الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شِعريَّةُ الحكايةِ، في قصيدَةِ النَّثرِ المِصْريَّةِ

شريف رزق

2015 / 9 / 14
الادب والفن


بَرَزَتْ النَّزعةُ الحِكائيَّة، منذُ الشِّعر الجاهليِّ، بدرجَاتٍ مُتعدِّدةٍ، ضِمْنَ منظومَةِ الغنائيَّةِ الشِّعريَّةِ، ثمَّ في شِعْرِ عمرَ بن أبي ربيعةَ، وفي شِعْرِ أبي نُواس، وفي شِعر أبي تمَّام، ثم برَزَتْ، على نحْوٍ كثيفٍ ومُغايرٍ، مُنذُ ولادَةِ الثَّورَةِ الرُّومانسيَّةِ، في شِعْرِ عبد الرَّحمن شُكري، ثمَّ في شِعْر أحمد زكي أبو شادي، وعلي محمود طه، وصالح جودت، ومختار الوكيل، كجزءٍ من الثَّورةِ على نظامِ الشِّعريَّةِ العربيَّةِ القديمَةِ وعلى آليَّاتِ الموقفِ الغنائيِّ المُتكرِّرِ، بالاستعانَةِ بأشكالٍ جديدةٍ في الشِّعريَّةِ الأوربّيَّةِ، وهو مَا حَدَثَ كذلكَ - بمُستوياتٍ مُختلفةٍ، وبدرجَاتٍ شتَّى - في حركةِ شِعْرِ التَّفعيلةِ، وبَدَا في شِعْرِ بدر شاكر السَّيَّاب، وصلاح عبد الصَّبور، وعبد الوهاب البيَّاتي، ثم سعدي يوسف، وأمل دنقل؛ تأثُّرًا بتجارب ت. س. إليوت، وعزرا باوند، ولوركا، وناظم حكمت .
وترتبط الحكايةُ بشكلِ القصِيدِ النَّثريِّ ارْتباطًا عميقًا، فهو قصِيدٌ يقومُ على الكتلةِ السَّرديَّةِ، بطرائقَ شتَّي، في تشكيلِ خِطابِهِ الشِّعريِّ، عبْرَ أحْدَاثٍ وشخوصٍ وسَرْدٍ ووَصْفٍ، تجعلُ الخِطابَ الشِّعريَّ حكائيًّا، ينهضُ على الحَدَثِ السَّرديِّ والحَرَكةِ السَّرديَّةِ، وثمَّةَ فرقٌ بينَ الحِكايَةِ والسَّردِ، فالحِكايَةٌ بناءٌ قَصَصِيٌّ يقومُ على وقائعَ وأحْدَاثٍ، عبْرَ شُخوصٍ، في أمكنَةٍ وأزمنَةٍ مُحدَّدةٍ، بمنظورَاتٍ مُحَدَّدةٍ، بينمَا السَّردُ هو صِيَاغةُ خِطابِ الحِكايَةِ، وعلى الرَّغمِ منْ هذا فالسَّردُ جُزْءٌ منْ مكوِّناتِ بنيَةِ الحِكايَةِ، ومكونٌ من مكوِّناتِهِ، قد جَنَحَتْ شِعْريَّةُ القصِيدِ النَّثريِّ إلى شِعريَّةِ الأداءِ الشِّفاهيِّ الحِكائيِّ، وإلى شِعريَّةِ السَّردِ، وسَرديَّاتِ الحَيَاةِ المَعِيشَةِ والتَّفاصِيلِ اليوميَّةِ والشَّخصيَّةِ، وبدَا في بنيتِهَا وَعْيٌ شديدٌ ببناءِ الخِطابِ الشِّعريِّ والخِطابِ السَّرديِّ على السَّواءِ .
وتتحقَّقُ حِكائيَّةُ النَّصِّ بتعاقُبِ وقائعِ الحِكايَةِ، وتناميهَا، عبْرَ سَاردٍ يتحكَّمُ- بمَنْظورِهِ الخاصِّ- في إدارَةِ حَرَكةِ زَمَنِ الحِكايَةِ، وتحويلِهِ إلى زَمَنٍ نصِّيٍّ، يتحرَّكُ بإيقاعٍ خاصٍّ، وقد يجنَحُ إلى المَشْهديَّةِ، أوْ الاسْترجَاعَاتِ، أوْ الاسْتباقَاتِ؛ لتشكِيْلِ زمنِهِ الخاصِّ .
وعلى قدْرِ الوَعْي بطبيعَةِ مكوِّناتِ البنيَةِ الحِكائيَّةِ، وبأدوارِهَا في صِياَغةِ خِطابِ شِعريَّةِ الحِكايَةِ الخاصِّ، في القصِيدِ النَّثريِّ، يتخفَّفُ السَّردُ الشِّعريُّ الحِكائيُّ منْ التَّداعياتِ الشُّعوريَّةِ الذَّاتيةِ، والتَّداعياتِ اللغويَّةِ والمَجَازيَّةِ.
وقدْ تعدَّدَتْ آليَّاتُ البناءِ الحِكائيِّ، وأشْكالِهِ، في القصِيْدِ النَّثريِّ، في نصوصٍ تُشدِّدُ على وقائعَ وأحْدَاثٍ، أو رَصْدِ أشْخَاصٍ في أفعالِهِمْ اليوميَّةِ، أوْ تجنَحُ إلى تعدُّدِ المَنْظُورَاتِ في نصوصٍ ديالوجيَّةٍ، مُتعدِّدَةِ الأصْوَاتِ، عبْرَ عدَّةِ رُوَاةٍ، يتوجَّهُ كلٌّ مِنْهُمْ بخطابِهِ إلى مرويٍّ له مُختلِفٌ،أو يتوجَّهونَ جميعًا إلى المَرْويِّ له ذاتِهِ، أوْ تجنَحُ إلى الرَّصدِ البَصَريِّ عبْرَ السَّردِ السِّينمائيِّ، كمَا تعدَّدَتْ رُؤى البناءِ الحِكائيِّ، تبعًا لمَوَاقفِ الرَّاوي، بيْنَ الرُّؤيةِ منْ الخَلْفِ؛ حَيْثُ الرَّاوي أكثر عِلمًا منْ الشَّخصيَّاتِ، والرُّؤيَةِ المُشَارِكَةِ المُسَاويَةِ؛ حَيْثُ معرفَة الرَّاوي تُعادِلُ معرفةَ الشَّخصيَّاتِ، والرُّؤيةِ منْ الخَارجِ؛ حَيْثُ الرَّاوي أقلّ عِلمًا بالأحْدَاثِ منْ الشَّخصيَّاتِ ؛ ولهَذَا يجنَحُ إلى الرَّصدِ منْ الخارجِ .
وتكشِفُ دراسَةُ البناءِ الحِكائيِّ للقصِيدِ النَّثريِّ المِصْريِّ عنْ وَعْي واضِحٍ بآليَّاتِ البناءِ، وبأدْوَارِ المُكوِّناتِ الحِكائيَّةِ لشِعريَّةِ النَّصِّ، الَّتي تتواشَجُ في نسيجِ الخِطابِ مُشكِّلةً حكائيَّتَهُ .
وقصيدَةُ الحِكايَةِ هيَ قصيدَةُ الكُتلةِ السَّرديَّةِ المُتكامِلةِ، حتَّى وإنْ بَدَتْ في شكلِ سطورٍ شعريَّةٍ غير تامَّةٍ؛ حيْثُ يتدفَّقُ الحَدَثُ السَّرديُّ، أو الخيطُ السَّرديُّ، بطريقَةٍ خاصَّةٍ في سَرْدِ الأحْدَاثِ وعَرْضِهَا، وهذِهِ الطَّريقَةُ الخاصَّةُ هيَ مَا تمنحُ الخِطابَ سَمْتَهُ الخاصَّ .
في هذِهِ الشِّعريَّةِ يبدو النَّصُّ شِعْرًا وقصًّا معًا، ضِمْنَ البنيَةِ الشِّعريَّةِ الَّتي تُدِيْرُ الخِطابَ الحِكائيَّ، كمَا لدي أمجد ريَّان (1952- )، في نصِّه: كمْ تتعثَّرُ الذَّاكرَةُ :
" في نَفَقِ المترو
تحتَ الأرْضِ
أضْرِبُ فخذيَّ للأمامِ
والدُّنيا حارَّةٌ
رغمَ التَّكييفِ المَرْكزيِّ المَزْعُومِ
أمشِي والنَّاسُ منْ حَوْلي تشعرُ "بالزَّهقِ"
يتبادلُ بعضُهُمْ مَعِي نظرَاتٍ سريعَةً وبارقةً
وفجأةً رأيتُهُ
صديقي الَّذي لمْ أرَهُ مُنذُ سَنَواتٍ بعيدَةٍ
كانَ جَسَدُهُ قد امتلأَ، حتَّى أصْبَحَ مِثلَ الدُّبِّ تمامًا
تبادلنا القبلاتِ غيْرَ الصَّادقةِ تقريبًا
وقالَ لي: مَا أخْبَارَكَ؟
قلتُ له: معقولةٌ؟
قال لي: انْظُرْ إلى الدُّنيا يَا أخِي!
قلتُ له: الدُّنيا صَغيرَةٌ
ثم سَألتُهُ عنْ أخبارِهِ
فقالَ لي إنَّهُ يكتبُ السِّيناريو هذِهِ الأيَّامَ
وهو صَديقُ المُمثِّلاتِ والمُمثِّلينَ.
وإنَّه صَارَ يعرِفُ المُمثِّلةَ البدينَةَ الَّتي يُحبُّها الشَّبابُ.
وكانَ العَرَقُ على جبينِي، وعلى جبينِهِ
وفي يدِي حقيبَةٌ غيرُ مُحْكَمَةٍ
ينزلقُ حِزَامُهَا بيْنَ الحِيْنِ والحِيْنِ
وكنتُ أقولُ .. آه
وهو كانَ يقولُ : لابدَّ أنْ نلتقِيَ
وأنا أقولُ: لابدَّ أنْ نلتقِيَ
وكانَ هُو ينظُرُ في سَاعَةِ يدِهِ بقلقٍ شديدٍ،
وأنَا كنتُ أبلعُ ريقِي
وأضَعُ طرفَ اللسَانِ بيْنَ الضِّرسَيْنِ العُلويَّينِ
في الجِهَةِ اليُمْنَى منْ فمِي
لأتخلَّصَ منْ قطعَةٍ صَغيرَةٍ عَالقَةٍ ..
كانَ يبتسِمُ ابتسَامَةً لا مَعْنَى لهَا تقريبًا
قالَ لي : هلْ تذكُرُ أيَّامَ زَمَان؟
قلتُ: نَعَمْ أتذكَّرُ أيَّامَ زَمَان
قالَ لي: لابدَّ أنْ نلتقِي
قلتُ له: طبعًا
ويبدو أنَّ شيئًا يدلُّ على القلقِ ظَهَرَ على حَاجِبَيَّ
لأنَّهُ مدَّ كفَّهُ بسُرْعَةٍ
وقالَ: " يلاَّّ بَاي" .. سَلام
وقلتُ: سَلام
سبقنِي بجسَدٍ مُترهِّلٍ ثقيلٍ
وأخَذَ يجْرِي مِثلَ البَطْرِيقِ
فعُدْتُ أمْشِي بقدمَيْنِ ضَعِيْفتيْنِ

كانَ آخِرُ النَّفقِ قدْ اقترَبَ
وكانَ شَيءٌ منْ ضَوْءِ " المَغْربيَّةِ " المُنْطَفِئِ
يظْهَرُ في حَافَّةِ الفتحَةِ
وكانَ المَارَّةُ يبدو عليهم " الزَّهَقُ" الشَّديدُ
والعَرَقُ تقريبًا يُغطِّي جبينِي ."(1)

إنَّنا إزَاءَ خِطَابٍ شِعريٍّ يتجلَّى حِكائيًّا بامتيازٍ، عبْرَ سَاردٍ مُشَاركٍ، يمتدُّ صَوتُهُ السَّرديُّ من بدايَةِ النَّصِّ حتَّى نهايتِهِ، مُعبِّرًا عنْ ذاتِهِ، ومَرَائيْهِ، ووِجْهَةِ نظرِهِ، وشخصيَّةٍ حِكائيَّةٍ أخْرَى، لهَا أفعالُهَا السَّرديَّةُ الدَّالةُ على شَخْصِيَتِهاَ، يرصُدُهَا السَّاردُ المُشاركُ رَصْدًا دقيقًا وينقلُ الحِوَارَ الَّذي دارَ مَعَهَا، ويتبدَّى فضَاءُ الحِكايَةِ : مترو الأنفاق، بتفاصيلِهِ الخَاصَّةِ، كَمَا يتبدَّى زمن الحِكايةِ في جُمْلةٍ: " وكانَ شَيءٍ منْ ضَوْءِ "المَغْرِبيَّةِ" المُنْطَفِئ"، ويُمْسِكُ السَّاردُ بحَرَكَةِ النَّصِّ ويُديرُهَا ويُشكِّلُهَا بوِجْهَتِهَ، الَّتي تكشِفُ ثقلَ المُعَانَاةِ اليوميَّةِ، في سَرْدٍ وقائعِيٍّ تتنامَى فيْهِ تشكُّلاتٍ الحِكايَةِ .

وقد يأتي السَّاردُ كشَاهِدٍ على الأحْدَاثِ، فيُعْلِنُ عنْ حُضُورِهِ، وعنْ شَخصِيَّاتٍ حِكائيَّةٍ أخْرَى، يتبدَّى حُضُورُهَا داخل بنيَةِ النَّصِّ، تُشَاركُ في الأحْدَاثِ أكثرَ، ويبدو السَّاردُ منْ خِلالِ صَوْتِهِ السَّرديِّ، والضَّميرِ الدَّالِّ على حضورِهِ، وقد يُبْطِئُ حَرَكَةَ الزَّمَنِ، أو يُسْرعُهَا، تبعًا لرؤيتِهِ السَّرديَّةِ وبرنامجِهِ السَّرديِّ، كمَا يبدو لدَى علاء خالد (1960 - ) ، في نصِّهِ: حرارة الغِناءِ في السِّتينيَّاتِ :
" كُنتُ أرَى السَّعادَةَ في غرفَةِ المَطْبَخِ لبيْتِ صَدِيقِي .الأجْسَادُ الكثيرَةُ الَّتي تروحُ وتجيءُ، الصَّدَامَاتُ المُتكرِّرةُ بدونِ اعتذارَاتٍ أوْ انتظارٍ لها، برطماناتُ المخللِّ والأطْعِمَةِ الحرِّيفةِ، أرْغفَة الخُبْزِ الرَّقيقَةِ.
كلُّ وجبَةٍ كانتْ احتفالاً، بالخيطِ الَّذي يربِطُ بينهُمْ، بالطَّعامِ، بالكلامِ المُهمِّ والفارغِ، بالثَّرثرَةِ.
سورٌ واحدٌ كانَ يفصِلُ بيننا، في نهايَةِ اليومِ كُنتُ أتسَمَّعُ منْ غرفتِي لصَوْتِ أختِهِ الرَّخيمِ، وهيَ تغسِلُ الصُّحونَ وتغنِّي حافيةً. كانتْ تحبُّ عبدَ الحليم ونجاة وأمَّ كُلثوم . تُحَاولُ أنْ تُظْهِرَ جُذوةَ النَّارِ الَّتي تَسْكُنُ خَلْفَ أصْوَاتِهِمْ.
انقطَعَ حَبْلُ الغِنَاءِ في بيْتِ صَدِيقِي . مَاتَ الأبُ وعبدُ الحليم حافظ وأمُّ كُلثوم. تزوَّجَتْ البناتِ وأخَذْنَ لبيوتهنَّ حَرَارَةَ الغناءِ في السِّتينيَّاتِ. تزوَّجَ صَدِيقي وأنْجَبَ، أصْبَحَ مُدْمِنًا لمِيْرَاثِ البيْتِ منْ الأغانِي العَاطِفيَّةِ. اخْتارَ عَمَلاً مُناسبًا، يُتيحُ لهُ أنْ يُؤجِّلَ عَوْدتَهُ للبيْتِ، اشْتَرَى تاكسيًا بمُسَجِّلٍ يابانيٍّ، وأطلقَ لِحْيَتَهُ. يدورُ في الشَّوارَعِ والأحْيَاءِ الشَّعبيَّةِ، ينحنِي للرِّزق، وللبيوتِ الَّتي يتصَاعدُ منها الغناءُ القديْمُ ." (2)
يُشدِّدُ الأدَاءُ الحِكائيُّ هُنَا على دَوْرِ الرَّاوي الشَّاهِدِ، الَّذي يأتِي - بطبيعَةِ الحَالِّ - بضَمِيْرِ المُتكلِّمِ، ليحكِي مَشاهِدَ وتفاصِيْلَ منْ حِقبَةِ السِّتينيَّاتِ، بطريقةٍ تكشِفُ عنْ هيمنَةِ النُّستولجيا على مَنْظورِهِ .
ويبدو هذا الرَّاوي الشَّاهدُ، أيضًا، لدَى كريم عبد السَّلام (1967- )، في نصِّهِ: الجَميلة :
" رأيتُها على الرَّصيفِ، قبلَ أنْ يحملوها مُباشَرَةً
في ذَلكَ الصَّباحِ الَّذي طَلَعَ عليَّ في الشَّارعِ.
كانتْ امْرَأةً،
يُثبِتُ ذَلكَ اسْتِدَارَةُ السَّاقيْنِ المَكْشوفتيْنِ
والرِّدفانِ العَرِيضَانِ.
وَسْطَ المَارَّةِ المُتحلِّقيْنَ حَوْلَهَا
وَسْطَ صَيْحَاتِ رِجَالِ الإسْعَافِ وأُمناءِ الشُّرطَةِ،
اسْتَطَعْتُ تمييزَ رُسْغَيْهَا،
مَلامِحُهَا غابَتْ عنِّي، إذْ كانَ وَجْهُهَا باتِّجَاهِ سُورِ المَبْنَى
على الرَّصيفِ، فلمْ أرَ ملامِحَهَا.
اعْتادَتْ أنْ تنامَ في هَذا المَكَانِ،
وَاعْتَادَ الكنَّاسُونَ إيقاظَهَا فتمضِي مُسْرِعَةً،
كَمَنْ اقترَبَ مَوْعِدُ سَفَرِهِ
لكنَّهَا لمْ تستيقِظْ اليومَ،
رَغْمَ كلِّ مُحَاوَلاتِ الكنَّاسِيْنَ،
فغطُّوهَا بجريدتيْنِ جديدتيْنِ، وتعمَّدُوا إخفاءَ وَجْهِهَا
حتَّى لا تتعكَّر الحَيَاةُ الجميلةُ.
ثمَّ جَاءَتْ عَرَبَةُ الإسْعَافِ
وجَاءَتْ المَشْرَحَةُ
وجَاءَ الحَارسُ على مقابرِ الصَّدقَةِ يفرُكُ كفَّيْهِ باسِمًا
وجَاءَ طُلاَّبُ الطِّبِّ بمباضِعِهِمْ المَسْنونَةِ
وأنَا،
رأيتُها قبْلَ أنْ يحملوها مُباشَرَةً."(3)

يأتي الرَّاوي، هُنا، أيضًا، شَاهِدًا، ومُعبِّرًا عنْ الحَدَثِ منْ منظورِهِ، بتفاصِيلَ عديدَةٍ دالةٍ، تعبيرًا يكشِفُ عنْ موقفِهِ منْ الشَّخصيَّةِ المَحْكيَّةِ، مُنذُ عنوانِ النَّصِّ، وتكشِفُ في النِّهايَةِ عنْ أسَى وتفجُّعٍ .
وقد يجنحُ الأداءُ الحِكائيُّ إلى السَّردِ المَشْهَدِيِّ، بالاقترابِ منْ التَّفاصِيلِ الحِكائيَّةِ، ورَصْدِهَا منْ الخَارِجِ رَصْدًا سِينمائيًّا خارجيًّا دالاًّ، تتباطأُ فيْهِ حركَةُ الزَّمنِ، وتبرزُ فيْهِ عناصِرُ المَشْهَدِ، ضِمْنَ بنيَةِ الوَصْفِ، كمَا في نصِّ أحمد يماني (1970 - ): دير شبيجل:
" الثَّالثة عصرًا، سائقُ التَّاكسِي بانتظارِ زبونٍ يتصفَّحُ مجلَّةً ألمانيَّةً، نسِيَها أحدُهُم بجانبِهِ، الكلماتُ الغريبَةُ تتقافزُ أمَامَ عينيْهِ والصُّوَرُ تُلطِّفُ الحَرَارَةَ قليلاً.
على بُعْدِ أمتارٍ المَبْنى قيد الإنشَاءِ. خَرَجَتْ امْرَأةُ البوَّابِ لِتَغْسَلَ برَّادَ الشَّاي وتضَعُ مَاءً جديدًا. سَقطَ التِّفلُ على قدمِهَا اليُسْرَى فانْحَنَتْ لِتنظِّفَه بينمَا انتقلَ الآنَ إلى الرُّكبةِ ثمَّ الفخذِ والسَّائقُ فتحَ بابَ العَرَبَةِ وأغلقَهُ مُحْدِثًا جَلبَةً، كذلكَ مياهُ الغسيلِ أحْدَثَتَ نفسَ الجَلبَةِ حِيْنَ رَفَعَتْ امْرَأةُ البوَّابِ الخرطومَ إلى مَا فوْقَ سُرِّتِها لِتُنظِّفَ بقايَا الشَّاي الَّذي بالتَّأكيدِ كانَ لا يزالُ يغلِي في الثَّالثةِ وثلاثِ دقائقَ. "(4)

إنَّ الصَّوتَ السَّرديَّ هُنَا، يجنَحُ إلى المَشْهديَّةِ وإلى أدَاءِ السَّردِ البَصَريِّ، في رَصْدِ تفاصِيْلِ المَشْهَدِ الحِكائيِّ، منْ منظورِ السَّاردِ، في أداءٍ حِياديٍّ، وهو لا يتدخَّلُ في الأحْدَاثِ، ولكنَّ الأحْدَاثَ لا تُقدَّمُ لنَا إلاَّ كمَا يَرَاهَا هُو، لا كمَا تَرَاهَا الشَّخصيَّاتُ .
ومهما بدَتْ شِعريَّةُ الحِكايَةِ مُشدِّدةً على بثِّ حالةٍ شِعريَّةٍ، فإنَّ هذا يتمُّ حِكائيًّا، عبْرَ سِلسَلةِ الأفْعَالِ الحِكائيَّةِ، المُنتزعَةِ منْ سرديَّاتِ الحَيَاةِ اليوميَّةِ المَعِيْشَةِ، كمَا في نصِّ: عَادَ آخِرَ الليلِ إلى بيتِهِ، لصَلاح الَّلقاني (1946 -)؛ الَّذي يبثُّ السَّاردُ المُحَايدَ فيْهِ سَرْدَهُ الشِّعريَّ الإخباريَّ المتتابعَ بدِقَّةٍ، على هذا النَّحوِ :
" الرَّجلُ الَّذي تزوَّجَ أرْمَلةَ أخيْهِ مُنذُ عِشْريْنَ عامًا، عَادَ منْ عملِهِ آخِرَ الليْلِ مُنْهَكًا . رَكَنَ سَيَّارَتَهُ الحَمْرَاءَ جوارَ المَنْزِلِ، وحَمَلَ حقيبتَهُ الصَّغيرَةَ، ودَلَفَ منْ بابِ البيْتِ، في الدَّاخِلِ رَاحَ يتخفَّفُ منْ ملابسِهِ، ويرتدِي منامتَهُ، وعِنْدَمَا فتَحَ بَابَ حُجْرَةِ النَّومِ، وَجَدَ أخاهُ مُمَدَّدًا على سَرِيرِهِ، وَاضِعًا كفيْهِ تَحْتَ رَأْسِهِ، وعيناه تُحدِّقانِ في سَقْف الحُجْرَةِ. " (5)

لقد اسْتثمرَتْ شِعريَّةُ الحِكايَةِ، في القصِيدِ النَّثريِّ المِصْريِّ، آليَّاتِ السَّردِ المُختلفَةِ، في إنتاجِ شِعريَّتِهَا، وبدَا داخلَ العناصِرِ الحِكائيَّةِ تركيزٌ واضِحٌ على سَرديَّاتِ الحَيَاةِ المَعِيشَةِ، يُجسِّدُ وقائعيَّةَ الحَيَاةِ اليوميَّةِ وحدثيَّةِ الخِطابِ الشِّعريِّ، على نحْوٍ يتخطَّى بكثيرٍ مَا أنجزَتْهُ تجاربُ شُعراءِ الرُّومانسيَّةِ وشُعراءِ التَّفعيلةِ، في إطارِ شِعرِ الحِكايَةِ، ويجعلُ الخِطابَ الشِّعريَّ أكثرَ التصاقًا بتفاصِيْلِ الحَيَاةِ المَعِيشَةِ، ورَصْدًا لهَا، وتعبيرًا عنْهَا .


الهوامش
(1) أمجد ريَّان - ضِدّ الفراغ العاطفيّ- أصوات أدبيَّة، العدد:391، الهيئة العامّة لقصور الثَّقافة - 2008 - ص ص: 67-69 .
(2) علاء خالد - كرسِيَّان مُتقابلان - دار شرقيَّات – القاهرة - 2006 - ص ص: 29- 30 .
(3) كريم عبد السَّلام - مريم المَرِحَة - طبعة أليكترونية موقع: جهة الشِّعر، وقد صَدَرَتْ طبعةٌ أولى مَحْدودَةٌ منْ الدِّيوان، في عام 2003 .
(4) أحمد يماني - أماكن خاطِئَةٌ - دار ميريت - القاهرة - 2008 - ص: 50 .
(5) صلاح اللقاني - مَرَجَ البحريْنِ - الهيئة المِصْريَّة العامَّة للكتاب - 2013 - ص: 82 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت


.. عاجل.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة غداً




.. سكرين شوت | إنتاج العربية| الذكاء الاصطناعي يهدد التراث المو


.. في عيد ميلاد عادل إمام الـ 84 فيلم -زهايمر- يعود إلى دور الس




.. مفاجآت في محاكمة ترمب بقضية شراء صمت الممثلة السابقة ستورمي