الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللاجئ والبحر

مصطفى حمدان
كاتب وشاعر

(Mustafa Hamdan)

2015 / 9 / 26
الادب والفن


اللاجئ والبحر
(1)
تنكمِشُ المساحات ، وتطوي تضاريس الأرض نفسها ، حتى تصبح اصغر مِن ان تأوي قليلاً مِن البشر
لَمْ يعُد هناك اسواراً للمدينة ، لتحميها مِن الموت ..مِن التفكك .. مِن الانهيار .. او الاحتضار
كل شيء بات مكشوف وواضح ، لنزوات أمراء الحروب ، ولعنة القدر
فأصبحت تُسمى مدن الخوف والظلام
يخرُج اليائسون البؤساء منها ، الى أي شيء بعيد عنها ، الى كل الجهات ، صوْب كل الطرق ، ليفلتوا مِن العقاب
مِن الجوع ، مِن الاعتقال
وما يحيط بهذه المدن مِن مرتفعات .. سوِيّت مع السهل ، ليمُر الموت ، وطوفان القتلة الى طريقه نحو مخادع الأطفال
الأيتام .. واللاجئين ، ليَستَل سيف الليل .. مِن غمد العتمة والصمت ، ويذبح آخر عنق بقيّ في المدينة
ويوأد صراخ الضحية ، ويهدِم المدينة على أهلها
هي اليابسة .. هي الأرض .. وما يدور فوقها .. وعليها
حرب حدود ، وحرب علَمْ ، حرب فصيل ونظام ، حرب جنرال وزعيم ، حرب أمير ورئيس
حرب نزوة ، وحرب نظرية ، حرب ديانة سماوية ، حرب الظالم والمظلوم ، حرب القاتل والضحية
جميعهم جاءوا للمدينة ، بسيوفهم .. بدباباتهم .. بصواريخهم ..بمعتقداتهم .. بأفكارهم
ليسحقوا المدينة ، ويهدِموا بيوتها ، ويعلِقون أهلها على حبال الطرق ، ويرفعوا العلَمْ
هي معركة الأنسان مع العدم .. معركة الأشخاص على لون العلَمْ

(2)

بعيدا عن الخوف .. قريبا مِن الموت
والبحر هادئاً نسبياً
خطوةٌ وخطوةٌ أخرى نحو البحر .. نحو الماء .. نحو أفق مجهول
وقارب صغير
لا يسَع لعائلة صغيرة في نزهة بحرية .. وقت الفراغ
قليلٌ مِن الطعام .. وكثيراً مِن البشر
وقارب صغير
أصغر مِن غرفة نوم طفل مرَفه
والبّحار مجهول الهوية .. لا يعرِف اللغات
وخمسون رأسٍ مِن البشر
حقائب .. وثائق .. ودموعٌ ويأس
على قارب صغير
اصغر مِن حجم دبابة ، او ناقلة جنود
قليلٌ مِن ماء الشُرب .. كثيراً مِن ماء البحر
والشمس تكْبُر وتلتهب
كثيرٌ مِن البكاء .. كثيرٌ مِن الصمت
هيّ الموج ، وجهل الملاح
والقارب اصغر حجماً مِن ان يحمِل بشراً بدل السمك
هيّ الريح ، وطمع السماسرة وتجار البحر
وعناد البحر ، وسذاجة المُبحِرين
بالأمس كان البحر هادئاً
ماذا حدث؟
ولماذا تعلوا الأمواج اكثر واكثر
ونحن بعيدين عن أي ارض .. عن ساحات المعركة
بعيدين عن اليابسة .. عن هدف القناصين
فهنا في البحر لا يوجد أفق .. لا يوجد سراب
هيّ غيوم بيضاء بعيدة ، ينتهي البحر على خاصرتها
لا طيور هنا .. لتُخبرنا بأن اليابسة قريبة
كل ما هو هنا
ماء كثيف ، أمواج عالية سريعة ، بحر غاضب .. وقارب صغير
اصغر مِن يَخْت أمير ثري .. في احدى نزواته البحرية
بكاء كثير .. صراخ كثير .. وقليل مِن الطعام والماء
وكثيراً مِن البشر

(3)

يا أمواج البحر
شُدي .. اسرعي .. وابتعدي .. وابعديني عن هنا
فلستُ املُك شيءً .. على تلك اليابسة
ولا حتى قبرٌ يأوي موتي .. عظامي .. وجثتي
يا بحر
اتركني لأحدد مصيري .. بين الماء واليابسة
لا تقطف الحياة مني .. ولا تبتلع جسدي
انا احتميت بك يا بحر
وتركتُ اليابسة خلفي .. ومدن الخراب
فلا تقسوا عليّ .. فأنا سئمتُ اليابسة .. وأحببت البحر
ودربت نفسي أن ابحرُ الى البعيد
ففي البحر لا يوجدُ حروب .. لا نزاع هنا البحر .. لا قتال واقتتال
لا حدود او علمْ
خذني يا بحر الى البعيد
وارفق في خطوتي نحوك
ودعَ الأمواج تحملني .. تأخذني بعيداً عن هنا
تقذفني في حضن .. مدينة تصلُح فيها الحياة
خذني الى شاطئ الأمان كما تتدعي
بعيداً عن هنا .. عن اليابسة
ولا تأخذ مني ما تبقى لي
فلستُ املكُ إلا الحياة

(4)

بحر كبير .. اكبر مِن اليابسة ، وأمواج تكبر .. تعلوا .. وتُسرِع نحوَنا .. كأننا الهدف
وقارب صغير
اصغر مِن صومعة معبَدْ
شِراعه أقصر مِن صليب كنيسة
وهيكله أضيق مِن مِحراب مسجد
قارب تاه بين الأمواج وبين السُحب
يزداد الريح ، وتكبُر الأمواج وتعلوا ، حتى بات القارب أصغر الأشياء في عرض البحر ، يطفوا على وجهه الماء
يصرُخ الملاح بلغة اجنبية ، وكأنه يشتم البحر والأمواج ، يحاول بكلتا يديه ، حيث بدى يائساً ان يقود عجلة التحكم بالقارب
يميناً وشمالاً كمَنْ يصارع ثور هائج في ساحة خالية
الرياح تأتي مِن كل الجهات ، لا صوت سوى صفير الريح وصراخ الناس ، والسماء بدت وكأنها اقرب الى الماء أكثر
يتأرجح القارب بين السماء والماء في آخر محاولة ان يصُد الريح ، تأتي موجة وتبتلع القارب وتقذفه رأساً على عقب
صراخ وبكاء ، الزوجة تنادي زوجها ، والطفل يصرخ وينادي امه ، يختلط البكاء مع الصراخ وبدأ يبتعد وكأنه صدى
يفلت طفل مِن بين ذراعيّ امه ، تصرخ ب أسمه ، وتلحقه إلى الماء
وأنا ما زلت اتثبت بحافة خشب مهترئة ، لم أعد اتنفس الهواء ، وبدأ الماء يدخل فمي ليعبئ رئتي
كم تمنيت لو اني كنت موجود عاري الصدر بين جيشين يتقاتلان ليأخذ صدري كل رصاص المعركة
اموت وانا اتنفس الهواء ، كم تمنيت ولو للحظة ان آخذ شيئاً من الهواء
لَمْ اعد أرى شيءً ، سوى ماء كثيف غامق اللون ، واجساد بشر حولي ترتطم ببعضها
لم يعُد هناك صراخ ، ولا بكاء ولا حركة
بدأ الضوء وكأنه بعيد ولا أرى سوى ظِل القارب المقلوب
عرفت لحظتها اني اهوي بالماء واني سأموت غريق ، وعرفت انه هذا مصيري
لم يكن في مخيلتي أي شيء سوى تلك اليابسة التي هربت منها لأنجو
وقبل ان تموت الذاكرة ، والمخيلة ، والنظرة الأخيرة ، تمتمت بيني وبين نفسي والموت
اللعنة عليكم جميعاً
كل ما كنت اريده هو .. أن أعيش بأمان وأن اموت بسلام .. على يابسة خالية مِن الحروب والعسكر
لعنكم الله لم أكُن أريد ان يكون هكذا مصيري
وانتهيت

مصطفى حمدان








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟