الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
دراسة نقدية عن وظيفة المكان في الخطاب الشعري (طين الأبدية) أنموذجا للشاعر احمد محمد رمضان
حيدر جمعة العابدي
2015 / 9 / 24الادب والفن
دراسة نقدية عن وظيفة المكان في الخطاب الشعري (طين الأبدية) أنموذجا للشاعر احمد محمد رمضان
المقدمة
المكان وفق التصور العلمي هو امتداد طبيعي ذو أبعاد هندسية وجغرافية مختلفة تحكمه المقاييس والقوانين الهندسية ، و خليط من مواد مختلفة تشترك في ما بينها بعلاقات فيزيائية وكيميائية تتمثل بالعمارة والهندسة لكن لا يقتصر المكان على الجانب المادي الهندسي فقط بل يتعدى ذلك كونه فضاء من العلاقات الفنية والروحية التي تستمد وجودها من الإنسان نفسه عبر جهد فكري وذهني متميز كسر حاجز المادية المفرطة التي عرف بها المكان من خلال التعامل مع المكان على انه مجموعة علاقات مختلفة .
والمكان في الشعر يختلف كثيرا عن المكان في الواقع حيث يتشكل عن طريق اللغة التي تمتلك طبيعة مختلفة من حيث الشكل والمضمون فاللغة لها خاصية وفعالية ذات حضور مزدوج اذ لها حضور طبيعي كونها مادة بالإضافة الى كونها نظام من العلاقات التي لها آليات ذهنية تتحدد بها . وبما ان المكان الشعري لا يعتمد على اللغة وحدها وذلك لان اللغة محكومة بالخيال والتجارب الإنسانية المختلفة ليتسنى للغة تجاوز حيز الواقع المحكوم بماديته الصماء لذلك تستنجد بالخيال للولوج الى ما بعد هذا الواقع بل وتتناقض معه في أحيان كثيرة للبحث عن أماكن جديدة كونه يظل ضمن سياق الواقعي الحقيقي لكنه واقع حلمي مكتشف ، ((فالمكان وفق هذا التصور هو وجود فني ومادي أصيل وعميق مرتبط بالوجود الإنساني خصوصا اذا كان المكان هو وطن وانتماء مشيمي بدئي يرتبط بالمكان الأول الطفولة ))( ) ان وظيفة المكان في الشعر له أبعاد نفسية وفكرية عالية كونه يشكل احد أهم الأبعاد الفنية والبنائية في اللغة الشعرية فبدون المكان لا يمكن للشاعر من التغلغل بين خبايها الوجودية والفنية رغم ان هذا الولوج للواقع يكون عبر شحذ حركة الخيال النص المتمثل باللغة الشعرية على نحو يؤدي الى الغاء قانون السببية وإحلال مكانه البعد الروحي والنفسي المحض عبر شحذ المخيلة التي تشتمل على بعد نفسي وموضوعي يظهر على شكل نسق خاص بالشاعر الذي هو جزء من وعي وثقافة المكان التي ينتمي أليها الشاعر .
تحاول هذه الدراسة التعرف على وظيفة المكان في الخطاب الشعري ، اي كيفية انعكاس المكان على النص الشعري والمخيلة الشعرية وما درجة تأثيرها على الشاعر باعتبار ((النص هو خطاب))( ) تتشكل من خلاله رؤية الشاعر الفنية وفي نفس الوقت يعكس طبيعة الأنساق الثقافية للمكان الشعري ، خطاب يمثل نقطة تواصل وانطلاق مع واقع التلقي ، فكل خطاب لابد أن يكون ذو وظيفة قصديه ما تهدف الى تركيز الضوء على جانب معين وتستبعد جوانب أخرى قد لا تعني للشاعر شيء سوى كونها لا تدخل ضمن اهتماماته الفكرية والنسقية .
ان اختيارنا للمجموعة الشعرية ( طين الأبدية ) نابع من كونها تجربة استطاعت أعطاء المكان في بعديه ،الثقافي ،والاجتماعي دور واضح ومتميز فقد حضر المكان بقوة داخل للغة الشعرية بكل حمولته الأسطورية والمعرفية والنفسية مما انعكس على كل نصوص المجموعة بشكل جلي وبما ان النص اي نص هو خطاب مرسل حامل لهمومه واشتراحته القصدية مهما كانت طبيعة اشتغالا ته تلك ، ألا انه يظل مرآة عاكسة لطبيعة الوعي الثقافي للمكان للشعري وعليه فأن وظيفة المكان الشعري طبيعة في دراستنا هذه تحاول التعرف على عمل الخطاب الشعري وكيفية تتشكل أنساقه المكانية التي تتمحور حول العمق الثقافي والأسطوري والفني للمكان ومهما يكن الأمر فأننا ركزنا على المكان/ الوطن بوصفه معادلا شعريا لفضاءات المكان بمعنى انه تحول من الواقع الى المتخيل .
المكان كهوية ثقافية في الخطاب الشعري
قضيه الهوية هي من القضايا الرئيسية في هذا العصر المتغير والمختلف والمتسارع فقد تغيرت التصورات والأفكار في صيرورة نامية متحركة وبالمقابل اخذ مفهوم الهوية حيز كبير من البحث والدراسة الثقافية والتي تبحث الهوية كسياق ثقافي خاضع لإلية الثبات والتحول يأتلف داخلها الإفراد والجماعات ومن خلالها تتكون هويتهم أو ذواتهم والتي يفرضها المكان في أحيان كثيرة حيث تعتمد الدراسات الحديثة على اتجاهات مختلفة في تحديد مفهوم الهوية هذا المفهوم المركب الذي يصعب الإمساك به في تعريف أو تصور ثابت أو محدد ،حيث نجد ضمن التصور التقليدي للهويه أن الذات شي مستقل بنفسه وبالتالي لا يخضع لمؤثرات المكان الخارجية .
يختلف المكان من حيث الشكل والمضمون في الخطاب الشعري الحديث عن المكان الثقافي الواقعي ذلك لان اللغة الشعرية لغة تميل للتجريد والاختلاف وتكثيف العبارة والبحث المتواصل لاشتراح صور ومعاني ودلالات رمزية /جمالية قادرة على التغلغل في عمق المكان واكتشاف أسراره وخباياه الجمالية والفكرية ،لكن هذه اللغة او النصوص تظل هي الأخرى خاضعة لتأثيرات (المكان كهوية حاملة لأنساق)(3) ثقافية تتشكل عبر النص وتتكامل كخطاب شعري حامل لتصورات فكرية وجمالية مختلفة لنقل تجربة ذات إبعاد ومضامين روحية وثقافية ذات نمط مغاير للواقع السائد عبر خطاب مرسل الى متلقي مشارك في هذا الواقع . بالعودة الى المجموعة الشعرية (طين الأبدية ). تتألف المجموعة من (75) قصيدة توزعت بين قصائد طويلة وقصيرة وقصائد ومضه تشترك فيما بينها بحس وجداني عالي وعذوبة إيقاعية متناغمة،
لذلك نجد ان وظيفة المكان قد تشكلت على عدة مستويات سنتناول منها مستويين مهمين هما : المكان كهوية ثقافية ، والمكان كفضاء للمتخيل الشعري ، وذلك لان الخطاب الشعري يتجلى أكثر من غيره في هذين المحورين ، ففي محور المكان كهوية ثقافية يوجد هناك ميل واضح للشاعر للتأكيد على هوية المكان كانتماء ثقافي وروحي يتشكل من خلاله وعي الشاعر المنعكس في النص لكن هذا التشكل يخضع هو الأخر لطبيعة المكان وتشكله الثقافي والتاريخي سواء كان هذا التشكل بالسلب او الإيجاب والذي يخضع هو الأخر الى تحولات هذا المكان سواء كانت تحولات سياسية او اجتماعية وبالتالي فأن وعي الشاعر واختمار تجربته الشعري هو من يحدد خطابه الشعري وتنوع دلالاته . ولو حاولنا الولوج الى هذه النصوص سنجد ان المكان هو (العراق ) بكل ثقله التاريخي والثقافي المعاصر لكن العراق لا بوصفه جغرافيا او هندسة تحد إبعاده وزواياه بالعكس العراق بوصفه هوية وانتماء ثقافي روحي يتضح ذلك من لحظة التجلي الأولى في عنوان المجموعة (طين الأبدية ) الذي يظهر معرفة الشاعر برمزية الطين كون العراق أول من كتب على ألواح طينية وتشكلت هويته عبرها وهنا الكتابة لا بوصفها فعل غريزي عابر بقدر ما هي لحظة خلق وانتماء وهوية، حيث يبين ذلك في مقطع من قصيدة جلجامش التي يفتتح بها المجموعة :
في الماضي تناولت إقدامنا الطين
واليوم قد ابتلع رغباتنا !.
فالتأكيد على فعل التناول هو تأكيد على فعل الانتماء و الإنغراس في عمق المكان الرمزي (الطين) التي بشرت بها قصص الخلق الأولى الموجودة في الألواح الأولى وفي الملحمة الشهيرة جلجامش، لذلك كانت صورة الطين صورة اتحاد وانسجام مع المكان كهوية للخلق وهو تعبير ذو حمولات نفسية وفكرية عميقة . تعمد الشاعر من وضع بعض أسماء المدن العراقية الشهيرة ذات البعد التاريخي العريق للعراق وذلك لتعميق هذه الهوية عبر التغلغل بين جذور المكان وثقافته مثل مدينة (نينوى) حيث تعتبر مكان ولادته الأول الذي ارتبط به الشاعر ارتباط مشيمي مابين الأرض المكان والثقافة والتاريخ حيث بدا هذا التأكيد على الانتماء في قصيدة (نينوى) :
حيث تكشف الريح جديلتها ...
تغرس سمر‘ة وجهك الأرض
مشيئة تزفها الخيالات .
إن يكون المكان هو الباعث الأول للوجود ومن خلاله تتشكل هويتنا وثقافتنا يعني ذلك أن المكانية في النص تتشكل عبر بنية فكرية حاملة بالضرورة لأنساق ثقافية أكثر عمومية تنفتح على الكثير من الاتجاهات والأماكن التي يمكن تقصيها داخل النص وتمثل في الوقت نفسه البنية الثاوية العميقة لمفهوم المكان وتعكس ثقافة الشاعر حيث نجد ان اتجاه حركة الشاعر داخل النص أخذت مسارا دائريا يبدأ من مركز الدائرة العراق وتنتهي بالعراق اي المكان بوصفه بؤرة ففي قصيدة الأرض والسماء نجد حركة القصيدة تنطلق من المركز ثم تعود بشكل دائري الى المركز ، قصيدة (الأرض والسماء )
يا الله انك تتغشى بوجه مغفرة
وهي تخرج من فمك ابتسامة للعالمين.
فحركة النص تبدأ من الله وتنتهي الى الله ،فالله هنا هو معادل رمزي لوطن اسمه العراق يتضح ذلك في مقطع أخر من نفس القصيدة
كطفل...
كما لم تظلك الغابات
نشدت قصيدتي بقلب جنتك
لذلك تبدو حركة النص كأنها دوائر صغيرة داخل أطار جامع اكبر هو المكان حيث يمثل الشكل الدائري الرحم الأول الأم او الأرض في الولادة والموت .
حملتني
كخشب وميت حملتك .
وهي دلالة على فعل الوجود والعدم الواضح على حركية النص فمن خلال هذه الحركة يعاد أنتاج المكان بفضاءات وأبعاد مختلفة لكنها تقع ضمن أطار واحد هو العراق
كنفس الغريق ..
حفظتك
اقرب من حبل الوريد لنا.
لكن وبفعل الانكسارات النفسية من سطوة هذ المركز يسعى الشاعر لكسر وإزاحة للثابت بالحركة حول المركز من خلال كسر أفق التوقع عبر جعل العلاقة بالمركز علاقة تبادلية مابين الأنا و النحن مابين الله العراق والله الخالق المرتبط بالأنا الوجودي (يا الله كم حزنت لفراقك ) او في فقرة أخرى من البيت:
كالبحر كنت...
وكما الموجة الطائشة نسيتك .
فهذا السعي للإنعتاق من سطوة المكان المركز دائما ما كان محكوم بفشل الإنعتاق والذوبان في هوية المكان وعليه ان المكان في هذه المجموعة قد اتخذ هويات متعارضة لكنها تنتهي ضمن أطار هوية واحدة وإطار جامع وثابت هو العراق كهوية وانتماء العراق بكل أحزانه وأفراحه اي المكان ((بوصفه علامة دالة على فعل الخلود ))( فكل الأحداث والأوجاع تفنى ألا أنت يا (طين الأبدية) وبالتالي كانت وظيفة المكان في النصوص هي تأكيد تأصيل هوية المكان و ثقافته التي ترفض الإزاحة والانكسار رغم هذا التحول الزماني لكن المكان ثابت مهما داهمته النوائب يظل هو المركز في الخطاب والشعري لذي يدور حوله النص و يعيد ترتيب نفسه في حركية رمزية دائمة تتجلى في بعدين أساسيين هما البعد لأنساني كهوية وانتماء والبعد الفكري والثقافي . بهذين المفهومين يصور الشاعر محنته مع المكان عبر خطاب شعري مسكون بهم المكان ووجع المكان لذلك ظلت هوية المكان هي الدال الأكثر وضوحا على عمق هوية المكان عبر تدفقاته الشعرية لذلك حاول الشاعر ومنذ البداية على جر المتلقي الى محطات نفسية وجمالية مشبعة بالشعرية ففي قصيدة (ياسمين) يقول:
وحدها شجرة قلبك....
حملت قوافل البشرية ،
كما نهر..
في هذا النص يصور الشاعر قدرة المكان على احتواء هذه الأمواج البشرية التي تعاقبت عليه دون ان يتقهقر او يضعف لذلك يوظف الشاعر عبر النص المكان بوصفه نهر خالد يحمل الجميع دون ملل او تعب لان المكان اكبر من كل تصوراتنا وتاريخنا وصراعاتنا فنحن ننتهي لكنك أنت وحدك خالد أنها صيرورة التحول الخالدة في بعديها الزماني والمكاني فالمعطيات الصورية والخطابية تمثل لدى الشاعر لحظة كشف وجداني تدين كل أشكال الضياع و التهميش التي تتعرض لها هوية المكان كونه يشكل اثر وجودي لا يمكن محوه او تفكيكه يبين ذلك في قصيدة (جثة):
في تراب وهجك ..
سرت عقارب الزمن ،
وأسري بي مهدا بزخات المطر.
فالتوحد مع حلم المكان الخالد هو توحد ثيمي فلسفي ثاوي في عمق الجذور المكانية وعمق التجربة الإنسانية للشاعر ومن هنا نجد ان لغة الخطاب هي لغة العلاقات المكانية التي تتحدد بالهوية الوطنية التي ينطلق منها الشاعر في وصف وفهم الواقع المزري كما تكشف في الوقت نفسه المستوى الفوق نصي أي الأيديولوجي الصرف عن رؤيا العالم والوجود الذي عاش تجربة التحولات السياسية والاقتصادية التي أفرزت صور وأبعاد جمالية عالقة بالحزن الأبدي فهو يناجي المكان عبر رمز الأنثى في قصيدة (سوزان)
على غدير حزنك ...
غابة بقلب حجر
شواطئ ذكرى
تنحدر مع الشفق.
فإذا كان النص يعبر عن لحظة كشف صاعقة وفاصلة تتغير بعدها الرؤية وتختلف الدلالة فننا نجد ان هذا كله يتحقق على مستوى اللغوي للقصيدة لا على مستوى اللغوي للخطاب فالخطاب يسعى ومنذ البداية الى كسر هذا الرتم من أنساق القصيدة بأنساق أكثر اصرارا على وحدة المكان .
المكان كفضاء للمتخيل في الخطاب الشعري.
الكلام عن المتخيل الشعري ينقلنا الى الكلام عن الفضاء المكاني الذي ولد فيه هذا الكلام والمجال الثقافي الذي أنتج فيه ، لان النص رغم خصوصيته الفردية –الذاتية فهو في الغالب الأعم – أنتاج ثقافة معينه وأماكن معينة تتقاطع وتتفاعل مع بعضها البعض حسب وعي الكاتب ودرجة تخيله .ان الأسئلة التي تطرح بإلحاح في هذ الجزء من الدراسة هي ما مدى تأثير هذا المكان المتخيل في النص ؟ او ما هي الجوانب الشعرية والفنية التي تعكس فضاءات المكان المتخيل في النص ؟ او كيف تجسد المكان من خلال النص ؟ هذه الأسئلة رغم قيمتها الفكرية –الا أنها تبدو تدور حول نفسها اي أسئلة تحاول الإجابة على سؤال مكرر واحد . والسؤال المشروع الذي تجيب عنه والذي نسعى للاجابه عنه من داخل النص هو : ما هو تأثير المكان على فضاء المتخيل في النص كخطاب شعري ؟ و الإجابة على هذا السؤال نحاول جمع طرفي المعادلة الأدبية : البناء الفني للنص والموضوع اي مصاديق النص من خارج النص. في البداية نعرف المتخيل ((بأنه بناء ذهني ، اي انه نتاج فكري بالدرجة الأولى ، في حين المكان هو معطى حقيقي وموضوعي )) (5) هذه الثنائية تعتبر أساسية لتحديد طبيعة اي منتج أدبي فالمتخيل الفني يحيل الى موضوع خارجي هو المكان ويستند إليه في حين أن المكان يحيل الى ذاته ، هذا التصور الوظيفي يبين حجم التلاحم مابين المفهومين والعلاقات المتينة التي تربطهما داخل النص الأدبي . ولو تتبعنا سير هذا التلاحم والارتباط في موضوع الدراسة (طين الأبدية )نجد ان المكان في جميع قصائد المجموعة هو معطى حضوري دائم و أصيل يمكن ان يدرك بالحس ،في حين ان فضاء المتخيل بناء ذهني أسطوري خفي لا يدرك الى عبر الفكر والنظرة الفلسفية المتمعنه في لغة النص ، يبدأ هذا الحضور الأصيل من الاهداء في المجموعة :
ذكرى..
في السوق القديم ..
كنت..
ألاعب الشمس..تحت عباءتك..
يا أمي ...
فصورة المكان جاءت عبر المتخيل (الذكرى ) لتجعل فضاءات المكان أكثر اتساعا عبر فضاء المتخيل ،لان النص الأدبي يتكون من مجموعة علامات ورموز تنتظمها بنية فنية وبالتالي تدفع بالمكان ليكون أكثر عمقا وجمالا ،ولي تحقيق ذلك لا بد بجعل هذه العلاقة تأخذ بعدا جدليان ورمزيا وفكريا وفنيا ،فافتتاح المجموعة بنص يحمل أبعاد تاريخية أسطورية في قصيدة (نضرة أزلية) الهدف منه جاء نتيجة حتمية لهذا الصراع الأسطوري مابين المكان الواقع والمتخيل الرمزي والذي يشكل(( طبيعة هذا الجدل الحاصل حول تحولات المكان التاريخية))(6) والذي يتخذ من ملحمة جلجامش البابلية بداية تشكل المكان المحتدم بالجدل حول سر الخلود وهي أشارة على جدلية المكان المتخيل التي تمركز داخلها النص ففي قصيدة (نضرة أزلية )والتي تعتبر من أطول قصائد المجموعة يتضح هذا الجدل الأسطوري الذي يشكل المكان في حوار مابين جلجامش وصديقه انكيدو :
خمبايا ...
لم تمهل بطشته نهر الدم
ليترقرق النهار على جفنه
غافيا
مزمرا
فجر أمنيته
انكيدو:
دجلة على الدفوف... تبرق فضة حلمتها ،
جلجامش:تبرقها ياصديقي .
وهنا نجد ان الإحالات الوظيفية للمكان تأخذ شكل جدلي أسطوري دائري مغلق اي نص يعيد أنتاج نفسه عبر فضاء المتخيل الذات الشاعرة الجمالية أكثر من كونه صيرورة زمنية متحركة تسير باتجاه هدف او نقطة معينة فعلاقة المتخيل في المكان علاقة صراع أسطوري ثابت أكثر منها علاقة معرفة وتحول والتي عبر عنها الشاعر بشعرية جميلة في قصيدة (الأرض والسماء) :
كقلادة مغفرة...
التي اهديت الأرض
على أبديتك وفنائنا
تجولنا.
وهكذا نرى ان جدلية العلاقة مابين المكان والمتخيل تنفتح على فضاء السرد الدائري فالمكان بكل حمولاته الثقافية والتاريخية قادر على تحفيز المتخيل الفني على أبداع الجمالي من رحم المكان والوصول بالنص الى حالة من التناغم والانسجام الجمالي كما في قصيدة( كهف):
لم يزل بئر أيامي...
على كتفك،
حاملا سنابل الشفق...
وظلمة غابة تتمدد في قلبه.
هذا التناغم يعكس عمق الأزمة الجمالية للمكان الذي وفق وعي الشاعر يئن من جراء انكساراته وصراعاته الوجودية . وعليه فان البنية الثقافية للنص تحيلنا الى بنية المكان الوظيفية المرتبطة باشتراطات وظروف جدلية الواقع والمتخيل ومدى انعكاسها على الإنسان وبالتالي حاول الشاعر تجاوز أزمة الواقع العراقي المشبع بالاحباطات السياسية والشروخ الثقافية المتمثلة في الصراع الطائفي والعرقي الدائر، من خلال استدعاء لروح المكان المكتنز بدلالات جمالية وفكرية عميقة وتوظيفها عبر مخيلة ثرة قادرة على كسر اطر السائد والمألوف للخروج الى فضاء أوسع و أرحب هو فضاء المتخيل .
(استنتاجات الدراسة)
بعد ان تتبعنا وظيفة المكان كهوية، ومتخيل وبينا إن المفهومين لهما علاقة وثيقة متجذرة مرتبطة بالمكان تتأثر وتؤثر به في نفس الوقت سواء كان ذلك سلبا او إيجابا و بالتالي لا يمكن ايجاد نص يخلو من مكان او يحاول تغيب دور المكان فهو احد أهم الأركان الرئيسة للنص الأدبي الذي يعتمد اعتماد كبير على نوع المكان وحجمه كما يعتمد على شكل المكان ومضمونه الثقافي الذي لا يخلو نص منه . لذلك توجب علينا لان كشف وبيان وظيفة المكان في الخطاب الشعري ؟ اي ما الاستنتاجات التي خلصت أليها هذه الدراسة حول الخطاب الشعري ؟ وللإجابة عنها ارتأينا ان ندرج هذه الاستنتاجات ضمن عدة نقاط متسلسلة لتكون واضحة للمتلقي والقارئ .كشفت الدراسة مايلي:
أولا- للمكان دور فاعل في أعادة بناء الهوية الوطنية والثقافية للشعوب ذات البعد التاريخي والحضاري الغني بالانجازات المعرفية والفكرية حيث يمثل العراق واحد من أكثر هذه الشعوب غننا ومعرفة على مر تاريخه .
ثانيا- يعتبر المكان بنية معرفية وفنية مهمة تساعد على النهوض بالخطاب الشعري .
ثالثا- يشكل المكان صورة عاكسة للأنساق الثقافية المضمرة في الخطاب الشعري .
رابعا-كانت علاقة المكان بالنص تخضع لجدلية الواقع /الأسطورة وذلك لجعل الخطاب الشعري خطاب مفتوح على دلالات مختلفة ومتعددة تجعل النص أكثر ثراء .
خامسا- وظف المكان ليكون شاهدا على كل أشكال التحولات السياسة المختلفة التي مر بها العراق.
سادسا- قدرة المكان على شحن الخطاب الشعري برموز ودلالات تاريخية ودينية مثلوجية عبر تناصات شعرية وقصصية.
سابعا- ساعد المكان في فك الارتباط السجالي في الخطاب الشعري مابين ثنائية المقدس /المدنس من خلال كشف زيف هذه العلاقة وحجم التاخر الفكري والضرر الحضاري الذي أحدثته.
ثامنا – هناك ارتباط عضوي حقيقي بين المكان /الواقع وبين اللغة / المتخيل ساعد على تكثيف وتحفيز لغة النص والارتقاء بها .
تاسعا – شكل المكان مركزا يدور حوله النص فجاء معادلا موضوعيا لصورة الوطن أمام أطراف ، وهي أحدى تأثيرات ما بعد الحداثة في لعبة المركز والأطراف.
عاشرا- اعتمد المكان كوظيفة للتواصل والمثاقة كخطاب مرسل وموجه الى الأخر عبر ثنائية الأنا الأخر.
الخاتمة
استطاع الشاعر*احمد محمد رمضان * من توظيف المكان بكل ما يحمله المكان من حمولات ثقافية وفنية ودلالية مما انعكس ذلك بالإيجاب على للغة /النص إضافة الى ما يمتلكه من شعرية عالية ساهمت في أعطاء بعد جمالي وأسلوبي فريد ،ورصين ،وانسجام، وتناغم مابين الصوت والإيقاع، لكن هذا لا يمنع من وجود بعض الهنات القلية التي لا تؤثر على جمال البناء والصنعة الجمالية. وعليه تعتبر مجموعة طين الأبدية واحدة من المجموعات الشعرية المميزة والقادرة رفد التجربة الشعرية في العراق بتجارب ودماء شابة واعدة تحمل هما إنسانيا وجماليا فنيا يهدف لنشر الفن كتجربة معرفية وثقافية مختلفة تنقل رسالة حب الى كل ارجاء العالم .تمنياتي للشاعر بالموفقية والنجاح الدائم في مسيرته الشعرية ومن نجاح الى أخر .
*المصادر والمراجع *
- دمحمد مفتاح:تحليل الخطاب الشعري (استراتيجية التناص)،صادر ، عن المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء –المغرب ،2005-2006.
- د. جمال بند حمان : الأنساق الذهنية في الخطاب الشعري (التشعب والانسجام )،صادر،عن دار رؤية للنشر والتوزيع،القاهرة –مصر،2010-2011 .
- ميشيل فوكو : نظام الخطاب ، ترجمة :محمد سبيلا ، صادر دار ، التنوير للطباعة والنشر ،بيروت –لبنان ، 2011-2012.
- اعتدال عثمان :اضاءة النص ،صادر دار ، الحداثة، بيروت- لبنان ،1987-1988.
-حسين خمري :فضاء المتخيل ،صادر دار ، منشورات وزارة الثقافة ،دمشق- سوريا ،2000-2001.
- د. عبد الفتاح احمد يوسف ، الخطاب السجالي في الشعر العربي ، تحولاته المعرفية ورهاناته في التواصل ، صادر،دار الكتاب الجديد المتحدة ،بيروت –لبنان ، 2013-2014.
-رولان بارت : التحليل النصي ، ترجمة :عبد الكبير الشرقاوي ،صادر،دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر ،2008-2009.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. فنان بولندي يحتج وحيدا أمام السفارة الإسرائيلية في وارسو
.. أحمد بدير وإدوارد يؤديان واجب العزاء في زوج الفنانة بدرية طل
.. برغم إصابة قدامها الفنانة وفاء عامر تقدم واجب العزاء في زوج
.. الفنان السوري باسل خياط: فخور كوني سورياً.. وحتى الآن لا أصد
.. الفنان السوري باسل خياط لـ-العربية-: تعرضت لمحاولات كثيرة من