مزعج ، صوت يصر على مضايقتها ، الساعة تعلم جيداً أنها لا تحب الأصوات المرتفعة ، و قد أخبرتها بهذا مراراً :
" أرجوك لا تثيرين مشاعري نحوك ، صوت دقاتك يزعجني ، إن لم تكفي عن الصراخ في كل دقة سأضطر إلى نزع البطاريات من أحشائك ، سألتهم قلبك و أحطم أطرافك ، سأتركك بلا عقارب أيتها الخبيثة ".
كانت تدرك جيداً أنها بعد أن تولي الساعة ظهرها ، كانت تخرج لها لسانها في استهزاء واضح ، لكن حين تلتفت إليها سريعاً كانت الخبيثة تتظاهر بالبراءة ، تتظاهر بأنها تدق كل ثانية من أجل إشعارها بمرور الوقت و أن هذا واجبها .
" الخبيثة تتعلل بواجبها ، حسناً سنرى ! "
ما يضايق صافي حقاً هذه الأيام هو شيء في غاية الخطورة ، هو أن كل ما يحيط بها من أثاث و مفروشات و ستائر و تحف و أدوات بل وجدران و أبواب و ... كل هذا يكون هو خلفية المشهد في كوابيسها الليلية ، لقد حلمت ذات ليلة أن المطر في الخارج أيقظها من النوم ، إنها تسمع صوت السيل الدافق بالخارج على الدروب ، تنبهت و نظرت لزوجها وجدته يغط متلذذاً بنومه ، حسدته ، نهضت من الفراش وخرجت ذاهبة للحمام مرت بالصالة ، و أثناء مرورها شعرت بشيء ما يتبعها ، نظرت خلفها فلم تجد شيئاً ، الإضاءة خافتة ، لكنها تحفظ مكان كل شيء في البيت ، الساعة تدق في روتين حانق ، صرخات عقاربها تدوي في أذنها حين تمر أمامها ، تقف تستدير إليها برأسها ، شعرها المبعثر يستدير معها تنظر إلى الساعة و خلفها تسمع الخطوات تقترب ، لقد استغرقت الساعة القبيحة انتباهها تماما فنسيت هذا الشيء الذي كان يتبعها و حين التفتت نحوه مسرعة كان قد أطار رأسها بسيفه ، قطع عنقها ، فتدحرجت الرأس ذات الشعر المبعثر واستقرت هناك جاحظة العينين بين أقدام الأريكة تنظر بكره إلى من قطع عنقها ، إنه المشجب ، هذه العلاّقة الخشبية الطويلة بجوار الدولاب التي تعلق عليها الملابس تلك العلاقة القذرة جاءت تتربص ، تتحسس موضع قدميها ، ثم في لمح البصر تسدد ضربتها ، أين كانت تخبئ هذه الملعونة كل هذا السيف العملاق ؟!!!
بالفعل لقد كان حلماً رهيباً ، حين قامت من النوم حقيقة لم تنتظر ، راحت تفتش في الملابس المعلقة على العلاقة الخشبية بجوار الدولاب ، تبحث في المعطف الأسود ، في البنطال ، أين تخفي هذه العلاقة السيف ؟! ، الآن تدري قيمة كلمات زوجها " لا تفكري كثيراً في الكوابيس التي تراودك ليلاً " لقد أصابها إرهاق فعلاً حين تذكرت هذا الكابوس .
ترتمي على الفراش ، وتنام على ظهرها تفكر ، بالتأكيد في المرآة التي على يمينها الآن ، امرأة شرسة تنظر إليها بغل و تنام على فراش مثلها ، إنه انعكاسها في المرآة ، إنها تفكر في أي شيء تفكر هذه المرأة الشرسة ؟ أن تخرج من المرآة وتخنقها ! لكنها لن تكلف نفسها عناء التلفت إلى يمينها و النظر في المرآة ، فهي لم تعد تقلق من شيء ما بعينه بل أصبحت تخشى كل شيء ، كل ما حولها متربص بها ينتظر لحظة الإنقضاض ، لحظة الفتك بها ، وفي كوابيسها كان كل ما حولها قد فتك بها آلاف المرات ، هذا الفراش بالذات المستلقية عليه الآن افترسها وحده في كوابيسها أكثر من ثلاث مرات ، كل مرة بذات القسوة ، بذات الوحشية ، وكل مرة تشعر بذات العذاب ، لقد أصبحت كوابيسها شيء لا يطاق .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. برنار بيفو أيقونة الأدب الفرنسي رحل تاركًا بصمة ثقافية في لب


.. فيلم سينمائي عن قصة القرصان الجزائري حمزة بن دلاج




.. هدف عالمي من رضا سليم وجمهور الأهلي لا يتوقف عن الغناء وصمت


.. اختيار الناقدة علا الشافعى فى عضوية اللجنة العليا لمهرجان ال




.. صباح العربية | نجوم الفن والجماهير يدعمون فنان العرب محمد عب