الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وضع متميز

فاتن واصل

2015 / 9 / 25
الادب والفن



أرقد على فراش بالمستشفى الاستثماري الفخم في انتظار إجراء جراحة لإزالة المرارة التي تحولت مع الزمن لكيس من الحصاوي.
وقفت أتأمل ما أصبح عليه حالي في مرآة الغرفة التي يمتلئ سطحها بفضلات الذباب، بشرتي الجافة، التغضنات والتجاعيد، شعري الأشيب، عيوني الذابلة والإنتفاخات أسفلها، ترهلات في معظم أنحاء جسدي، هذا كان حالي.. ولا أتذكر غيره يوم دخلت المستشفى.
درت بعيني في أرجاء الغرفة أبحث عن أي شيء يدعو للتأمل، لكنها خاوية من كل شيئ عدا بعض الأثاث البارد الخالي من أي لمسة جمال، تليفزيون وأريكة مكسوة بالجلد وفازات خزفية قبيحة الذوق وتلك المرآة التي تظهر الجسم بالكامل .
ذهب أبنائي منذ ساعة بعد أن دفعوا كامل تكاليف العملية مقدما وتكاليف مبدئية لإقامتي في هذه الغرفة، جميع النفقات بجانب الاكراميات التي بسببها أحظى بتلك الابتسامات البلاستيكية المفتعلة المحسوبة العدد والزمن.

لا أحد يتحدث إلي من الأطباء أو الممرضات أو يسترسل في الكلام معي عن أي موضوع كما لو كنت أقول كلاماً فارغاً أو كأني كمْ مهمل لا يُلتـَـفت اليه بما في ذلك عاملة النظافة، وكأن أحد لا يراني، فطلبت منهم أن يضعوني في غرفة يرقد فيها مرضى آخرين، حتى يتسنى لي أن أتحدث إليهم أو حتى أتوجع فيتعاطف معي من أرقد بجواره، لكنهم رفضوا بشدة وقالوا لي أن وضعي متميز فكيف أريد أن أتراجع بمستوى هذا الوضع وأصبح كبقية الناس!!. اعترضت لكن كنت كمن يهذي ولا يهتم بهذيانه أحد.

كان من الممكن أن أخرج في اليوم التالي للعملية، إذ اتضح أنها بسيطة ولكن في اتفاق خفي بين أبنائي وإدارة المستشفى، فضّلوا جميعاً ان أبقى لعدة أيام أخرى. فكان اليوم يمر علي طويلا ساعاته لا تنتهي، محاطة فيه بتلك الابتسامات اللزجة والوجوه الحجرية وعيون السمك الخالية من التعبير.. وتلك المرآة القاسية التي لا تتواني عن تذكيري من وقت لآخر بالتجاعيد.

انتصف الليل ولم أنم ولا حتى كان عندي أية رغبة في النوم رغم مرور عدة ليال دون أن أغفو ولو لدقائق.. كما كانت البرودة تملأ المكان، حين هدأت الحركة في الممر خارج الغرفة نهضت عن فراشي بهدوء ومشيت على أطراف أصابعي، خرجت متسللة دون أن تلحظني الممرضة النوبتجية التي تغفو وهي جالسة على مقعدها.
ولجت للغرفة المجاورة .. كان ضوء التليفزيون المتغير هو فقط الذي ينتشر في الغرفة، لفت انتباهي أن الغرفة ليس بها مرآة، مشيت نحو الفراش وكانت السيدة التي ترقد فوقه لازالت مستيقظة.. نظرت تجاهي بدهشة ثم ارتسمت على شفتيها ابتسامة ودودة صادقة، لمحتها كبريق نجم في سماء حالكة السواد، دعتني بحركة من يدها أن أجلس على المقعد المجاور لفراشها.. لكني صعدت ونمت بجوارها، فما كان منها إلا أن احتضنتني بحنان بالغ، وربتت بيدها على الجرح في بطني فانبعث الدفء في أوصالي وشعرت بالسكينة والراحة، بعد دقائق معدودة استغرقت في نوم عميق لم يوقظني منه إلا الممرضة التي وجدتها تقف بجوار الفراش تلكزني بيدها في كتفي وقد أضاءت نور الغرفة دون مراعاة أنها لا يجب أن تزعجني، وسألتني وابتسامة بلهاء حقيقية على وجهها:

إيه اللي جابك هنا يا حاجة ؟ انتي بتمشي وانتي نايمة؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - قدرة كبيرة
عبد القادر أنيس ( 2015 / 9 / 25 - 14:17 )
لك قدرة كبيرة على تحويل حالات عادية لا تلفت الانتباه إلى قضايا إنسانية عميقة المغزى، خاصة تلميحاتك الذكية التي تبدو جانبية لكنها أشياء في حياتنا تتراكم وتتكاثف وتصبح لها تأثير مدمر على حياتنا مهما كانت بسيطة. صدق صلاح في مقارنته الصحيحة. تحياتي


2 - الأستاذ عبد القادر أنيس الكاتب الكبير
فاتن واصل ( 2015 / 9 / 25 - 15:07 )
ممتنة لمرورك والتعليق الجميل، والحق أني كنت أتصوره عيباً في نظرتي للأمور، وكنت أتصور أن رؤيتي المتفحصة للتفاصيل المجهرية في حياتنا تجعلني أوصم بالتصيد ولكن صدقني أنا فعلا أرى في هذه الذرات التي يعج بها شعاع شمس متسرب لغرفة مظلمة حياة وربما عالم بأكمله.. ولكن اليوم مع تعليق حضرتك أصبحت بريئة أمام نفسي. أتمنى أن أستحق تلك المرتبة العالية والمسؤولية الكبيرة التي وضعتماني فيها الاستاذ صلاح وحضرتك. عميق الشكر.


3 - للشباب عيون الوله وللعجائز عيون السمك الفارغة
ليندا كبرييل ( 2015 / 9 / 30 - 17:45 )
الأستاذة فاتن واصل المحترمة

بعد غياب اضطراري أعود لأطالع ما فاتني من مقالات
أسعدني جدا أن تكون لك قصة قصيرة متميزة بعنوان متميز هو: وضع متميز

من العنوان نستشف مشاعر الحاجة بطلة القصة
من برا رخام(مستشفى استثماري فخم)ومن جوا سخام(الكآبة في كل شيء:الغرفة،العزلة،الوجه المنكمش،الابتسامات البلاستيكة...)

أرى أن وجود المريض في غرفة مشتركة عامل إيجابي،يرفع من معنويات الإنسان وهو يرى الآخرين في مصابهم، فيتخفف من شعوره أنه الوحيد الذي يعاني من الآلام
كذلك يحصل انجذاب إنساني تلقائي بين أفراد الغرفة الواحدة،يتطور إلى صداقات خلال النزهة في
الحديقة،أو أثناء تناول وجبات الطعام

شعور الوحدة الذي انتاب البطلة انعكس في حلم اليقظة،ثم امتد أثره إلى الحلم خلال النوم
ما فائدة الغرفة المتميزة والمريضة تعيش في كابوس العزلة ونفاق الابتسامات المدفوعة الأجر؟

أحسنت عزيزتي، ظننتك ستغيبين طويلا كما في كل مرة،بعد نشرك روايتك(والقلب يعشق سراً) فإذا بك تفاجئينا بإبداع جديد

أرجو أن نراك قريبا في عمل يحمل النفس الإنساني كما في كل مواضيعك الأدبية
لقطة من واقع مجتمعنا أحسنت جدا في رسمها بقلمك الرشيق

تفضلي تقديري


4 - الأستاذة ليندا كبرييل المحترمة
فاتن واصل ( 2015 / 9 / 30 - 19:50 )
الحمد على السلامة، نفتقد وجودك الفعال وروحك الجميلة ونقدك البناء دائما، نحن إنما نعيش في هذه الدنيا بدون قيمة إلا بمحبة وعطاء وتعاطف بعضنا لبعض .. ماذا ينفع المال حتى لو كان بقدر البحر ونحن نعاني من عدم وجود عين ترانا فيعجبها ما اشتريناه بالمال أو حتى لا يعجبها.. نحن ى نحس بوجودنا إلا لو هناك آخرون يشعرونا بهذا الوجود .. العزلة ليست الحل لمتاعبنا .. الرفقة الودودة هي الحل.
سحبتيني على أرضك صديقتي العزيزة وكنت لا أود أن أشرح ما رسمته في لوحتي ولكن إطراءك أغراني.. شكراً لمرورك الرائع وأتمنى أن أقرا لك قريبا مقال تمتعينا فيه بموضوعاتك الشيقة .

اخر الافلام

.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05


.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر




.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب