الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في مديح (الكانة)

كريم راهي

2015 / 9 / 15
أوراق كتبت في وعن السجن


أغلب أبناء جيلي، ممن لم يحالفهم الحظ بالفرار من البلاد قبل حرب الثماني سنوات، ارتدوا بذلة الرعب (الكاكية) لاريب، المرقّطة منها أم (السادة)، ولا أستثني منهم إلا من اختار (الزيتونية) طواعية، ذلك اللون الذي ارتبط بكتبة التقارير ذوي الشوارب الكثّة وجزمات الجلد المائلة للون البرتقال، أمّا من مكثوا خلف القضبان تلك الحقبة، فقد أُجبروا على ارتداء بذلة أخرى.. (الكانة).
لا أدري من أي برج حراسة تسلّلت هذه المفردة وصارت خاصّة بالسجون، فلقد ورد في مذكرات معتقلين شيوعيين في الستينيّات أنّهم كانوا يرتدون الكانة. بيد أنّها، ومفردات أُخر، أضيفت لقواميسنا ساعة دخلنا الأصلاحيّة، وصار بوسع أحدنا إن سمع نداء (عجد العنقرچي) وقرقعته بالقدور، أن يقول لـ (سفرداشِه) "إجت الكانة!" إن كان يوّد إخبار شريك سُفرته أن الشخص المكلّف بتوزيع الطعام قد أتى به.. وهنا سيكون للكانة معنى بعيدٌ كلّ البعد عن ألوان أردية السجون، لكنّه يبقى قطعاً ضمن محيط أسوارها.
لكنّ لبطانيّات (الكانة) التي حملت نفس اللون، شأن مختلف، ومهّمة غير تلك التي عقدت شركة (فتّاح باشا) العزم على طرحها كأغطية نوم، فلقد تفتّقت قرائح السجّانين عن فكرة إسناد وظيفة (المحفّة) اليها إضافة لذلك، والمحفّة هي (السدية) بلهجتنا، وفي قواميس اللغة: "سرير له ذراعان من كلّ ناحية، ليسهل حمله، يستلقي فوقه المريضُ العاجِز عن المشي".
أما هذا العاجز عن المشي، فهو في العادة أحد رفاقنا من المنادى عليهم ليكونوا وسيلة لهو ضابط الأمن لتلك الليلة، وأمّا السرير فتعادله موضوعيّاً بطّانية الكانة الخرقاء.
يرفع كومة اللحم المدماة هذه اثنان من الرفاق، ويعودان بها إلى المهاجع، أو يقوم سجّانان بتلك المهمّة، فيما لو كانت الوجهة هي (الحجر الإنفراديّ).. وهذا الأمر يخضع لمزاج الضابط الخافر أوانها، "وفيما إذا كنت زوجته حائضاً تلك الليلة أم لا".. كما كُنّا نمزح بمرارة إثر كل حفلة تعذيب.

لسنوات طويلة بعد السجن، كنتُ أرغب عن ارتداء الملابس البُنيّة بكل تدرجاتها اللونيّة، وأعتذر لمن يقترح لي رداءً بهذا اللون الكابوسيّ قائلاً في سرّي:
- أوووف.. همّينه كانة!!
فقد كان هذا (الجوزي) الهجين، هو اللون المفروض على كافة نزلاء (أبي غريب) ارتداؤه. ويرتبط مرآهُ عادة بقطعتي كسوة، هما خرقتان بلون الغائط، ما أن يُجرجرونك من قسم الإستقبال إلى الردهات، حتّى يقدّمها لك في كرم قلّ نظيره، دليلُك إلى فراشك الملوكيّ، ترتديه ابتداءً من تلك اللحظة، حتّى يُقدّر موعد خروجك حيّاً من أسوار الكونكريت.
لكنّ الأمر مع تلكم الألوان التي أزهقت أرواحنا لم يطُل كثيراً، فما أن أُخرجنا من (أبي غريب)، حتّى زُجّ بنا في (أمّ غريب)، مرتدين (اليونيفورم) الكاكي الكريه.. ذقوننا حليقة، وبساطيلنا (تلصف مثل المراية) كما كان نواب الضباط يشترطون في التعداد الصباحي.
ثمّ صار الزيتوني هو اللون الأكثر مُقتاً لنا، نحن المراتب من المكلّفين بالخدمة الإلزاميّة، إذ كان ذلك اللون المرتبط بالسلطة، هو ما يميّز عنّا مسؤولي أقسام (التوجيه السياسي) المكلّفة برفع التقارير للجهات العليا من داخل الوحدات العسكريّة، من النقيب (ذنّون) والملازم (هزّاع)، إلى التوأمين (نكتل وزينل)، وهما قريبان لمساعد قائد الفرقة، سعى لتوليتهما هذه المرتبة في (معمل ميدان 1000) حيث أقلّتني عجلة (الزيل) وقد أوتيت كتاب النقل بيميني.
فلأذكر ما يتعلّق بهذين العريفين، من قبل أن أعود للألوان ثانيةً، فالعريف (زينل) لم يختصّ بالتلصص والإنصات لما يدور في الخيام فقط، بل طالما رآه البعض وهو يعبث بحقائب الجنود العائدين توّاً من الإجازات بحجّة الوقاية الأمنيّة، لكنّهُ في الحقيقة، كان من أشدّ المغرمين بالكليچة والعكّة والخرّيط وسواهما مما يأتي به أولئك الأشقياء عقب كلّ إجازة دوريّة.
وهكذا استطعتُ بفطنتي أن أحدد مكامن ضعفه، وأتوصّل وإيّاه إلى اتّفاق غير معلن؛ دبّة (طرشي) وعلبة (دهين) في كل يوم (غاية)، أي يوم العودة من الإجازة، مقابل الكفّ عن استدعائي كمتصدّر للائحته السوداء، ومطالبتي بملء استمارات الـ (هل لديكَ) كلما شعر بلاجدوى الفراغ.
أمّا (نكتل)، فقد كان اجتماعيّاً بعض الشيء.. أكثر ودّاً من شقيقه، وأقلّ منه حسّاً أمنيّاً، إلاّ أنّه صار انعزاليّاً فيما بعد لانشغاله بالتقصّي عن حقيقة اسمه، وصار يخشى الظهور لئلاّ يُنادى بـ (جواب شرط مقدّر) بعد الصدمة النفسيّة التي سبّبتها له ذات ليلة حراسة، فذلكاتي اللغويّة:
- عريف نكتل.. العفو شنو معنى اسمك؟
- مممم..على اسم (نكتل) أخو النبي يوسف عليه السلام.
- أيّ منهم؟ قلت وأنا في غاية العجب.
- الذي ورد اسمهُ في الآية الكريمة:" فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسلْ معنا أخانا (نكتلْ) وإنا له لحافظون"
ولم أشأ في الحقيقة، وأنا أشرح له المأزق الذي اوقعه به من أطلق الإسم عليه، أن أسبّب له هذا الجرح العميق في وجداه، ولم تنفع في إخراجه من عزلته كلّ محاولات تكفيري عن الذنب في إيرادي أسماء أعلام مُذكّرة كثيرة، صرت في كلّ إجازة أبذل جهداً في جمعها من الأُسر وحيدة الأبناء، لتبيان أن اسمهُ ليس أقلّ منها مدعاةً للسخرية:
- خذ مثلا: بريج، طارش، عگرب، علگم، ازبالة.. تصوّر حتّى أكو واحد من أقربائي إسمه (نِجَس)!
- إي صحيح.. بس مابيهم ولا جواب شرط واحد!
ولم تنته محاولاتي تلك في التخفيف من نُفرتِه، إلا بعد أن انتهت الحرب ومضى كلّ إلى سبيله.

كلّ من يزور اسطنبول يعرف أنّ لزاماً عليه التسوّق من (سوق محمود باشا) في الجانب الأوروبي من البسفور، حيث الإكسسوارت والألبسة الحديثة بأسعار تنافسيّة.. أشرتُ للعامل على نموذج قميص معروض في الفاترينة، وسألته أن كان متوفراً بحجم XL. فأرشدني إلى رفّ في المتجر بما يعني أن هناك يمكنني رؤية ما يتوفّر من أحجام وألوان للموديل نفسه.. ثمّ نادى على زميل له باسم (لاوي) مُشيراً عليه بمساعدتي.
ولم يكن على الرفّ ما يناسب حجمي سوى لونَي (الكاكي والبُنّي) اللذين لا يروقانني بالطبع، لكن على الرغم من أن الأخير يذكّرني بلون (كانة) السجن الغائطيّة، إلاّ أنّ الكاكي حلّ محلّه في الألوان التي ارتبطت بذكريات أشدّ مرارة.
قلتُ لـ (لاوي) هذا الذي علِمت أنّه يتحدّث لهجتنا، وهو يقترح لي الكاكي، أنّي أفضّل البنّي على هذا اللون المقيت، ثمّ همستُ بدافع من تداعيات آنية تفرض نفسها أحياناً:
- لا أريد ما يذكّرني بالجيش وأيّام معمل ميدان 1000 السود.
- هل قلتَ أنّك كُنت في هندسة معامل قاطع (الدير)؟
تفرّس قليلاً بملامحي ثمّ أطلق صرخةً كولومبسيّة:
- أنت إذن نائب العريف المهندس عبد الكريم؟ تمعّن! ألا تتذكّر من أنا؟
- كلا، قلت باندهاش، فأنا لا أتذكر أن أحداً باسم (لاوي) كان من رفاقي في المعمل.
- أنا جواب الشرط.. (نكتل)، ألا تتذكّر! وذاك هو أخي (زين) الذي كان يُعرفُ بـ (زينل).. قُتل أبونا بداية السقوط وانتقلت باقي العائلة إلى موطن الأجداد هذا.
ولم أكن في الحقيقة، وأنّا أتحرّق لمغادرة المكان، غايةً في الإصغاء حين راح يشرح لي بشكل مسهب، كيف وجد اسم (لاوي) في (تفسير القرطبيّ)، ليبقى محتفظاً بخصوصية كونه أحد اخوة يوسف، وكيف كانت عمليّة تغيير الوثائق غاية في المشقّة لأخيه أيضاً الذي اكتشف هو الآخر أن ما كان يقصدُ به أبواه هو الجزء الأوّل من الإسم المركّب (زين العابدين)، وفق الفهم السمعي الخاطيء الأقرب للغة العروضيين.
ثُم ألحّ عليّ كثيراً وتوسل بي أن أقبل منه هديّةً لأنّني نبّهتُهُ لأخطر أمر مسّ حياته، وكيف أنّه كان يشعر بغاية الإمتنان لنوبة الحراسة تلك التي قلبت موازين حياته، فيما كنتُ أتلفّتُ محاولاً التملّص لئلاّ يأتي (زينل)، الذي كان مايزال محتفظاً بشاربيه، للتعرف إليّ وتحيّتي.
كان ذلك بدافع من الخوف الذي ربط اسمه بالزيتوني، ونقل سجن أبي غريب بأكمله تلك الساعة، من شرق الفلوجة إلى غرب البسفور.. قلت للاوي محاولاً الفرار.
- إن كان لابدّ، فأنا أتقبّل لون (الكانة) هذا!
وضعت القميص تحت أبطي، ثمّ أطلقت ساقيّ للريح، مُخلّفاً ألف علامة اندهاش على وجه لاوي.

كرم راهي
ستوكهولم في 15/9/2015








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. العربية ويكند | الشباب وتحدي -وظيفة مابعد التخرج-.. وسبل حما


.. الإعلام العبري يتناول مفاوضات تبادل الأسرى وقرار تركيا بقطع




.. تونس: إجلاء مئات المهاجرين و-ترحيلهم إلى الحدود الجزائرية- و


.. ما آخر التطورات بملف التفاوض على صفقة تبادل الأسرى ووقف إطلا




.. أبرز 3 مسارات لحل أزمة اللاجئين السوريين في لبنان هل تنجح؟