الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجسد إكتشاف إغريقي

فيء ناصر

2015 / 9 / 30
الادب والفن


كمال الجسد في منحوتات الحضارة الإغريقية، معرض في المتحف البريطاني

حين ولجتُ باب القاعة الأولى لمعرض )تعريف الجمال( في المتحف البريطاني، كأني دخلتُ الى عالم سحري لا يمت بأية صلة الى العالم خارج هذه القاعات، وكأنما بوابة مغارة جمال منسية قد فُتحت لزوار هذا المعرض المدهش.
يكشف هذا المعرض جذور الهوس المعاصر بجمال الجسد وفتوته وتناسق عضلاته في مجتمعاتنا الحديثة، حيث منحوتات الجمال الأغريقية تؤكد هذا الهوس التاريخي بالجسد وإبراز مفاتنه في جميع مراحل الحياة وفي شتى تفاصيلها.
150 عملاً فنياً بين فخاريات ومنحوتات من المرمر والبرونز بعضها من مقتنيات المتحف البريطاني وبعضها من مقتنيات شخصية، مثل تمثال أفروديت وهو من مقتنيات الملكة إليزابيث الثانية، وكذلك إستعارات من متاحف عديدة. كل الأعمال المعروضة إبتداءاً من القرن الخامس قبل الميلاد تؤكد قدرة الفنان الإغريقي على تغيير مفاهيم الجمال الجسدي، بل قدرته على القيام بثورة في تمثيل الجسد البشري بإعتباره جوهر ومجرى ديمقراطية أثينا (أول مجتمع ديمقراطي في العالم)، كان الإغريق يحتفون بالجسد البشري بتمثيل طبيعته الفطرية المثالية، العري الذكوري دليل على الصفاء والحكمة والقوة، فعندما يخلع رجل إغريقي ثيابه في حلبة المصارعة أو حلبة الألعاب الرياضية فأنه يرتدي لباس الصالحين والمكتملين. ونتيجة لهذه الفطرة الإغريقية التي تنشد الكمال، التجرد من الثياب بالطبع، وهذا جليّ في منحوتات المعرض التي تبرهن هذا السلوك الإغريقي الإستثنائي والأصيل لتمثيل الجسد الذكوري فنياً وبخلاف كل الحضارات القديمة الأخرى مثل الحضارة الآشورية والفرعونية التي تقرن العري بالخزي والإستكانة والخضوع، كان الإغريق يقرنون العري الكامل بالبطولة والتباه والنضوج الإنساني والإستعداد للحرب. لذا فأن التقييم الجمالي للجسد في عصرنا الراهن يرتكز ويستلهم قيمه من منحوتات الفن الإغريقي المرمرية والبرونزية وفخارياته التي أصابت زوار المعرض بالدهشة لدرجة الإتقان التي تمتع بها الفنان الاغريقي وكذلك أفق الحرية المشرّع لفكره وفنه بلا حدّ، لكي يبدع هكذا منحوتات . الإنسان هو مركز العالم في الحضارة الإغريقية وهو حر بإختياراته وفكره وجسده خير تمثيل لهذه الحرية، وكما قال بروتاغوراس الفيلسوف الشكاك اليوناني:( إن الإنسان هو مقياس كل شئ، الموجود وغير الموجود).
أبرز منحوتات المعرض هي:
إفروديت الرابضة وهي تتأهب لحمامها، التمثال بحجم أكبر من الحقيقي، يعود تاريخه الى القرن الثاني الميلادي وهو تقليد روماني للأصل الإغريقي. التمثال من المقتنيات الشخصية للملكة إليزابيث الثانية. أول تمثال يفتح مغارة الجمال الإغريقي ، إفروديت التي تعطي ظهرها لزوار المعرض، تجعل من يقترب منها يشعر بروعة هذه القطعة الفنية وإستثنائيتها، كأنه يقع في خطر الإقتراب من آلهة الجمال، ظهرها الصقيل المسطح ورأسها المائل بنظرة قوية من فوق كتفها الأيمن وذراعها اليمنى تستلقي فوق كتفها الأيسر، كأنها تستفز جميع حواسنا وتغوينا بالإقتراب، فندور حولها عدة مرات نتأمل دقة وبراعة النحت الإغريقي، هذه المنحوتة تغوي بالترحيب لكن بعد تفحص لملامحها ندرك إن نظرتها تحذيرية وليست ترحيبية.
في القاعة الأولى أيضاً يستقبلنا تمثال إغريقي برونزي بالحجم الطبيعي لمبارز عارٍ بالحجم الطبيعي ينظف جسده بأدة معدنية بعد التمرينات الرياضية وقبل الإستحمام، إنتُشلَ هذا التمثال عام 1999من البحر على ساحل مدينة (لوشين/ Loš-;-inj) في كرواتيا وهو يعرض لأول مرة في المملكة المتحدة.
تمثال لإله النهر ( نهر إيلسيز/ Ilissos) يعود تاريخه الى (438-432) وهو أحد تماثيل معبد البارثينون في إكروبوليس أثينا، وهو تمثال إغريقي أصيل على خلاف أغلب منحوتات المعرض الأخرى التي هي نسخ رومانية عن الأصل الإغريقي المفقود. تمثال بلا رأس، مكتمل الفتوة مستلق كأنه يريد رفع نفسه على صخرة، حركة الجسد والعضلات خير تمثيل على إنسياب الماء وموج النهر المرواغ . من يقترب من هذا التمثال، يستنشق حيويته، نحت عجيب، رشيق ولدن من مرمر بارد، حُوِلَ الى جسد مشدود ينز حيوية ودفء وينزلق من ذراعه ردائه الذي يتحول الى موجات مياه منسابة للناظر اليه من الخلف.
تمثال من البرونز ل (زيوس) كبير آلهة الأولمب بإرتفاع عشرين سنتمتر يعود تاريخه بين القرنين الأول والثاني الميلادي، هذه المنحوتة قطعة إستثنائية غنية التفاصيل فهي تصور زيوس بجسد مفتول العضلات وبملامح قائد حكيم وشعر كث، يحمل صولجاناً ويجلس على قاعدة نحاسية مع أيحاء إيروتيكي لجمال الجسد الذكوري. التمثال من مقتنيات المتحف البريطاني وقبل ذلك كان من مقتنيات الفنان الفرنسي دومينيك فيفان دينون أول مدير لمتحف اللوفر.
تمثال لفتى رياضي يعود تاريخه الى القرن الأول الميلادي وهو من مقتنيات المتحف البريطاني وهو تمثيل لفكرة التناغم بين الجمال الجسدي والحكمة الإخلاقية والإنغماس بتساؤلات الوجود. هذا التمثال هو نسخة عن الأصل الإغريقي الذي يعود تاريخه الى زمن سقراط، يخيل لي إن هذا الفتى الحالم أحد تلامذة المعلم سقراط، يغرق في تساؤلاته بعد مجادلة مع معلمه. العري في هذه التماثيل يبتعد تماماً عن الإيروتيكية، فهو فضيلة العودة الى الذات وإرتداء الجسد المجرد وهذا واضح جداً من خلال ضمور الأعضاء الجنسية.
بخلاف العري الذكوري، كانت النساء الإغريقيات يرتدين الملابس الشفافة غالباً والتي تحكي عن الجسد وتوحي به أكثر مما تظهره، وهذا ما سيلاحظه الزائر حينما يقترب من تمثال الراقصة وهو تمثال برونزي باذخ التفاصيل لراقصة ملثمة وبرداء فضفاض لكن إنحناءات الجسد والرداء فوقه تظهر دقة ورهافة النحات الإغريقي، الرداء الفضاض على الجسد الإنثوي له دلالات إيروتيكية صريحة على خلاف العري الذكوري.
منحوتة لجذع بشري من مقتنيات متحف الفاتيكان والتي يعود تاريخها الى القرن الأول قبل الميلاد، ويعتقد إنه يمثل جذع البطل الإغريقي هرقل، كان لهذا التمثال تأثير كبير على مايكل إنجلو نحات عصر النهضة الإيطالي حينما طلب البابا منه تكملة الجذع بإضافة رأس وذراعين، لكن مايكل إنجلو رفض لأنه إعتقد إن التمثال مكتمل بشكل لا يضاهى بوضعه الحالي وهو يحوز كل المفاهيم المثالية لفن النحت الإغريقي، وقد إستلهم مايكل إنجو هذا التمثال الإغريقي في لوحته (خلق آدم).
تمثالان صغيران لسقراط ، تمثال لإله النبيذ ديونيس يجتمع فيه بالتساوي جمال الذكر والإنثى، ورأس مرمي للإسكندر المقدوني وفخاريات وأقداح نبيذ مختلفة الأشكال منقوشة من خارجها وباطنها. جمع هذا المعرض منحوتات خالدة لأعظم الفنانين الإغريق مثل فيدس وميرون وبوليكيتوس، كان لها أعظم الأثر على فناني عصر النهضة وما تزال تشيع الجمال والفن لكل من يراها. شخصياً شعرت انني أكثر ذكاءاً وجمالاً عند إنتهاء زيارتي للمعرض بل إن هذه التماثيل والفخاريات العجيبة جعلتني أكثر فطنة وإحساساً بجمال الجسد الإنساني والذكوري خاصة، وأحسب إن جميع الزائرين إنتابهم ذات الإحساس.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي


.. تسجيل سابق للأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن يلقي فيه أبيات من




.. الفنانة غادة عبد الرازق العيدية وكحك العيد وحشونى وبحن لذكري


.. خلال مشهد من -نيللى وشريهان-.. ظهور خاص للفنانة هند صبرى واب




.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس